{ 19-25 } { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى }
لما ذكر تعالى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، والأمر بعبادة الله وتوحيده ، ذكر بطلان ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء ، ولا تنفع ولا تضر ، وإنما هي أسماء فارغة عن المعنى ، سماها المشركون هم وآباؤهم الجهال الضلال ، ابتدعوا لها من الأسماء الباطلة التي لا تستحقها ، فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من الضلال ، فالآلهة التي بهذه الحال ، لا تستحق مثقال ذرة من العبادة ، وهذه الأنداد التي سموها بهذه الأسماء ، زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها ، فسموا " اللات " من " الإله " المستحق للعبادة ، و " العزى " من " العزيز "
{ أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } هي أصنام كانت لهم ، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها أي يطوفون . وقرأ هبة الله عن البزي ورويس عن يعقوب " اللات " بالتشديد على أنه سمي به لأنه صورة رجل كان يلت السويق بالسمن ويطعم الحاج . { والعزى } بالتشديد سمرة لغطفان كانوا يعبدونها فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، وأصلها تأنيث الأعز { ومناة } صخرة كانت لهذيل وخزاعة أو لثقيف وهي فعلة من مناة إذا قطعه فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين ومنه منى . وقرأ ابن كثير { مناة } وهي مفعلة من النوء فإنهم كانوا يستمطرون الأنواء عندها تبركا بها ، وقوله { الثالثة الأخرى } صفتان للتأكيد كقوله تعالى : { يطير بجناحيه } أو { الأخرى } من التأخر في الرتبة .
قوله تعالى : { أفرأيتم } مخاطبة لقريش ، وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئية ، ولو كانت : أرأيت : التي هي استفتاء لم تتعد . ولما فرغ من ذكر عظمة الله وقدرته ، قال على جهة التوقيف : أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات العلية و : { اللات } اسم صنم كانت العرب تعظمه ، قال أبو عبيدة وغيره : كان في الكعبة ، وقال قتادة : كان بالطائف . وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ ، وقول قتادة أرجح يؤيده قول الشاعر : [ المتقارب ]
وفرّت ثقيف إلى لاتها*** بمنقلب الخائب الخاسر{[10703]}
والتاء في : { اللات } لام فعل كالباء من باب ، وقال قوم هي تاء تأنيث ، والتصريف يأبى ذلك ، وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح : «اللاّت » بشد التاء ، وقالوا : كان هذا الصنم حجراً وكان عنده رجل من بهز يلت سويق الحاج على ذلك الحجر ويخدم الأصنام ، فلما مات عبدوا الحجر الذي كان عنده إجلالاً لذلكا لرجل وسموه باسمه ، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير وابن عامر{[10704]} ، { والعزى } : صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها ، قاله سعيد بن جبير وقال ابن مجاهد : كانت شجيرات تعبد ثم ببلاها انتقل أمرها إلى صخرة . و «عزى » مؤنثة عزيز ككبرى وعظمى{[10705]} ، وكانت هذه الأوثان تعظم الوثن منها قبيلة وتعبدها ، ويجيء كل من عز من العرب فيعظمها بتعظيم حاضرها . وقال أبو عبيدة معمر : كانت { العزى } { ومناة } في الكعبة ، وقال ابن زيد : وكانت { العزى } بالطائف ، وقال قتادة : كانت بنخلة .
لما جرى في صفة الوحي ومشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ما دل على شؤون جليلة من عظمة الله تعالى وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وشرف جبريل عليه السلام إذ وصف بصفات الكمال ومنازل العزة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعروج في المنازل العليا ، كان ذلك مما يثير موازنة هذه الأحوال الرفيعة بحال أعظم آلهتهم الثلاث في زعمهم وهي : اللاتُ ، والعزَّى ، ومناةُ التي هي أحجار مقرّها الأرض لا تملك تصرفاً ولا يعرج بها إلى رفعة . فكان هذا التضاد جامعاً خيالياً يقتضي تعقيب ذكر تلك الأحوال بذكر أحوال هاته .
فانتقل الكلام من غرض إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم موحىً إليه بالقرآن ، إلى إبطال عبادة الأصنام ، ومناط الإِبطال قوله : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان } .
فالفاء لتفريع الاستفهام وما بعده على جملة { أفتمارونه على ما يرى } [ النجم : 12 ] المفرعة على جملة { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] .
والروية في { أفرأيتم } يجوز أن تكون بَصَرية تتعدّى إلى مفعول واحد فلا تطلب مفعولاً ثانياً ويكون الاستفهام تقريرياً تهكمياً ، أي كيف ترون اللات والعزّى ومناةَ بالنسبة لما وصف في عظمة الله تعالى وشرف ملائكته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا تهكم بهم وإبطال لإِلهية تلك الأصنام بطريق الفحوى ، ودليله العيان . وأكثر استعمال « أرأيت » أن تكون للرؤية البصرية على ما اختاره رضيّ الدين .
