{ 6 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ْ }
هذه آية عظيمة قد اشتملت على أحكام كثيرة ، نذكر منها ما يسره الله وسهله .
أحدها : أن هذه المذكورات فيها امتثالها والعمل بها من لوازم الإيمان الذي لا يتم إلا به ، لأنه صدرها بقوله { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ْ } إلى آخرها . أي : يا أيها الذين آمنوا ، اعملوا بمقتضى إيمانكم بما شرعناه لكم .
الثاني : الأمر بالقيام بالصلاة لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ }
الثالث : الأمر بالنية للصلاة ، لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ } أي : بقصدها ونيتها .
الرابع : اشتراط الطهارة لصحة الصلاة ، لأن الله أمر بها عند القيام إليها ، والأصل في الأمر الوجوب .
الخامس : أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت ، وإنما تجب عند إرادة الصلاة .
السادس : أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة ، من الفرض والنفل ، وفرض الكفاية ، وصلاة الجنازة ، تشترط له الطهارة ، حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء ، كسجود التلاوة والشكر .
السابع : الأمر بغسل الوجه ، وهو : ما تحصل به المواجهة من منابت شعر الرأس المعتاد ، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا . ومن الأذن إلى الأذن عرضا .
ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق ، بالسنة ، ويدخل فيه الشعور التي فيه . لكن إن كانت خفيفة فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة ، وإن كانت كثيفة اكتفي بظاهرها .
الثامن : الأمر بغسل اليدين ، وأن حدهما إلى المرفقين و " إلى " كما قال جمهور المفسرين بمعنى " مع " كقوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ْ } ولأن الواجب لا يتم إلا بغسل جميع المرفق .
العاشر : أنه يجب مسح جميعه ، لأن الباء ليست للتبعيض ، وإنما هي للملاصقة ، وأنه يعم المسح بجميع الرأس .
الحادي عشر : أنه يكفي المسح كيفما كان ، بيديه أو إحداهما ، أو خرقة أو خشبة أو نحوهما ، لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة ، فدل ذلك على إطلاقه .
الثاني عشر : أن الواجب المسح . فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم يكف ، لأنه لم يأت بما أمر الله به .
الثالث عشر : الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين ، ويقال فيهما ما يقال في اليدين .
الرابع عشر : فيها الرد على الرافضة ، على قراءة الجمهور بالنصب ، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين .
الخامس عشر : فيه الإشارة إلى مسح الخفين ، على قراءة الجر في { وأرجلكم ْ }
وتكون كل من القراءتين ، محمولة على معنى ، فعلى قراءة النصب فيها ، غسلهما إن كانتا مكشوفتين ، وعلى قراءة الجر فيها ، مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف .
السادس عشر : الأمر بالترتيب في الوضوء ، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة .
ولأنه أدخل ممسوحا -وهو الرأس- بين مغسولين ، ولا يعلم لذلك فائدة غير الترتيب .
السابع عشر : أن الترتيب مخصوص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية .
وأما الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه ، أو بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين ، فإن ذلك غير واجب ، بل يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه ، وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين والرجلين ، وتقديم مسح الرأس على مسح الأذنين .
الثامن عشر : الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة ، لتوجد صورة المأمور به .
التاسع عشر : الأمر بالغسل من الجنابة .
العشرون : أنه يجب تعميم الغسل للبدن ، لأن الله أضاف التطهر للبدن ، ولم يخصصه بشيء دون شيء .
الحادي والعشرون : الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة .
الثاني والعشرون : أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر ، ويكفي من هما عليه أن ينوي ، ثم يعمم بدنه ، لأن الله لم يذكر إلا التطهر ، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء .
الثالث والعشرون : أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناما ، أو جامع ولو لم ينزل .
الرابع والعشرون : أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللا ، فإنه لا غسل عليه ، لأنه لم تتحقق منه الجنابة .
الخامس والعشرون : ذكر مِنَّة الله تعالى على العباد ، بمشروعية التيمم .
السادس والعشرون : أن من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره غسله بالماء ، فيجوز له التيمم .
السابع والعشرون : أن من جملة أسباب جوازه ، السفر والإتيان من البول والغائط إذا عدم الماء ، فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به ، وباقيها يجوزه العدم للماء ولو كان في الحضر .
الثامن والعشرون : أن الخارج من السبيلين من بول وغائط ، ينقض الوضوء .
التاسع والعشرون : استدل بها من قال : لا ينقض الوضوء إلا هذان الأمران ، فلا ينتقض بلمس الفرج ولا بغيره .
الثلاثون : استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به{[255]} لقوله تعالى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ ْ }
الحادي والثلاثون : أن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض للوضوء .
الثاني والثلاثون : اشتراط عدم الماء لصحة التيمم .
الثالث والثلاثون : أن مع وجود الماء ولو في الصلاة ، يبطل التيمم لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء .
الرابع والثلاثون : أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء ، فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه ، لأنه لا يقال " لم يجد " لمن لم يطلب .
الخامس والثلاثون : أن من وجد ماء لا يكفي بعض طهارته ، فإنه يلزمه استعماله ، ثم يتيمم بعد ذلك .
السادس والثلاثون : أن الماء المتغير بالطاهرات ، مقدم على التيمم ، أي : يكون طهورا ، لأن الماء المتغير ماء ، فيدخل في قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ْ }
السابع والثلاثون : أنه لا بد من نية التيمم لقوله : { فَتَيَمَّمُوا ْ } أي : اقصدوا .
الثامن والثلاثون : أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره . فيكون على هذا ، قوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ْ } إما من باب التغليب ، وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين ، وإما أن يكون إرشادا للأفضل ، وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فهو أولى .
التاسع والثلاثون : أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس ، لأنه لا يكون طيبا بل خبيثا .
الأربعون : أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط ، دون بقية الأعضاء .
الحادي والأربعون : أن قوله : { بِوُجُوهِكُمْ ْ } شامل لجميع الوجه وأنه يعممه{[256]} بالمسح ، إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف ، وفيما تحت الشعور ، ولو خفيفة .
الثاني والأربعون : أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط ، لأن اليدين عند الإطلاق كذلك .
فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده الله بذلك ، كما قيده في الوضوء .
الثالث والأربعون : أن الآية عامة في جواز التيمم ، لجميع الأحداث كلها ، الحدث الأكبر والأصغر ، بل ولنجاسة البدن ، لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء ، وأطلق في الآية فلم يقيد [ وقد يقال أن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في الأحداث وهو قول جمهور العلماء ]{[257]}
الرابع والأربعون : أن محل التيمم في الحدث الأصغر والأكبر واحد ، وهو الوجه واليدان .
الخامس والأربعون : أنه لو نوى مَنْ عليه حدثان التيمم عنهما ، فإنه يجزئ أخذا من عموم الآية وإطلاقها .
السادس والأربعون : أنه يكفي المسح بأي شيء كان ، بيده أو غيرها ، لأن الله قال { فامسحوا ْ } ولم يذكر الممسوح به ، فدل على جوازه بكل شيء .
السابع والأربعون : اشتراط الترتيب في طهارة التيمم ، كما يشترط ذلك في الوضوء ، ولأن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين .
الثامن والأربعون : أن الله تعالى -فيما شرعه لنا من الأحكام- لم يجعل علينا في ذلك من حرج ولا مشقة ولا عسر ، وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم ، وليتم نعمته عليهم .
وهذا هو التاسع والأربعون : أن طهارة الظاهر بالماء والتراب ، تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد ، والتوبة النصوح .
الخمسون : أن طهارة التيمم ، وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة ، فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى .
الحادي والخمسون : أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحِكَم والأسرار في شرائع الله ، في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلما ، ويزداد شكرا لله ومحبة له ، على ما شرع من الأحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة .
قال كثيرون من السلف : قوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } معناه وأنتم مُحْدِثون .
وقال آخرون : إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ، وكلاهما قريب .
وقال آخرون : بل المعنى أعم من ذلك ، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ، ولكن هو في حق المحدث على سبيل الإيجاب ، وفي حق المتطهر على سبيل الندب والاستحباب . وقد قيل : إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ .
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن عَلْقَمَة بن مرثد ، عن سليمان بن بُرَيْدة{[9218]} عن أبيه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه ، وصلى الصلوات بوضوء واحد . فقال له عمر : يا رسول الله ، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله ؟ قال : " إني عمدًا فعلته يا عمر .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد{[9219]} ووقع في سنن ابن ماجه ، عن سفيان عن محارب بن دِثَار - بدل علقمة بن مرثد - كلاهما عن سليمان بن بُريدة{[9220]} به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي ، حدثنا الفضل بن المُبَشِّر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد ، فإذا بال أو أحدث ، توضأ ومسح بفضل طَهُوره الخفين . فقلت : أبا عبد الله ، شيء{[9221]} تصنعه برأيك ؟ قال : بل رأيت النبي{[9222]} صلى الله عليه وسلم يصنعه ، فأنا أصنعه ، كما رأيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9223]} يصنع . {[9224]}
وكذا رواه ابن ماجه ، عن إسماعيل بن تَوْبة ، عن زياد البكائي ، به{[9225]} وقال أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن{[9226]} إسحاق ، حدثني محمد بن يحيى بن حَبَّان الأنصاري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال : قلت له : أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر ، عَمَّن هو ؟ قال : حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب ؛ أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر بن الغسيل حدثها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر ، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة وَوُضِع عنه الوضوء ، إلا من حدث . فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك ، كان يفعله حتى مات . {[9227]}
وكذا رواه أبو داود ، عن محمد بن عَوْف{[9228]} الحِمْصِيّ ، عن أحمد بن خالد الذهني ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان ، عن عبد الله بن عبد الله{[9229]} بن عمر{[9230]} ثم قال أبو داود : ورواه إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق فقال : عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد .
