فامتثل أمر ربه ، وجعل يصنع الفلك { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ } ورأوا ما يصنع { سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا } الآن { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } نحن أم أنتم . وقد علموا ذلك ، حين حل بهم العقاب .
{ ويصنع الفلك } حكاية حال ماضية . { وكلما مرّ عليه ملأٌ من قومه سخروا منه } استهزؤوا به لعمله السفينة فإنه كان يعملها في برية بعيدة من الماء أوان عزته ، وكانوا يضحكون منه ويقولون له : صرت نجارا بعدما كنت نبيا . { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . وقيل المراد بالسخرة الاستجهال .
التقدير : فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال ، إذ في خلالها وقع مرورهم ، قال ابن عباس : صنع نوح الفلك بيفاع دمشق{[6330]} وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشاذ وهو البقص{[6331]} . وروي أن عودها من الساج وأن نوحاً عليه السلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة ؛ وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان ، وعرضها ستمائة ذراع ، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل : طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، ذكره قتادة ، وروي غير هذا مما لم يثبت ، فاختصرت ذكره ، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات : طبقة للناس ، وطبقة للبهائم ، وطبقة للطير ، إلى غير ذلك في حديث طويل{[6332]} .
و «الملأ » هنا الجماعة ، و { سخروا } معناه استجهلوه ، وهذا الإستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت - فوجه الإستجهال واضح . وبذلك تظاهرت التفاسير ؛ وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له : صرت نجاراً بعد النبوة ؟ ! ! .
وقوله { فإنا نسخر منكم } قال الطبري : يريد في الآخرة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل الكلام ، بل هو الأرجح ، أن يريد : إنا نسخر منكم الآن ، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه .
عطف على جملة { واصنع الفلك } [ هود : 37 ] ، أي أوحي إليه { اصنع الفلك } ، وصَنَع الفلك . وإنما عبر عن صنعه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة لتخييل السامع أن نوحاً عليه السلام بصدد العمل ، كقوله : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] وقوله : { يجادلنا في قوم لوطٍ } [ هود : 74 ] وجملة { وكلما مر عليه ملأ } في موضع الحال من ضمير { يصنع } .
و { كلّما } كلمة مركبة من ( كل ) و ( ما ) الظرفية المصدرية ، وانتصبت ( كل ) على الظرفية لأنها اكتسبت الظرفية بالإضافة إلى الظرف ، وهو متعلّق { سخروا } ، وهو جوابه من جهة أخرى . والمعنى : وسَخر منه ملأ من قومه في كل زمن مرورهم عليه .
و ( لما ) في ( كلما ) من العموم مع الظرفية أشربت معنى الشرط مثل ( إذا ) فاحتاجت إلى جواب وهو { سَخروا منه } .
وجملة { قال إن تسخروا منا } حكاية لما يجيب به سخريتهم ، أجريت على طريقة فعل القول إذا وقع في سياق المحاورة ، لأن جملة { سخروا } تتضمن أقوالاً تنبني عن سخريتهم أو تبين عن كلام في نفوسهم .
وجمع الضمير في قوله : { مِنّا } يشير إلى أنهم يسخرون منه في عمل السفينة ومن الذين آمنوا به إذْ كانوا حَوله واثقين بأنه يعمل عَملاً عظيماً ، وكذلك جمعه في قوله : { فإنّا نسخر منكم } .
والسخرية : الاستهزاء ، وهو تعجب باحتقار واستحماق . وتقدم عند قوله تعالى : { فحَاق بالذين سَخروا منهم } في أول سورة [ الأنعام : 10 ] ، وفعلها يتعدى ب ( من ) .
وسخريتهم منه حمل فعله على العبث بناء على اعتقادهم أن ما يصنعه لا يأتي بتصديق مدعاه .
وسخرية نوح عليه السلام والمؤمنين ، من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته . فالسخريتان مقترنتان في الزمن .
وبذلك يتضح وجه التشبيه في قوله : { كما تسخرون } فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية ، وإن كان بين السببيْن بَون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.