بسم الله الرحمن الرحيم عم يتساءلون أصله عما فحذف الألف لما مر ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه كأنه لفخامته خفي جنسه فيسأل عنه والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم أو يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنه استهزاء كقولهم يتداعونهم ويتراءونهم أي يدعونهم ويرونهم أو للناس .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة النبأ وهي مكية بإجماع وليس فيها نسخ ولا حكم إلا ما قاله بعض الناس في قوله تعالى ‘ لابثين فيها أحقابا ‘ النبأ 23 من أنه منسوخ وهو قول خلف لأن الأخبار لا تنسخ وإنما ذكرنا هذا القول تنبيها على فساده
أصل { عم } «عن ما » ، ثم أدغمت النون بعد قلبها فبقي «عما » في الخبر والاستفهام ، ثم حذفوا الألف في الاستفهام فرقاً بينه وبين الخبر ، ثم من العرب من يخفف الميم تخفيفاً فيقول : «عم » ، وهذا الاستفهام ب { عم } هو استفهام توقيف وتعجب منهم ، وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود وعكرمة وعيسى : «عما » بالألف ، وقرأ الضحاك : «عمه » بهاء ، وهذا إنما يكون عند الوقف .
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة { سورة النبإ } لوقوع كلمة { النبأ } في أولها .
وسميت في بعض المصاحف وفي صحيح البخاري وفي تفسير ابن عطية والكشاف { سورة عم يتساءلون } . وفي تفسير القرطبي سماها { سورة عم } ، أي بدون زيادة { يتساءلون } تسمية لها بأول جملة فيها .
وتسمى { سورة التساؤل } لوقوع { يتساءلون } في أولها . وتسمى { سورة المعصرات } لقوله تعالى فيها { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا } . فهذه خمسة أسماء . واقتصر الإتقان على أربعة أسماء : عم ، والنبأ ، والتساؤل ، والمعصرات .
وعدت السورة الثمانين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة المعارج وقبل سورة النازعات .
وفي ما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث ، روي عن ابن عباس كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت { عم يتساءلون } .
وعن الحسن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } يعني الخبر العظيم .
وعد آيها أصحاب العدد من أهل المدينة والشام والبصرة أربعين . وعدها أهل مكة وأهل الكوفة إحدى وأربعين آية .
اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم ، ومع ذلك إثبات البعث ، وسؤال بعضهم بعضا عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه .
وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي من أعظم من خلق الإنسان بعد موته وبالخلق الأول للإنسان وأحواله .
ووصف الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين .
وصفة يوم الحشر إنذارا للذين جحدوا به والإيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث .
وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس .
افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم ، افتتاح تشويققٍ ثم تهويل لما سيذكر بعده ، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ومن تشويق بطريقة الإِجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن .
وإذ كان هذا الافتتاح مؤذناً بعظيم أمر كان مؤذناً بالتصدي لقول فصللٍ فيه ، ولمّا كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضُهم يومئذ يُجعل افتتاحَ الكلام به من براعة الاستهلال .
ولفظ { عم } مركب من كلمتين هما حرف ( عن ) الجار و ( مَا ) التي هي اسم استفهام بمعنى : أيّ شيء ، ويتَعلق { عم } بفعل { يتساءلون } فهذا مركب . وأصل ترتيبه : يتسَآءلون عَنْ ما ، فقدم اسم الاستفهام لأنه لا يقع إلا في صدر الكلام المستفهم به ، وإذ قد كان اسم الاستفهام مقترناً بحرف الجر الذي تعدى به الفعل إلى اسم الاستفهام وكان الحرف لا ينفصل عن مجروره قُدِّما معاً فصار { عَمَّا يتساءلون } .
وقد جرى الاستعمال الفصيح على أن ( ما ) الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر يحذف الألف المختومة هي به تفرقةً بينها وبين ( مَا ) الموصولة .
وعلى ذلك جرى استعمال نُطقهم ، فلما كتبوا المصاحف جروا على تلك التفرقة في النطق فكتبوا ( ما ) الاستفهامية بدون ألف حيثما وقعت مثل قوله تعالى : { فيم أنت من ذكراها } [ النازعات : 43 ] { فبم تبشرون } [ الحجر : 54 ] { لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] { عم يتساءلون } { مم خلق } [ الطارق : 5 ] فلذلك لم يقرأها أحد بإثبات الألف إلا في الشاذّ .
ولما بقيت كلمة ( ما ) بعد حذف ألفها على حرف واحد جَرَوْا في رسم المصحف على أن ميمها الباقية تكتب متصلة بحرف ( عن ) لأن ( مَا ) لما حذف ألفها بقيت على حرف واحد فأشبه حروف التهجّي ، فلما كان حرف الجر الذي قبل ( ما ) مختوماً بنون والتقتِ النون مع ميم ( مَا ) ، والعرب ينطقون بالنون الساكنة التي بعدها ميم ميماً ويدغمونها فيها ، فلما حذفت النون في النطق جرى رسمهم على كتابة الكلمة محذوفة النون تبعاً للنطق ، ونظيره قوله تعالى : { مِمَّ خلق } وهو اصطلاح حسن .
والتساؤل : تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل ، وتَرد كثيراً لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم : سَاءَلَ ، بمعنى : سأل ، قال النابغة :
أُسائل عن سُعدَى وقد مرَّ بعدنا *** على عَرصات الدار سبع كوامل
يَا أيُّها الراكب المزجي مطيته *** سَائِلْ بني أسد ما هذه الصوت
وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم : عافاك الله ، وذلك إما كناية أو مجاز ومَحملهُ في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح ، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه .
فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضاً سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ثم استقر أمرهم على الإِنكار .
ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه على طريقة استعمال فعل ( يحذر ) في قوله تعالى : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة } [ التوبة : 64 ] فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء .
وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين يُرجَّحُ كلُّ فريق ما ذهب إليه . والوجه حمل الآية على كلتيهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب ، فعن ابن عباس : « لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم فمنهم مصدق ومنهم مكذب » .
وعن الحسن وقتادة مثل قول ابن عباس ، وقيل : هو سؤال استهزاء أو تعجب وإنما هم موقنون بالتكذيب .
فأما التساؤل الحقيقي فأنْ يَسْأَل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ فيسأل المسؤولُ سائله سؤالاً عن حال آخرَ من أحوال النبأ ، إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غيرُ الذي خطر للآخر فيسأل سؤال مستثبت ، أو سؤال كشف عن معتقَده ، أو ما يُوصَف به المخبر بهذا النبأ كما قال بعضهم لبعض : { أفْتَرى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 8 ] وقال بعض آخر : { أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمُخرَجون } إلى قوله : { إنْ هذا إلا أساطير الأولين } [ النمل : 67 ، 68 ] .
وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضاً عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء فيقول أحدهم : هل بلغك خبر البعث ؟ ويقول له الآخر : هل سمعتَ ما قال ؟ فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة وقصدُهم منه غير حقيقي بل تهكمي .
والاستفهام بما في قوله : { عم يتساءلون } ليس استفهاماً حقيقياً بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى : { هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين } [ الشعراء : 221 ] .
والموجَّه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين .
وضمير { يتساءلون } يجوز أن يكون ضميرَ جماعة الغائبين مراداً به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره ، وإشاراته المبهمة ، كالضمير في قوله تعالى : { حتى توارتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] ( يعني الشمس ) { كلا إذا بلغتْ التراقيَ } [ القيامة : 26 ] ( يعني الروح ) ، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات فالضمير ضميرُ جماعة المخاطبين .