وأيا ما كان فهو{[9231]} إسناد صحيح ، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حَبَّان ، فزال محذور التدليس . لكن قال الحافظ ابن عساكر : رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانة ، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان ، به ، والله{[9232]} أعلم . وفي فعل ابن عمر هذا ، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة ، دلالة على استحباب ذلك ، كما هو مذهب الجمهور . .
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا أزْهَر ، عن ابن عَوْن ، عن ابن سِيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى{[9233]} حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبَة ، سمعت مسعود بن علي الشيباني ، سمعت عِكْرِمة يقول : كان علي ، رضي الله عنه ، يتوضأ عند كل صلاة ، ويقرأ هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } الآية .
وحدثنا ابن المثنى ، حدثني وَهْب بن جرير ، أخبرنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة قال : رأيت عليًا صلى الظهر ، ثم قعد للناس في الرّحْبة ، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مسح برأسه ورجليه ، وقال{[9234]} هذا وضوء من لم يُحْدث .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم{[9235]} عن مغيرة ، عن إبراهيم ؛ أن عليًا اكتال{[9236]} من حُبٍّ ، فتوضأ وضوءا فيه تجوّز{[9237]} فقال : هذا وضوء من لم يحدث " . وهذه طرق جيدة عن علي [ رضي الله عنه ]{[9238]} يقوي بعضها بعضا .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن حُمَيْد ، عن أنس قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تَجَوّز ، خفيفا ، فقال{[9239]} هذا وضوء من لم يحدث . وهذا إسناد صحيح . {[9240]}
وقال محمد بن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة . .
وأما ما رواه أبو داود الطيالسي ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء . فهو غريب عن سعيد بن المسيب ، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد ، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن عامر الأنصاري ، سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت{[9241]} فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث .
وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عَمْرو بن عامر ، به . {[9242]}
وقال ابن جرير : حدثني أبو سعيد البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن هُرَيم ، عن عبد الرحمن بن زياد - هو الإفريقي - عن أبي غُطَيف ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من توضأ على طُهْر كتب{[9243]} له عشر حسنات " .
ورواه أيضا من حديث عيسى بن يونس ، عن الإفريقي ، عن أبي غطيف ، عن ابن عمر ، فذكره ، وفيه قصة . {[9244]}
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث الإفريقي ، به نحوه{[9245]} وقال الترمذي : وهو إسناد ضعيف .
قال ابن جرير : وقد قال قوم : إن هذه الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة ، دون غيرها من الأعمال ؛ وذلك لأنه عليه السلام{[9246]} كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ .
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان{[9247]} عن جابر ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم ، عن عبد الله بن عَلْقَمَة بن الفَغَواء ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ، ونسلم عليه فلا يرد علينا ، حتى نزلت آية الرخصة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } الآية .
ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم ، عن أبي كُرَيْب ، به{[9248]} نحوه . وهو حديث غريب جدًا ، وجابر هذا هو ابن يزيد{[9249]} الجعفي ، ضعفوه .
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن عبد الله بن أبي مُلَيكة ، عن عبد الله بن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء ، فَقُدِّم إليه طعام ، فقالوا : ألا نأتيك بوَضُوء فقال : " إنما أمرت بالوضوء إذا قُمْتُ إلى الصلاة .
وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن مَنِيع والنسائي عن زياد بن أيوب ، عن إسماعيل - وهو ابن علية - به{[9250]} وقال الترمذي : هذا حديث حسن .
وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن الحويرث ، عن ابن عباس قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء ، ثم إنه رجع فأتى بطعام ، فقيل : يا رسول الله ، ألا تتوضأ ؟ فقال : " لِمَ ؟ أأصلي{[9251]} فأتوضأ ؟ " . {[9252]} وقوله : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } قد استدل طائفة من العلماء بقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } على وجوب النية في الوضوء ؛ لأن تقدير الكلام : " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها " ، كما تقول العرب : " إذا رأيت الأمير فقم " أي : له . وقد ثبت في الصحيحين حديث : " الأعمال{[9253]} بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " . {[9254]} ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه ؛ لما ورد في الحديث من طرق{[9255]} جيدة ، عن جماعة من الصحابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " . {[9256]}
ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء{[9257]} ويتأكد ذلك عند القيام من النوم ؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا استيقظ أحدكم من نَوْمِه ، فلا يُدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا ، فإن أحدَكم لا يَدْرِي أين باتت يده " . {[9258]}
وحَدُّ الوجه عند الفقهاء : ما بين منابت شعر الرأس - ولا اعتبار بالصَّلع ولا بالغَمَم - إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، وفي النزعتين{[9259]} والتحذيف خلاف ، هل هما من الرأس أو الوجه ، وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان ، أحدهما : أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة . وروي في حديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مغطيا لحيته ، فقال : " اكشفها ، فإن اللحية من الوجه " {[9260]} وقال مجاهد : هي من الوجه ، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام إذا نبتت لحيته : طلع وجهه .
ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كَثَّة ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ، عن عامر بن شقيق بن جَمْرَة ، عن أبي وائل{[9261]} قال : رأيت عثمان توضأ - فذكر الحديث - قال : وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت .
رواه الترمذي ، وابن ماجه من حديث عبد الرزاق{[9262]} وقال الترمذي : حسن صحيح ، وحسنه البخاري .
وقال أبو داود : حدثنا أبو تَوْبَة الربيع بن نافع ، حدثنا أبو المَلِيح ، حدثنا الوليد بن زَوْرَانَ{[9263]} عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كَفًّا من ماء فأدخله تحت حنكه ، يخلل{[9264]} به لحيته ، وقال : " هكذا أمرني به ربي عز وجل .
تفرد به أبو داود{[9265]} وقد رُوي هذا{[9266]} من غير وجه عن أنس . قال البيهقي : وروينا في تخليل اللحية عن عمار ، وعائشة ، وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عن علي وغيره ، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر ، والحسن بن علي ، ثم عن النخعي ، وجماعة من التابعين . {[9267]}
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها : أنه كان إذا توضأ تمضمض{[9268]} واستنشق ، فاختلف الأئمة في ذلك : هل هما واجبان في الوضوء والغسل ، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ، رحمه الله ؟ أو مستحبان فيهما ، كما هو مذهب الشافعي ومالك ؟ لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه ابن خُزَيمة ، عن رفاعة بن رافع الزّرقي ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته : " توضأ كما أمرك الله " {[9269]} أو يجبان في الغسل دون الوضوء ، كما هو مذهب أبي حنيفة ؟ أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من توضأ فليستنثر " {[9270]} وفي رواية : " إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر " {[9271]} والانتثار : هو المبالغة في الاستنشاق .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ؛ أنه توضأ فغسل وجهه ، ثم أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر ، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا ، يعني أضافها إلى يده الأخرى ، فغسل بهما وجهه . ثم أخذ غرفة من ماء ، فغسل بها يده اليمنى ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ، ثم مسح رأسه ، ثم أخذ غرفة من ماء ، ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله اليسرى ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني يتوضأ .
ورواه البخاري ، عن محمد بن عبد الرحيم ، عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ، به{[9272]}
وقوله : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } أي : مع المرافق ، كما قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } [ النساء : 2 ]
وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي ، من طريق القاسم بن محمد ، عن{[9273]} عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جده ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه . ولكن القاسم هذا متروك الحديث ، وجده ضعيف{[9274]} والله أعلم .
ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد ليغسله مع ذراعيه ؛ لما روى البخاري ومسلم ، من حديث نُعَيم المُجْمِر ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أمتي يُدْعَوْن يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل " . {[9275]}
وفي صحيح مسلم : عن قُتَيْبَة ، عن خَلَف بن خليفة ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : سمعت خليلي{[9276]} صلى الله عليه وسلم يقول : " تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " . {[9277]}
وقوله : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } اختلفوا في هذه " الباء " هل هي للإلصاق ، وهو الأظهر أو للتبعيض ؟ وفيه نظر ، على قولين . ومن الأصوليين من قال : هذا مجمل فليرجع{[9278]} في بيانه إلى السنة ، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك ، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه ، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جد عمرو بن يحيى ، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بوضوء ، فأفرغ على يديه ، فغسل يديه مرتين مرتين ، ثم مضمض{[9279]} واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ، ثم مسح بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه . {[9280]}
وفي حديث عبد خير ، عن علي في صفة وضوء رسول الله{[9281]} صلى الله عليه وسلم نحو هذا ، وروى أبو داود ، عن معاوية والمقدام بن معد يكرب ، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله . {[9282]}
ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس ، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل ، لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن .
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس ، وهو مقدار الناصية .
وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ، لا يتقدر ذلك بحدٍّ ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه .
واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة ، قال : تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه ، فلما قضى حاجته قال : " هل معك ماء ؟ " فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة ، فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه{[9283]} فغسل ذراعيه ومسح بناصيته ، وعلى العمامة وعلى خفيه . . . وذكر باقي الحديث ، وهو في صحيح مسلم ، وغيره . {[9284]}
فقال لهم أصحاب الإمام أحمد : إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة ، ونحن نقول بذلك ، وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك أحاديث كثيرة ، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين ، فهذا{[9285]} أولى ، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة ، والله أعلم .
ثم اختلفوا في أنه : هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا ، كما هو المشهور من مذهب الشافعي ، أو إنما{[9286]} يستحب مسحة واحدة ، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه ، على قولين . فقال عبد الرزاق : عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن حُمْران بن أبان قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما ، ثم مضمض{[9287]} واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا ، ثم اليسرى ثلاثا مثل ذلك{[9288]} ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : " من تَوَضَّأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه ، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا{[9289]} وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكَة ، عن عثمان في صفة الوضوء : ومسح برأسه مرة واحدة{[9290]} وكذا من رواية عبد خير ، عن علي مثله .
واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، عن عثمان ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : توضأ ثلاثا ثلاثا .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد ، حدثنا عبد الرحمن بن وَرْدَان ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، حدثني حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ . {[9291]} فذكر نحوه ، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق ، قال فيه : ثم مسح رأسه ثلاثا ، ثم غسل رجليه ثلاثا ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا وقال : " من توضأ دون هذا كفاه .
تفرد به أبو داود{[9292]} ثم قال : وأحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة .
وقوله : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } قُرئ : { وَأَرْجُلَكُمْ } بالنصب عطفا على { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا وُهَيْب ، عن خالد ، عن عِكَرِمة ، عن ابن عباس ؛ أنه قرأها : { وَأَرْجُلَكُمْ } يقول : رجعت إلى الغسل .
وروي عن عبد الله بن مسعود ، وعُرْوَة ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، ومجاهد ، وإبراهيم ، والضحاك ، والسُّدِّي ، ومُقاتل بن حيان ، والزهري ، وإبراهيم التيمي ، نحو ذلك .
وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل ، كما قاله السلف ، ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب{[9293]} كما هو مذهب الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب ، بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ثم وجهه أجزأه ذلك ؛ لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء ، و " الواو " لا تدل على الترتيب . وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقا ، فمنهم من قال : الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة ؛ لأنه مأمور به بفاء التعقيب ، وهي مقتضية للترتيب ، ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولا ثم لا يجب الترتيب بعده ، بل القائل اثنان ، أحدهما : يوجب الترتيب ، كما هو واقع في الآية . والآخر يقول : لا يجب الترتيب مطلقا ، والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء ، فوجب{[9294]} الترتيب فيما بعده بالإجماع ، حيث لا فارق . ومنهم من قال : لا نسلم أن " الواو " لا تدل على الترتيب ، بل هي دالة - كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء . ثم نقول{[9295]} - بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي - : هي دالة على الترتيب شرعا فيما من شأنه أن يرتب ، والدليل على ذلك أنه{[9296]} صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت ، خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [ البقرة : 158 ] ثم قال : " ابدأ بما بدأ الله به " لفظ مسلم ، ولفظ النسائي : " ابدءوا بما بدأ الله به " . وهذا لفظ أمر ، وإسناده صحيح ، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به ، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعا ، والله أعلم .
ومنهم من قال : لما ذكر تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب ، فقطع النظير عن النظير ، وأدخل الممسوح بين المغسولين ، دل ذلك على إرادة الترتيب .
ومنهم من قال : لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ، ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " {[9297]} قالوا : فلا يخلو{[9298]} إما أن يكون توضأ مرتبا فيجب الترتيب ، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب ، ولا قائل به ، فوجب ما ذكره . {[9299]}
وأما القراءة الأخرى ، وهي قراءة من قرأ : { وَأَرْجُلِكُمْ }{[9300]} بالخفض . فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين ؛ لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس . وقد رُوي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح ، فقال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، حدثنا حُمَيْد قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ، إن الحجاج خَطَبَنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما عَرَاقيبهما{[9301]} فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله [ تعالى ]{[9302]} { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بَلَّهما{[9303]} إسناد صحيح إليه .
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سَهْل ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا حماد ، حدثنا عاصم الأحول ، عن أنس{[9304]} قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة الغسل{[9305]} وهذا أيضا إسناد صحيح .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا محمد بن قَيْس الخراساني ، عن ابن جُرَيْج ، عن عمرو بن دينار ، عن عِكرِمة ، عن ابن عباس قال : الوضوء غَسْلتَان ومسحتان . {[9306]}
وكذا روى سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا أبو مَعْمَر المِنْقَريّ ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } قال : هو المسح . ثم قال : وروي عن ابن عمر{[9307]} وعلقمة ، وأبي جعفر ، [ و ]{[9308]} محمد بن علي ، والحسن - في إحدى الروايات - وجابر بن زيد ، ومجاهد - في إحدى الروايات - نحوه .
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب ، قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه ، قال : وكان يقوله .
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح . ثم قال الشعبي : ألا ترى أن " التيمم " أنْ يمسح ما كان غسلا ويلغي{[9309]} ما كان مسحا ؟
وحدثنا ابن أبي زياد ، حدثنا يزيد ، أخبرنا إسماعيل ، قلت لعامر : إن ناسا يقولون : إن جبريل نزل بغسل الرجلين ؟ فقال : نزل جبريل بالمسح .
فهذه آثار غريبة جدًا ، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف ، لما سنذكره من السنة الثابتة{[9310]} في وجوب غسل الرجلين . وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام ، كما في قول العرب : " جُحْرُ ضَب خربٍ " ، وكقوله تعالى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } [ الإنسان : 21 ] وهذا سائغ ذائع ، في لغة العرب شائع . ومنهم من قال : هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان ، قاله أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله . ومنهم من قال : هي دالة على مسح الرجلين ، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف ، كما وردت{[9311]} به السنة . وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا ، لا بد منه للآية والأحاديث{[9312]} التي سنوردها .
ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي ، حيث قال : أخبرنا أبو علي الروذباري ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري ، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد الملك بن مَيْسَرَة ، سمعت النزال بن سَبْرَة يحدث عن علي بن أبي طالب ، أنه صلى الظهر ، ثم قعد في حوائج الناس في رَحَبَة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتي بكوز من ماء ، فأخذ منه حفنة واحدة ، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب{[9313]} فضله وهو قائم ، ثم قال : إن ناسا يكرهون الشرب قائما ، وإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9314]} صنع ما صنعتُ . وقال : " هذا وضوء من لم يحدث " .
رواه البخاري في الصحيح ، عن آدم ، ببعض معناه . {[9315]}
ومن أوجب{[9316]} من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف ، فقد ضل وأضل . وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا ، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث ، وأوجب مسحهما للآية ، فلم يحقق مذهبه في ذلك ، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دَلْك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء ؛ لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك ، فأوجب{[9317]} دَلْكَهما ليذهب ما عليهما ، ولكنه عَبَّر عن الدلك بالمسح ، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين{[9318]} غسل الرجلين ومسحهما ، فحكاه من حكاه كذلك ؛ ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور{[9319]} فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل ، سواء تقدمه أو تأخر عليه ؛ لاندراجه فيه ، وإنما أراد الرجلُ ما ذكرتهُ ، والله أعلم . ثم تأملت كلامه أيضًا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين ، في قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } خفضا على المسح وهو الدلك{[9320]} ونصبا على الغسل ، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه .
ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه :
قد تقدم في حديث أميري المؤمنين عثمان وعلي ، وابن عباس ومعاوية ، وعبد الله بن زيد بن عاصم ، والمقداد بن معد يكرب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين{[9321]} في وضوئه ، إما مرة ، وإما مرتين ، أو ثلاثا ، على اختلاف رواياتهم .
وفي حديث عمرو بن شُعَيْب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ، ثم قال : " هذا وُضُوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .
وفي الصحيحين ، من رواية أبي عَوَانة ، عن أبي بِشْر ، عن يوسف بن مَاهَك ، عن عبد الله بن عمرو قال : تَخَلَّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها ، فأدرَكَنا وقد أرْهَقَتْنَا الصلاةُ ، صلاةُ العصر ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : " أسبِغوا الوضوء وَيْلٌ للأعقاب من النار " . {[9322]}
وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة{[9323]} وفي صحيح مسلم عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار " . {[9324]}
وروى الليث بن سعد ، عن حَيْوة بن شُرَيْح ، عن عُقْبة بن مسلم ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء{[9325]} أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " وَيْلٌ للأعْقَاب وبُطون الأقدام من النار " . رواه البيهقي والحاكم{[9326]} وهذا إسناد صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق : أنه سمع سعيد بن أبي كرب - أو شعيب بن أبي كرب{[9327]} - قال : سمعت جابر بن عبد الله - وهو على جمل{[9328]} - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل للعراقيب من النار " . {[9329]}
وحدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب{[9330]} عن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجْل رَجُل منا مثْل الدرهم لم يغسله ، فقال : " ويل للعَقِبِ من النار " .
ورواه ابنُ ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن الأحْوص{[9331]} عن أبي إسحاق ، عن سعيد ، به نحوه{[9332]} وكذا رواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن سعيد بن أبي كرب{[9333]} عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله . ثم قال :
حدثنا{[9334]} علي{[9335]} بن مسلم ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضئون ، لم يصب أعْقابهم الماءُ ، فقال : " وَيْلٌ للعَراقِيبِ من النار " . {[9336]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا خَلَف بن الوليد ، حدثنا أيوب بن عُتْبة ، عن يحيى{[9337]} بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن مُعَيْقيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويل للأعقاب من النار " . تفرد به أحمد . {[9338]}
وقال ابن جرير : حدثني علي بن عبد الأعلى ، حدثنا المحاربي ، عن مُطَرَّح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال{[9339]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار " . قال : فما بقي في المسجد شَرِيف ولا وَضِيع ، إلا نظرت إليه يُقلب عُرْقوبيه ينظر إليهما " . {[9340]}
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، حدثني عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي أمامة - أو عن أخي أبي أمامة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر قومًا يتوضئون{[9341]} وفي عَقِب أحدهم - أو : كعب أحدهم - مثل موضع الدرهم - أو : موضع الظفر - لم يمسه الماء ، فقال : " ويل للأعقاب من النار " . قال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئًا لم يصبه{[9342]} الماء أعاد وضوءه " . {[9343]}
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة ، وذلك أنه لو كان فَرْض الرجلين مَسْحهما ، أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توَعّد على تركه ؛ لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل ، بل يجري{[9344]} فيه ما يجري{[9345]} في مسح الخف ، وهكذا وجه{[9346]} الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله .
وقد روى مسلم في صحيحه ، من طريق أبي الزبير ، عن جابر ، عن عمر بن الخطاب ؛ أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه{[9347]} فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ارجع فأحسن وضوءك " . {[9348]} وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني{[9349]} حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وَهْبٍ ، حدثنا جرير بن حازم : أنه سمع قتادة بن دعامة قال : حدثنا أنس بن مالك ؛ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ ، وترك على قدمه مثل موضع الظفر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارجع فأحسن وضوءك " .
وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف ، وابن ماجه ، عن حَرْمَلَة بن يحيى ، كلاهما عن ابن وَهْب به{[9350]} وهذا إسناد جيد ، رجاله كلهم ثقات ، لكن قال أبو داود : [ و ]{[9351]} ليس هذا الحديث بمعروف ، لم يروه إلا ابن وهب .
وحدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد{[9352]} أخبرنا يونس وحميد ، عن الحسن ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . بمعنى حديث قتادة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بَقيةُ ، حدثني بَحِير{[9353]} بن سعد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لُمْعَة قدر الدرهم لم يصبها الماء ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء .
ورواه أبو داود من حديث بقية{[9354]} وزاد : " والصلاة " . وهذا إسناد جيد قوي صحيح ، والله أعلم .
وفي حديث حُمْران ، عن عثمان ، في صفة وضوء النبي{[9355]} صلى الله عليه وسلم : أنه خلل بين أصابعه . وروى أهل السنن من حديث إسماعيل بن كثير ، عن عاصم بن لَقِيط بن صَبرةَ ، عن أبيه قال ، قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن الوضوء : فقال : " أسبغ الوضوء ، وخَلِّل بين الأصابع ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما " . {[9356]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، أبو عبد الرحمن المقري{[9357]} حدثنا عِكْرِمة بن عمار ، حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قال{[9358]} قال أبو أمامة : حدثنا عَمْرو بن عبسة{[9359]} قال : قلت : يا نبي الله ، أخبرني عن الوضوء . قال : " ما منكم من أحد يقرب وضوءه ، ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر{[9360]} إلا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره{[9361]} الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله ، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " . قال أبو أمامة : يا عمرو ، انظر ما تقول ، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أيعطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ فقال عمرو بن عَبْسة{[9362]} يا أبا أمامة ، لقد كبرت سنِّي ، وَرَقَّ عظمي ، واقترب أجلي ، وما بي حاجة أن أكذب على الله ، وعلى رسول الله{[9363]} صلى الله عليه وسلم [ و ]{[9364]} لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا ، لقد سمعته [ منه ]{[9365]} سبع مرات أو أكثر من ذلك . {[9366]}
وهذا إسناد صحيح ، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر ، وفيه : " ثم يغسل قدميه كما أمره الله " . فدل على أن القرآن يأمر بالغسل .
وهكذا روى أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن الحارث ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم .
ومن هاهنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير ، عن علي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما . إنما أراد غسلا خفيفًا وهما في النعلين ولا مانع من إيجاد الغسل والرِجل في نعلها ، ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين . وهكذا الحديث الذي أورده ابن جرير على نفسه ، وهو من روايته ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبَاطةَ قوم فبال قائما ، ثم دعا بماء فتوضأ ، ومسح على نعليه{[9367]} وهو حديث صحيح . وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات الحفاظ رووه عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه .
قلت : ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجليه خفان ، وعليهما نعلان .
وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى عن شُعْبَة ، حدثني يَعْلَى ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ، ثم قام إلى الصلاة . وقد رواه أبو داود عن مُسَدَّد وعباد بن موسى كلاهما ، عن هُشَيْم ، عن يعلى بن عَطاء ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم فبال ، وتوضأ{[9368]} ومسح على نعليه وقدميه .
وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ومن طريق هشيم{[9369]} ثم قال : وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث ؛ إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية متعارضة ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل{[9370]} المستفيض القاطع عُذْر من انتهى إليه وبلغه .
ولما كان القرآن آمرًا بغسل الرجلين - كما في قراءة النصب ، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليها - توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين ، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب ، ولكن لم يصح إسناده ، ثم الثابت عنه خلافه ، وليس كما زعموه ، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة .
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زياد بن عبد الله بن عُلاثة ، عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري ، عن مجاهد ، عن جرير بن عبد الله البَجَلي قال : أنا أسلمت بعد نزول{[9371]} المائدة ، وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت . تفرد به أحمد . {[9372]}
وفي الصحيحين ، من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن هَمَّام قال : بال جرير ، ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل : تفعل هذا ؟ فقال : نعم ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ، ثم توضأ ومسح على خفيه . قال الأعمش : قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث ؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة . لفظ مسلم . {[9373]}
وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولا منه وفعلا كما هو مقرر في كتاب " الأحكام الكبير " ، وما{[9374]} يحتاج إلى ذكره هناك ، من تأقيت المسح أو عدمه أو التفصيل فيه ، كما هو مبسوط في موضعه . وقد خالفت الروافض ذلك كله بلا مستند ، بل بجهل وضلال ، مع أنه ثابت في صحيح مسلم ، من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه . كما ثبت في الصحيحين عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها . وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين ، مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت عليه الآية الكريمة ، وهم مخالفون لذلك كله ، وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر ، ولله الحمد .
وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين ، فعندهم أنهما في ظهر القدم ، فعندهم في كل رجل كعب ، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم . قال{[9375]} الربيع : قال الشافعي : لم أعلم مخالفًا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان ، وهما مجمع مفصل الساق والقدم . هذا لفظه . فعند الأئمة ، رحمهم الله ، [ أن ]{[9376]} في كل قدم كعبين كما هو المعروف عند الناس ، وكما دلت عليه السنة ، ففي الصحيحين من طريق{[9377]} حُمْران عن عثمان ؛ أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ، واليسرى مثل ذلك .
وروى البخاري تعليقًا مجزوما به ، وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه ، من رواية أبي القاسم الحسيني بن الحارث الجدلي ، عن النعمان بن بشير قال : أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال : " أقيموا صفوفكم - ثلاثا - والله لتقيمُن صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين قلوبكم " . قال : فرأيت الرجل يُلْزِق كعبه بكعب صاحبه ، وركبته بركبة صاحبه ، ومَنْكبِه بمنكبه . لفظ ابن خزيمة . {[9378]}
فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه إلا والمراد به العظم الناتئ في الساق ، حتى يحاذي كعب الآخر ، فدل ذلك على ما ذكرناه ، من أنهما العظمان الناتئان عند مَفْصِل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن موسى ، أخبرنا شريك ، عن يحيى بن عبد الله بن الحارث التيمي - يعني الجابر - قال : نظرت في قتلى أصحاب زيد ، فوجدت الكعب فوق ظهر القدم ، وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم ، تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه .
وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } كل ذلك قد تقدَّم الكلام عليه في تفسير آية النساء ، فلا حاجة بنا إلى إعادته ؛ لئلا يطول الكلام . وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك ، لكن البخاري روى هاهنا حديثا خاصا بهذه الآية الكريمة ، فقال :
حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثنا ابن وَهْبٍ ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه ، عن أبيه ، عن عائشة : سقطت قلادة لي بالبيداء ، ونحن داخلون المدينة ، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل ، فثَنَى رأسه في حِجْري راقدًا ، أقبل أبو بكر فلَكَزَني لكزة شديدة ، وقال : حَبَسْت الناس في قلادة ، فَبى الموتُ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أوجعني ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح ، فالتمس الماء فلم يوجَد ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } هذه الآية ، فقال أسَيْد بن الحُضَير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ، ما أنتم إلا بركة لهم . {[9379]}
وقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } أي : فلهذا سهل عليكم ويسَّر ولم يعسِّر ، بل أباح التيمم عند المرض ، وعند فقد الماء ، توسعة عليكم ورحمة بكم ، وجعله في حق من شرع الله يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه ، كما تقدم بيانه ، وكما هو مقرر في كتاب " الأحكام الكبير " .
وقوله : { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لعلكم تشكرون نعمَه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة ، وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء ، بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة ، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن ، عن عقبة بن عامر قال : كانت علينا رعاية الإبل ، فجاءت نَوْبَتي فَرَوَّحتها بعَشِيّ ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس ، فأدركت من قوله : " ما من مسلم يتوضأ فيحسن وُضُوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقْبلا عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة " . قال : قلت : ما أجود هذه ! فإذا قائل بين يدي يقول : التي قبلها أجود منها . فنظرت فإذا عمر ، رضي الله عنه ، فقال : إني قد رأيتك جئت آنفا قال : " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو : فيسبغ - الوضوء ، يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء " . لفظ مسلم . {[9380]}
وقال مالك : عن سُهَيل{[9381]} بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توَضّأ العبد المسلم - أو : المؤمن - فغسل وجهه ، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء - أو : مع آخر قطر الماء - فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء - أو : مع آخر قطْر الماء - فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - أو : مع آخر قطْر الماء - حتى يخرج نقيا من الذنوب " .
رواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن مالك ، به . {[9382]}
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن كعب بن مُرَّة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه - أو : ذراعيه - إلا خرجت خطاياه منهما ، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه ، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه ، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه " . {[9383]}
هذا لفظه . وقد رواه الإمام أحمد ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن منصور ، عن سالم ، عن مرة بن كعب ، أو كعب بن مرة السلمي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وإذا توضأ العبد فغسل يديه ، خرجت{[9384]} خطاياه من بين يديه ، وإذا غسل وجهه خرجت{[9385]} خطاياه من وجهه ، وإذا غسل ذراعيه خرجت{[9386]} خطاياه من ذراعيه ، وإذا غسل رجليه خرجت{[9387]} خطاياه من رجليه " . قال شعبة : ولم يذكر مسح الرأس . وهذا إسناد صحيح . {[9388]}
وروى ابن جرير من طريق شَمِر بن عطية ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قام إلى الصلاة ، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه " . {[9389]}
وروى مسلم في صحيحه ، من حديث يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن أبي مالك الأشعري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الطَّهور شَطْر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله{[9390]} تملآن ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة بُرهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حُجَّة لك أو عليك ، كل الناس يَغْدُو ، فبائع نفسه فَمعتِقهَا ، أو مُوبِقُهَا " . {[9391]}
وفي صحيح مسلم ، من رواية سِمَاك بن حَرْب ، عن مُصْعب بن سعد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صدقة من غُلُول ، ولا صلاة بغير طهور " . {[9392]}
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، سمعت أبا المَلِيح الهُذَلي يحدث عن أبيه قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ، فسمعته يقول : " إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور ، ولا صدقة من غُلُول " .