وتكون جملة { ألكم الذكر } الخ استئنافاً وارتقاء في الرد أو بَدلَ اشتمال من جملة { أفرأيتم اللات والعزى } لأن مضمونها مما تشتمل عليه مزاعمهم ، كانوا يزعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله كما حكى عنهم ابن عطية وصاحب « الكشاف » وسياق الآيات يقتضيه .
ويجوز أن تكون الرؤية علمية ، أي أزعمتم اللات والعزى ومناةَ ، فحذف المفعول الثاني اختصاراً لدلالة قوله : { ألكم الذكر وله الأنثى } عليه ، والتقدير : أزعمتموهن بنات الله ، أتجعلون له الأنثى وأنتم تبتغون الأبناء الذكور ، وتكون جملة { ألكم الذكر } الخ بياناً للإِنكار وارتقاء في إبطال مزاعمهم ، أي أتجعلون لله البنات خاصة وتغتبطون لأنفسكم بالبنين الذكور .
وجعل صاحب « الكشْف » قوله : { ألكم الذكر وله الأنثى } سادًّا مسدَّ المفعول الثاني لفعل « أرأيتم » .
وأيضاً لما كان فيما جرى من صفة الوحي ومنازل الزلفى التي حظي بها النبي صلى الله عليه وسلم وعظمة جبريل إشعار بسعة قدرة الله تعالى وعظيم ملكوته مما يسجِّل على المشركين في زعمهم شركاء لله أصناماً مثل اللات والعزى ومناة .
فسادَ زعمهم وسفاهة رأيهم أعقب ذكر دلائل العظمة الإِلهية بإبطال إلهية أصنامهم بأنها أقل من مرتبة الإِلهية إذ تلك أوهام لا حقائق لها ولكن اخترعتها مُخيّلات أهل الشرك ووضعوا لها أسماء ما لها حقائق ، ففرّع { أفرأيتم اللات والعزى } الخ فيكون الاستفهام تقريرياً إنكاريًّا ، والرؤية علميةَ والمفعول الثاني هو قوله : { إن هي إلا أسماء سميتموها } .
وتكون جملة { ألكم الذكر وله الأنثى } الخ معترضة بين المفعولين للارتقاء في الإِنكار ، أي وزعمتوهن بنات لله أو وزعمتم الملائكة بنات لله .
وهذه الوجوه غير متنافية فنحملها على أن جميعها مقصود في هذا المقام .
ولك أن تجعل فعل « أرأيتم » { على اعتبار الرؤية علمية } معلّقاً عن العمل لوقوع { إنْ } النافية بعده في قوله : { إن هي إلا أسماء سميتموها } وتجعل جملة { ألكم الذكر وله الأنثى } إلى قوله : { ضيزى } اعتراضاً .
واللاتُ : صنم كان لثقيف بالطائف ، وكانت قريش وجمهور العرب يعبدونه ، وله شهرة عند قريش ، وهو صخرة مربعة بنوا عليها بناء . وقال الفخر : « كان على صورة إنسان ، وكان في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى » كذا قال القرطبي فلعل المسجد كانت له منارتان .
والألف واللام في أول { اللات } زائدتان . و { ال } الداخلة عليه زائدة ولعل ذلك لأن أصله : لاَتْ ، بمعنى معبود ، فلما أرادوا جعله علماً على معبود خاص أدخلوا عليه لام تعريف العهد كما في { الله } فإن أصله إله . ويوقف عليه بسكون تائه في الفصحى .
وقرأ الجمهور : { اللات } بتخفيف المثناة الفوقية . وقرأه رويس عن يعقوب بتشديد التاء وذلك لغة في هذا الاسم لأن كثيراً من العرب يقولون : أصل صخرته موضع كان يجلس عليه رجل في الجاهلية يلتّ السويق للحاج فلما مات اتخذوا مكانه معبداً .
و { العُزى } : فُعلَي من العِزّ : اسم صنم حجر أبيض عليه بناء وقال الفخر : « كان على صورة نبات » ولعله يعني : أن الصخرة فيها صورة شجر ، وكان ببطن نخلة فوق ذات عرق وكان جمهور العرب يعبدونها وخاصة قريش وقد قال أبو سفيان يوم أُحد يخاطب المسلمين « لنا العزى ولا عزى لكم » .
وذكر الزمخشري في تفسير سورة الفاتحة أن العرب كانوا إذا شَرعوا في عمل قالوا : بسم اللات باسم العزى .