وكذا رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث شعبة . {[9393]}
إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص : من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً ، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع ، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيراً بنعمة عظيمة من نعم التّشريع : وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء ، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل ، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين ، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة ، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ . وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى } في سورة النّساء ( 43 ) الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء ، أم آية سورة المائدة . وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم ، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم ، وكذلك اختار الواحدي في « أسباب النّزول » ، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة : أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية ، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم ، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة ، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهواً من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمان بن القاسم وأبِيهِ ، أراد أن يذكر آية { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنباً إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا } ، وهي آية النّساء ( 43 ) ، فذكر آية { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية . فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية { يأيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة } قد نزلت قبل نزول سورة المائدة ، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة ، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة ، والأرجح عندي : أن يكون ما في حديث البخاري وهماً من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة .
فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفاً عن الوضوء بنصّ القرآن ؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآنٍ فيه ولكنّه كان مشروعاً بالسنّة . ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعاً من قبل ذلك ، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء . قال أبو بكر ابن العربي في « الأحكام » « لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية ، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولاً قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا : إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة ، معناه كان بالسنّة . فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضاً .
وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّماً له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اهـ .
وفي « سيرة ابن إسحاق » ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اهـ . وقولهم : الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود . وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة . قال بعض علمائنا : ولذلك قالوا في حديث عائشة : فنزلت آية التّيمّم ؛ ولم يقولوا : آية الوضوء ؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية .
فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة ، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك ، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن . وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل ، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء ؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة ، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء . ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا { فاطَّهّروا } ، وقوله هنالك { تغتسلوا } [ النساء : 43 ] ، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضاً عن الوضوء .
ومعنى { إذا قمتم إلى الصّلاة } إذا عزمْتم على الصّلاة ، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل ، قال الشاعر :
فقام يذود النّاس عنها بسيفه *** وقال ألا لا من سبيل إلى هند
وعلى العزم على الفعل ، قال النابغة :
أي عزموا رأيهم فقالوا . والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب ( إلى ) لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلّوا .
وروى مالك في « الموطّأ » عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم ، وهو مروي عن السديُّ . فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية ، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة .
وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط ب { إذا قمتم } فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة . والأمر ظاهر في الوجوب . وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف ؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري ، ولم يذكر ذلك ابن حزم في « المحلّى » ولم أره لغير الطبرسي .
وقال بريدة بن أبي بردة : كان الوضوء واجباً على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد ، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد . وقال بعضهم : هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه ، كيفَ وهي مصدّرة بقوله : { يأيّها الّذين آمنوا } . والجمهور حملوا الآية على معنى « إذا قمتُم محدثين » ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء ( 43 ) المصدّرة بقوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - إلى قوله- ولا جُنباً } الآية . وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضاً على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصّاً به غير داخل في هذه الآية ، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة ؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة . وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره . والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء . وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها ؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط ، هو القيام إلى الصّلاة ، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله : { وإنْ كنتم مرضى -إلى قوله- أو جاء أحد منكم من الغائط -إلى قوله- فلم تجدوا ماء فتيمّموا } فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء ، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات ، إمّا مانِعٍ من أصل الوضوء وهو المرض والسفر ، وإمَّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ، فإن وجد الماء فالوضوء وإلاّ فالتيمّم ، فمفهوم الشرط وهو قوله : { وإن كنتم مرضى } ومفهوم النّفي وهو { فلم تجدوا ماء } تأويل بَيِّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل ، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب .
وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة . وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو ، ولذلك اقتصر على قوله : { وأيديكم } في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء . وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة ، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما .
وقد اختلف الأيمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة ، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود . وفي « المدارك » أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها . ثمّ قال للسائل بعد أيّام : قرأت « كتاب سيبويه » فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود . وفي مذهب مالك : قولان في دخول المرافق في الغسل ، وأوْلاهما دخولهما . قال الشيخ أبو محمد : وإدخالهما فيه أحوط لزوال تَكلُّف التحديد . وعن أبي هريرة : أنّه يغسل يديه إلى الإبطين ، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغُرّة يوم القيامة . وقيل : تكره الزيادة .
وقوله : { وأرجلكم } قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوبُ بالنّصب عطفاً على { وأيديكم } وتكون جملة { وامسحوا برؤوسكم } معترضة بين المتعاطفين . وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي ، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة ؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضاً للوسخ ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتُفرز الفضلات بكثرة حركة المشي ، ولذلك كان النّبيء صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها ، وقد نادَى بأعلى صوته للذي لم يُحسن غسل رجليه " وَيْلٌ للأعقاب من النّار "
وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بخفض { وأرجلكم } . وللعلماء في هذه القراءة تأويلات : منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكمَ الرجلين المسح دون الغسل ، وروي هذا عن ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة . وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوماً بالأهواز فذكر الوضوء فقال : « إنَّه ليس شيء من ابن آدم أقربَ مِن خبثه مِن قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما » فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق اللّهُ وكذب الحجّاج قال الله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم } . ورويت عن أنس رواية أخرى : قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل ، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسحُ الرجلين منسوخاً بالسنّة ، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضّؤون وأعقابهم تلوح ، فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النّار » مرّتين . وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلاّ الإمامية من الشيعة ، قالوا : ليس في الرجلين إلاّ المسح ، وإلاّ ابن جرير الطبري : رأى التخيير بين الغسل والمسح ، وجعَل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح .
واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء . ومن الذين قرأوا بالخفض من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل ، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مراداً هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح .
وجملة { وإن كنتم جنباً فاطّهروا إلى قوله وأيديكم منه } مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا .
وجملة { مَا يريد الله ليجعل عليكم من حرج } تعليل لرخصة التيمّم ، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق .
واللام في { ليجعل } داخلة على أن المصدرية محذوفةً وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر ، وهي لام زائدة على الأرجح ، وتسمّى لام أَنْ . وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يُريد الله ليبيّن لكُم } في سورة النّساء ( 26 ) ، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود .
والحرج : الضيق والشدّة ، والحَرَجَة : البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق ، والجمع حَرَج . والحَرج المنفي هنا هو الحرج الحِسّي لو كلّفوا بطَهارة الماء مع المرض أو السفر ، والحرجُ النفسي لو مُنِعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفرٍ أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها .
وقوله : { ولكن يريد ليطهّركم } إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف ، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة ؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار : منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة ؛ ومنها ما لا يعلمه إلاّ الله ، ككون الظهر أربع ركعات ، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكمَ منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم ، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم ، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثُمّ يقضون الجميع . فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جُعل التّيمّم بدلاً عن الوضوء ، كما تقدّم في سورة النساء .
وقوله { وليتمّ نعمته عليكم } أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام ، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكيّة والتطهير مع التيْسير في أحوال كثيرة . فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن ، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم .
وقوله : { لعلّكم تشكرون } أي رجاء شكركم إيّاه . جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا}: إن أصابتكم جنابة، {فاطهروا}: فاغتسلوا، {وإن كنتم مرضى}، نزلت في عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أو أصابكم جراحة، أو جدري، أو كان بكم قروح وأنتم مقيمون في الأهل، فخشيتم الضرر والهلاك، فتيمموا الصعيد؛ ضربة للوجه وضربة للكفين، {أو} إن كنتم {على سفر}، نزلت في عائشة، رضي الله عنها، حين أسقطت قلادتها وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بني أنمار، وهم حي من قيس عيلان. {أو جاء أحد منكم من الغائط} في السفر {أو لامستم النساء}: جامعتم النساء في السفر، {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}، يعني من الصعيد ضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكرسوع، ولم يؤمروا بمسح الرأس في التيمم. {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}، يعني ضيق في أمر دينكم، إذ رخص لكم في التيمم، {ولكن يريد ليطهركم} في أمر دينكم من الأحداث والجنابة، {وليتم نعمته عليكم}: إذ رخص لكم في التيمم في السفر، والجراح في الحضر، {لعلكم تشكرون} رب هذه النعم فتوحدونه، فلما نزلت الرخصة، قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، لعائشة رضوان الله عليها: والله ما علمتك إلا مباركة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء، وأيديكم إلى المرافق.
ثم اختلف أهل التأويل في قوله:"إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ" أمراد به كلّ حال قام إليها، أو بعضها؟ وأيّ أحوال القيام إليها؟
فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه من أنه معنىّ به بعض أحوال القيام إليها دون كلّ الأحوال، وأن الحال التي عني بها حال القيام إليها على غير طهر. سئل عكرمة عن قول الله: "إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيكُمْ إلى المَرَافقِ "فكلّ ساعة يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلاّ من حدث.
وقال آخرون: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة.
وقال آخرون: بل ذلك معني به كل حال قيام المرء إلى صلاته أن يجدّد لها طهرا. وقال آخرون: بل كان هذا أمرا من الله عزّ ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به أن يتوضؤوا لكلّ صلاة، ثم نسخ ذلك بالتخفيف.
حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: ثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازنيّ، مازن بني النجار، فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثَتْنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب، أن عبد الله بن زيد بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كلّ صلاة، فشقّ ذلك عليه، فأمر بالسواك، ورفع عنه الوضوء إلاّ من حدث. فكان عبد الله يرى أن به قوّة عليه، فكان يتوضأ...
فإن ظنّ ظان أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كلّ صلاة، دلالة على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندبا للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب فقد ظنّ غير الصواب، وذلك أن قول القائل: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، محتمل من وجوه لأمر الإيجاب والإرشاد والندب والإباحة والإطلاق، وإذ كان محتملاً ما ذكرنا من الأوجه، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقية مدّعية. وقد أجمعت الحجة على أن الله عزّ وجلّ لم يوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا على عباده فرض الوضوء لكلّ صلاة، ثم نسخ ذلك، ففي إجماعها على ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما قلنا من أن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل من ذلك كان على ما وصفنا من إيثاره فعل ما ندبه الله عزّ ذكره إلى فعله وندب إليه عباده المؤمنين بقوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافقِ..."، وأن تركه في ذلك الحال التي تركه كان ترخيصا لأمته وإعلاما منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم، إلاّ من حدَث يوجب نقض الطهر.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتي بقعب صغير، فتوضأ. قال: قلت لأنس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم. قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد...
وقد قال قوم: إن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له بها أن لا وضوء عليه، إلاّ إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال كلها، وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ، فأذن له بهذه الآية أن يفعل كلّ ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عدا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلّم عليه فلا يردّ علينا، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمك فلا تكلمنا ونسلم عليك فلا تردّ علينا قال: حتى نزلت آية الرخصة: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ...".
اختلف أهل التأويل في حدّ الوجه الذي أمر الله بغسله، القائم إلى الصلاة بقوله: "إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ"؛ فقال بعضهم: هو ما ظهر من بشرة الإنسان من قصاص شعر رأسه، منحدرا إلى منقطع ذقنه طولاً، وما بين الأذنين عرضا. قالوا: فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين فليس من الوجه ولا غيره، ولا أحبّ غسل ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء. قالوا: وأما ما غطاه الشعر منه كالذقن الذي غطاء شعر اللحية والصدغين اللذين قد عطاهما عذر اللحية، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر مجزئ عن غسل ما بطن منه من بشرة الوجه، لأن الوجه عندهم هو ما ظهر لعين الناظر من ذلك فقابلها دون غيره...
"وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ".
اختلف أهل التأويل في المرافق، هل هي من اليد الواجب غسلها أم لا؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب. فقال مالك بن أنس وسئل عن قول الله: فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ: أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء؟ قال: الذي أمر به أن يُبلغ «المرفقين»، قال تبارك وتعالى: فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فذهب هذا يغسل خلفه فقيل له: فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما؟ فقال: لا أدري ما لا يجاوزهما، أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا: إلى المرفقين والكعبين. وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى أن تغسل المَرَافِقِ.
وقال آخرون: إنما أوجب الله بقوله: "وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ" غسل اليدين إلى المرافق، فالمرفقان غاية لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحدّ، كما غير داخل الليل فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله: "ثُمّ أتِمّوا الصّيامَ إلى اللّيْلِ" لأن الليل غاية لصوم الصائم، إذا بلغه فقد قضى ما عليه. قالوا: فكذلك المرافق في قوله: "فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ" غاية لما أوجب الله غسله من اليد.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك، لم تَجزه الصلاة مع تركه غسله. فأما المرفقان وما وراءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندب إليه صلى الله عليه وسلم أمته بقوله: «أُمّتي الغُرّ المُحَجّلُونَ مِنْ آثارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمْ أنْ يُطِيلَ غُرّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» فلا تفسد صلاة تارك غسلهما وغسل ما وراءهما، لما قد بينا قبل فيما مضى من أن كل غاية حدت ب «إلى» فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحدّ وخروجها منه. وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه، إلاّ لمن لا يجوّز خلافه فيما بين وحكم، ولا حكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه.
اختلف أهل التأويل في صفة المسح الذي أمر الله به بقوله: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ"؛ فقال بعضهم: وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رؤوسكم بالماء إذا قمتم إلى الصلاة... عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ مسح مقدم رأسه.
عن إبراهيم، قال: أيّ جوانب رأسك مسست الماء أجزأك.
وقال آخرون: معنى ذلك: فامسحوا بجميع رءوسكم. قالوا: إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء لم تجزه الصلاة بوضوئه ذلك... سئل مالك عن مسح الرأس، قال: يبدأ من مقدّم وجهه، فيدير يديه إلى قفاه، ثم يردّهما إلى حيث بدأ منه.
وقال آخرون: لا يجزئ مسح الرأس بأقلّ من ثلاث أصابع، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله جلّ ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائم إلى صلاته مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه، ولم يحدّ ذلك بحدّ لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان ذلك كذلك، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحقّ بمسحه ذلك أن يقال: مسح برأسه، فقد أدّى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم ما مسح برأسه إذا قام إلى صلاته.
فإن قال لنا قائل: فإن الله قد قال في التيمم: "فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ" أفيجزئ المسح ببعض الوجه واليدين في التيمم؟ قيل له: كلّ ما مسح من ذلك بالتراب فيما تنازعت فيه العلماء، فقال بعضهم: يجزيه ذلك من التيمم، وقال بعضهم: لا يجزئه، فهو مجزئه، لدخوله في أسم الماسحين به. وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه، فمسلم لما جاءت به الحجة نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا حجة لأحد علينا في ذلك إذ كان من قولنا: إن ما جاء في آي الكتاب عاما في معنى فالواجب الحكم به على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له، فإذا خصّ منه شيء كان ما خصّ منه خارجا من ظاهره، وحكم سائره على العموم... والرأس الذي أمر الله جلّ وعزّ بالمسح بقوله به: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ" هو منابت شعر الرأس دون ما جاوز ذلك إلى القفا مما استدبر، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبل من قِبَل وجهه إلى الجبهة.
"وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ": اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأه جماعة من قرّاء الحجاز والعراق: "وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ" نصبا، فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجُلَكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم. وإذا قرئ كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون «الأرجل» منصوبة، عطفا على «الأيدي». وتأوّل قارئو ذلك كذلك، أن الله جلّ ثناؤه إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها.
وقرأ ذلك آخرون من قرّاء الحجاز والعراق: «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ» بخفض الأرجل. وتأوّل قارئو ذلك كذلك أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها، وجعلوا الأرجل عطفا على الرأس، فخفضوها لذلك... والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم، وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل، لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء. ومسحهما: إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح، ولذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض والاَخر مسح بالجميع اختلفت قراءة القرّاء في قوله: وأرْجُلَكُمْ فنصبها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارا منه المسح عليهما مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم مسحهما بالماء، وخفضها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح. ولما قلنا في تأويل ذلك إنه معنيّ به عموم مسح الرجلين بالماء كره من كره للمتوضئ الاجتزاء بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد توجيها منه قوله: «وَامْسَحُوا برُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ» إلى مسح جميعهما عاما باليد، أو بما قام مقام اليد دون بعضهما مع غسلهما بالماء، وأجاز ذلك من أجاز توجيهه منه إلى أنه معنيّ به الغسل... فإذا كان في المسح المعنيان اللذان وصفنا من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به، وكان صحيحا بالأدلة الدالة التي سنذكرها بعد أن مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل والمسح فبين صواب القراءتين جميعا، أعني النصب في الأرجل والخفض، لأن في عموم الرجلين بمسحهما بالماء غسلهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحهما، فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومهما بأمرار الماء عليهما، ووجه صواب قراءة من قرأه خفضا لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد مسحا بهما. غير أن ذلك وإن كان كذلك وكانت القراءتان كلتاهما حسنا صوابا، فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضا لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ" فالعطف به على الرؤوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي، وقد حيل بينه وبينها بقوله: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ".
فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم دون أن يكون خصوصا نظير قولك في المسح بالرأس؟ قيل: الدليل على ذلك تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَيْلٌ للأَعْقابِ وَبُطُونِ الأقْدَامِ منَ النارِ»، ولو كان مسح بعض القدم مجزيا عن عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما ترك مسحه منها بالماء بعد أن يمسح بعضها، لأن من أدّى فرض الله عليه فيما لزمه غسله منها لم يستحقّ الويل، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل، فوجوب الويل لعقب تارك غسل عقبه في وضوئه، أوضح الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحة ما قلنا في ذلك وفساد ما خالفه. "إلى الكَعْبَيْنِ": واختلف أهل التأويل في الكعب؛
فقال بعضهم: قال أبو جعفر: أين الكعبان؟ فقال: القوم ههنا، فقال: هذا رأس الساق، ولكن الكعبين هما عند المفصل.
قال مالك: الكعب الذي يجب الوضوء إليه، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذي العقب، وليس بالظاهر في ظاهر القدم.
وقال آخرون: قال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان وهما مجمع فصل الساق والقدم.
والصواب من القول في ذلك أن الكعبين هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم تسميهما العرب المِنْجَمين. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: هما عظما الساق في طرفها.
واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين، وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين. وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته.
"وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا": وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها "فاطهروا"، يقول: فتطهروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها...
"وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ": وإن كنتم جرحى أو مجدرين وأنتم جنب.
"أوْ على سَفَرٍ": وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب "أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ": أو جاء أحدكم من الغائط بعد قضاء حاجته فيه وهو مسافر، وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه. "أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ": أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون.
فإن قال قائل: وما وجه تكرير قوله: أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ إن كان معنى اللمس الجماع، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله: "وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا"؟ قيل: وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ذكره تعالى من فرضه بقوله: "وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا" غير المعنى الذي ألزمه بقوله: "أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ" وذلك أنه بين حكمه في قوله: "وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا" إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهره فرض عليه الاغتسال به، ثم بين حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيل وهو مسافر غير مريض مقيم، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور.
"فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا فامْسَحُوا بُوجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ": فإن لم تجدوا أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحاء، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهله في سفره ماء، "فتيمموا صعيدا طيبا" يقول: فتعمدوا واقصدوا وجه الأرض طيبا، يعني طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس، جائزا لكم حلالاً. "فامْسَحُوا بُوجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ": فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم، "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" مما علق بأيديكم منه، يعني: من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من ترابه وغباره.
"ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ": ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم، والغسل من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء، "لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ": ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا ليعنتكم فيه. "وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ولِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعلّكُمْ تَشْكُرُونَ": ولكن الله يريد أن يطهركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسل من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظّفوا وتطهروا بذلك أجسامكم من الذنوب. كما:
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، قال: حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الوُضُوءَ يُكَفّرُ ما قَبْلَهُ، ثم تَصِيرُ الصّلاة نَافِلة». قال: قلت: أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، لا مرّة، ولا مرّتين، ولا ثلاثَ، ولا أربَع، ولا خمس.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا حاتم، عن محمد بن عجلان، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عمرو بن عبسة، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذَا غَسَلَ المُؤْمِنُ كَفّيْهِ انْتَثَرَتِ الخَطايا مِنْ كَفّيْهِ، وإذَا تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ خَرَجَتْ خَطاياهُ مِنْ فِيهِ وَمِنْخَرَيْهِ، وَإذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ حتى تَخْرُجَ مِنْ أشْفارِ عَيْنَيْهِ، فإذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ، فإذَا مَسَحَ رأسَهُ وأُذُنَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ رأسِهِ وأذنَيْهِ، فإذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ حتى تَخْرُجَ مِنْ أظْفارِ قَدَمَيْهِ، فإذَا انْتَهَى إلى ذَلِكَ مِنْ وُضُوئِهِ كانَ ذَلِكَ حَظّهُ مِنْهُ، فإنْ قامَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلاً فِيهِما بِوَجْهِهِ وَقَلْبِهِ على رَبّهِ كانَ مِنح خَطاياهُ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ».
"وَلِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ": ويريد ربكم مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء إن وجدتموه، وتيممكم إذا لم تجدوه، أن يتمّ نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم أيها المؤمنون "لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ": تشكرون الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} قيل فاغتسلوا بأخذ الجنابة الظواهر من البدن وبواطنه، والحدث لا يأخذ إلا الظواهر من الأطراف، لأن السبب الذي يوجب الجنابة لا يكون إلا باستعمال جميع ما فيه من القوة. ألا ترى أنه به يضعف إذا كثره، وبتركه يقوى. فعلى ذلك أخذ جميع البدن ظاهره وباطنه. وأما الحدث فإن سببه يكون بظواهر هذه الأطراف من نحو الأكل والشرب والحدث، وليس باستعمال كل البدن، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} الآية. ذكر المرض والسفر والمجيء من الغائط والملامسة. ثم الحكم لم يتعلق باسم المرض ولا باسم السفر ولكن باسم الغائط، ولكن كان متعلقا لمعنى فيه دلالة جواز القياس لأنه ذكر الغائط والمجيء منه، [والغائط] هو المكان الذي تقضى فيه، والمراد منه المعنى، وهو قضاء الحاجات. فهذا أصل لنا أن النص إذا ورد بمعنى، فوجد ذلك المعنى في غيره وجب ذلك الحكم في ذلك الغير. فإذا عدم الماء في المكان الذي يعدم، وإن لم يكن سفرا، يجوز التيمم فيه، وكذلك إذا خاف الضرر من الماء جاز له التيمم، يكون مريضا لأنه ليس أباح ذلك، هذا هو المعنى الثاني للمريض باسم المرض ولا باسم السفر، ولكن لمعنى فيه.
وقوله تعالى: {أو لامستم النساء} قد ذكرنا في ما تقدم أن الملامسة هو الجماع. [كذلك] روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وقال ابن عباس: الملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والغشيان، كله جماع، ولكن الله كريم يكني.
وقوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} جعل الطهارة بالماء والتراب لأنه بهما معاش الخلق، وبهما قوام الأبدان حتى جعل جميع أغذية الخلق وجل مصالحهم منهما. فعلى ذلك جعل قيام هذه العبادات بهما، والله أعلم. ثم الحكمة في جعل الطهارة في أطراف البدن للتزين والتنظيف لأنه يقدم على الملك الجبار، ويقوم بين يديه ويناجيه. ومن أتى ملكا من ملوك الأرض يتكلف التنظيف والتزين، ثم يدخل عليه، فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} قيل {صعيدا طيبا} والصعيد هو وجه الأرض. وقوله تعالى: {طيبا} قال بعضهم: الطيب ما ينبت من الزرع وغيره. وقال آخرون: الطيب ههنا هو الطاهر. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت» [البخاري: 335] أخبر أن الأرض جعلت له مسجدا وطهورا. فكان قوله: «طهورا» تفسيرا لقوله تعالى: {طيبا} والله أعلم...
وقوله تعالى: {ما يريد ليجعل عليكم من حرج} يحتمل هذا وجهين: يحتمل ما يريد أن يضيق عليكم ليأمركم بحمل الماء إلى حيث ما كنتم في الأسفار وغيره، ولكن جعل لكم التيمم، ورخص لكم أن تؤدوا ما فرض عليكم به، ولم يكلفكم حمل الماء في الأسفار وغيره، والله أعلم. ووجه آخر: ما أراد الله بما تعبدكم من أنواع العبادات أن يجعل {عليكم من حرج} ولكن أراد ما ذكر.
وقوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} يحتمل يريد ليطهركم بالتوحيد والإيمان به وبالرسل جميعا. ويحتمل قوله {يريد ليطهركم} من الذنوب والآثام التي ارتكبوها كقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابات كما قال أهل التأويل.
وقوله تعالى: {وليتم نعمته عليكم} تمام ما ذكرنا من التوحيد والإيمان والهداية لدينه والتكفير مما ارتكبوا. ويجوز أن يكون هذا في قوم علم الله أنهم يموتون على الإيمان حين أخبر أنه يتم نعمته عليهم.
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ} والغائطُ هو المطمئنُّ من الأرض، وكانوا يأتونه لقضاء حوائجهم فيه، وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسَلَسِ البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس؛ لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم، وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سَلَسِ البول والمذي ودم الاستحاضة؛ فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله -تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وذلك مثل قوله: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) أي: فإذا أردت القراءة. تقول: إذا اتجرت فاتجر إلى البر، وإذا جالست، فجالس فلانا، أي: إذا أردت المجالسة. وظاهر الآية يقتضي أنه يجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة، ولكن بالسنة عرفنا جواز الجمع بين الصلوات بوضوء واحد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين أربع صلوات يوم الخندق بوضوء واحد، وجمع صلى الله عليه وسلم بين خمس صلوات يوم فتح مكة بوضوء واحد، وحكى عن علي- رضي الله عنه -أنه قال: الوضوء لكل صلاة مكتوبة. وقيل: هو على الاستحباب...
(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) يعني: مع المرافق، قال المبرد: إذا مُدّ الشيء إلى جنسه تدخل فيه الغاية، وإذا مُدّ إلى خلاف جنسه، لا تدخل فيه الغاية، فقوله: (إلى المرافق) مُدَّ إلى جنسه، فتدخل فيه الغاية. وأما قوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) مُدَّ إلى خلاف جنسه، فلا تدخل فيه الغاية. والمرفق سمى بذلك؛ لارتفاق الإنسان به بالاتكاء عليه...
(ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) قال محمد ابن كعب القرظي: أراد بإتمام النعمة: تكفير الخطايا بالوضوء على ما روينا، وهذا مثل قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك يعني: بغفران الذنب، وفي الوضوء تكفير الخطايا التي ارتكبها في الدنيا، ونور يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: «أمتي غرّ محجّلون من آثار الوضوء يوم القيامة؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل».
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً} الجنب مأخوذ من جنب امرأة في الأغلب، ومن المجاورة والقرب قيل {والجار الجنب} [النساء: 36] ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون {الجار الجنب} [النساء: 36] هو البعيد الجوار ويكون مقابلاً للصاحب بالجنب. و «اطهروا» أمر بالاغتسال بالماء،...
اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية، فقوله {أوفوا بالعقود} طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل: إلهنا العهد نوعان: عهد الربوبية منك، وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان. فقال تعالى: نعم أنا أوفي أولا بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح، لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام هذا البيان كأنه يقول: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات، فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية، ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وليتم نعمته عليكم} ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه. {لعلكم تشكرون} نعمته. والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وليتم نعمته عليكم} أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه. وقيل: الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم قال بعد كيفية الوضوء:"ويتم نعمته عليكم"، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين. وقيل: تبيين الشرائع وأحكامها، فيكون مؤكداً لقوله: {وأتممت عليكم نعمتي} وقيل: بغفران ذنوبهم. وفي الخبر: « تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار». {لعلكم تشكرون} أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية، وقدم منه الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا به! صدقوه بأنكم {إذا} عبر بأداة التحقيق بشارة بأن الأمة مطيعة {قمتم} أي بالقوة، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام {إلى الصلاة} أي جنسها محدثين، لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بجمعه بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما ويزيد حمل الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] الثابت أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد عصر يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم على ناقته يخطب، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما:"ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة والترمذي عن جابر رضي الله عنه، فقوله "المصلون "إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة، فما دامت قائمة فهو زائل، ومتى زالت والعياذ بالله -رجع، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بين العبد والكفر ترك الصلاة "وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصلاة". ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، لأن المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط: {فاغسلوا} أي لأجل إرادة الصلاة، ومن هنا يعلم وجوب النية، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية {وجوهكم} وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة، لأنه من الحرج، وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه بظاهر اللحية، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب {وأيديكم}.
ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم: {إلى المرافق} أي آخرها، أخذاً من بيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدخل كقوله تعالى {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وتارة لا تدخل كقوله تعالى
{ثم أتموا الصيام إلى اللّيل} [البقرة: 187] والمرفق ملتقى العظمين، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً {وامسحوا} ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه، بل أتى بالباء فقال: {برءوسكم} علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف: المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح.
ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً، قرئ: {وأرجلكم} بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب، قال في القاموس: المسح كالمنع: إمرار اليد على الشيء السائل. فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي صلى الله عليه وسلم، ومر استعماله فيه وفيه الإشارة إلى الرفق بالنصب على الأصل.
ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل- كما مضى في المرافق، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل: {إلى الكعبين} وهما العظمان الناتيان عند مفصل الساق والقدم، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين، ولو قيل: إلى الكعاب، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل -كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب، لأن عادة العرب- كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب -أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب: ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة، فوجب تنزيه كلام الله عنه أيضاً، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض، لظهور الكفار وغلبتهم، كما كانت المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه، عاطفاً على ما تقديره: هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر: {وإن كنتم} أي حال القصد للصلاة {جنباً} أي ممنين باحتلام أو غيره {فاطهروا} أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء.
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء، وبدأ بالوضوء لعمومه، ذكر الطهارة رخصة بالتراب، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة: {وإن كنتم مرضى} أي بجراح أو غيره، فلم تجدوا ماء حساً أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب {أو على سفر} طويل أو قصير كذلك، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال {أو جاء أحد منكم} وهو غير جنب {من الغائط} أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له منها، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره. كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح له، فغضب وقال: كأنك ما تعرفني؟ فقال بلى والله! إني لأعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة.
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال: {أو لامستم النساء} أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا {فلم تجدوا ماء} أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره {فتيمموا} أي اقصدوا قصداً متعمداً {صعيداً} أي تراباً {طيباً} أي طهوراً خالصاً {فامسحوا}.
ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة، وبينت السنة أن المراد جميع العضو، فقال: {بوجوهكم وأيديكم منه} أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً: {ما يريد الله} أي الغني الغنى المطلق {ليجعل عليكم} وأغرق في النفي بقوله: {من حرج} أي ضيق علماً منه بضعفكم، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان قبلكم، وإكراماً لكم لأجل نبيكم صلى الله عليه وسلم، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم {ولكن يريد ليطهركم} أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وبامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه، عقلتم معناه أو لا، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن {وليتم نعمته} أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال {عليكم} لأجل تسهيلها، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به، إلا لمن لج طبعه في العوج، وتمادى في الغواية والجهل والبطر {لعلكم تشكرون} أي و فعل ذلك كله.
هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. وفي رواية: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل، فثنى رأسه في حجري راقداً. فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ فجاء أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست النبي صلى الله عليه وسلم في قلادة، فبي الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6]، وفي رواية: فأنزل الله آية التيمم {فتيمموا} فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة لهم، وفي رواية: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فإذا العقد تحته" وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيراً! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة "وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكم ومزيد الامتنان به، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجنابة نص خاص، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجه المناسبة بين آية الوضوء وما قبلها هو أن الحدثين اللذين هما سبب الطهارتين هما أثر الطعام والنكاح، فلولا الطعام لما كان الغائط الموجب للوضوء، ولولا النكاح لما كانت ملامسة النساء الموجبة للغسل، وأما المناسبة بين آية الميثاق وما قبلها فهي أن الله تعالى بعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعبادات والعادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة لله ولرسوله بقبول دينه الحق، لنقوم بها مخلصين."
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء. وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام.. إن هذا لا يجيء اتفاقا ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجيء كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه.. إنما هو يجيء في موضعه من السياق، ولحكمته في نظم القرآن.. إنها -أولا- لفتة إلى لون آخر من الطيبات.. طيبات الروح الخالصة.. إلى جانب طيبات الطعام والنساء.. لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع أنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء.. فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة؛ استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان.. والتي بها يتكامل وجود "الإنسان". ثم اللفتة الثانية.. إن إحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب... كبقية الأحكام التالية في السورة... كلها عبادة لله. وكلها دين الله. فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرا -في الفقه- على تسميته "بأحكام العبادات"، وما اصطلح على تسميته "بأحكام المعاملات"...
(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج. ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم، لعلكم تشكرون).. والتطهير حالة واجبة للقاء الله -كما أسلفنا- وهو يتم في الوضوء والغسل جسما وروحا. فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه؛ ويجزى ء في التطهر عند عدم وجود الماء، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء. ذلك أن الله -سبحانه- لا يريد أن يعنت الناس، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف. إنما يريد أن يطهرهم، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها.. فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم.
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا: (ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).. تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء. فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد، ليقول متفلسفة هذه الأيام: إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات، كما كان العرب البدائيون! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه. وجانب التطهر الروحي أقوى. لأنه عند تعذر استخدام الماء، يستعاض بالتيمم، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى.. وذلك كله فضلا على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات، وجميع البيئات، وجميع الأطوار، بنظام واحد ثابت، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار؛ في صورة من الصور، بمعنى من المعاني؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال. فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولنحاول أن نكون أكثر أدبا مع الله؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء. كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها، عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة؛ وإزالة كل عائق يمنع منها.. فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان.. كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية. إذا يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء.. لقاء العبد بربه.. وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب.. إنها نداوة القلب، واسترواح الظل، وبشاشة اللقاء..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص: من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيراً بنعمة عظيمة من نعم التّشريع: وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ. وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى: {يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} في سورة النّساء (43) الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء، أم آية سورة المائدة. وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم، وكذلك اختار الواحدي في « أسباب النّزول»، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة: أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهواً من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمان بن القاسم وأبِيهِ، أراد أن يذكر آية {يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنباً إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا}، وهي آية النّساء (43)، فذكر آية {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية. فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية {يأيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة} قد نزلت قبل نزول سورة المائدة، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة، والأرجح عندي: أن يكون ما في حديث البخاري وهماً من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة.
فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفاً عن الوضوء بنصّ القرآن؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآنٍ فيه ولكنّه كان مشروعاً بالسنّة. ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعاً من قبل ذلك، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء. قال أبو بكر ابن العربي في « الأحكام» « لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولاً قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا: إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة، معناه كان بالسنّة. فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضاً.
وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّماً له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اهـ.
وفي « سيرة ابن إسحاق» ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اهـ. وقولهم: الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود. وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة. قال بعض علمائنا: ولذلك قالوا في حديث عائشة: فنزلت آية التّيمّم؛ ولم يقولوا: آية الوضوء؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية.
فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن. وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء. ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا {فاطَّهّروا}، وقوله هنالك {تغتسلوا} [النساء: 43]، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضاً عن الوضوء.
ومعنى {إذا قمتم إلى الصّلاة} إذا عزمْتم على الصّلاة، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل...
... وروى مالك في « الموطّأ» عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم، وهو مروي عن السديُّ. فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة.
وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط ب {إذا قمتم} فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة. والأمر ظاهر في الوجوب. وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري، ولم يذكر ذلك ابن حزم في « المحلّى» ولم أره لغير الطبرسي.
وقال بريدة بن أبي بردة: كان الوضوء واجباً على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد. وقال بعضهم: هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه، كيفَ وهي مصدّرة بقوله: {يأيّها الّذين آمنوا}. والجمهور حملوا الآية على معنى « إذا قمتُم محدثين» ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء (43) المصدّرة بقوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى -إلى قوله- ولا جُنباً} الآية. وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضاً على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصّاً به غير داخل في هذه الآية، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة. وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره. والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء. وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط، هو القيام إلى الصّلاة، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله: {وإنْ كنتم مرضى -إلى قوله- أو جاء أحد منكم من الغائط -إلى قوله- فلم تجدوا ماء فتيمّموا} فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات، إمّا مانِعٍ من أصل الوضوء وهو المرض والسفر، وإمَّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}، فإن وجد الماء فالوضوء وإلاّ فالتيمّم، فمفهوم الشرط وهو قوله: {وإن كنتم مرضى} ومفهوم النّفي وهو {فلم تجدوا ماء} تأويل بَيِّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب.
وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة. وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو، ولذلك اقتصر على قوله: {وأيديكم} في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء. وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما.
وقد اختلف الأئمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود. وفي « المدارك» أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها. ثمّ قال للسائل بعد أيّام: قرأت « كتاب سيبويه» فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود. وفي مذهب مالك: قولان في دخول المرافق في الغسل، وأوْلاهما دخولهما. قال الشيخ أبو محمد: وإدخالهما فيه أحوط لزوال تَكلُّف التحديد. وعن أبي هريرة: أنّه يغسل يديه إلى الإبطين، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغُرّة يوم القيامة. وقيل: تكره الزيادة.
وقوله: {وأرجلكم} قرأه نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوبُ بالنّصب عطفاً على {وأيديكم} وتكون جملة {وامسحوا برؤوسكم} معترضة بين المتعاطفين. وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضاً للوسخ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتُفرز الفضلات بكثرة حركة المشي، ولذلك كان النّبيء صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها، وقد نادَى بأعلى صوته للذي لم يُحسن غسل رجليه "وَيْلٌ للأعقاب من النّار "
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بخفض {وأرجلكم}. وللعلماء في هذه القراءة تأويلات: منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكمَ الرجلين المسح دون الغسل، وروي هذا عن ابن عبّاس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبي، وقتادة. وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوماً بالأهواز فذكر الوضوء فقال: « إنَّه ليس شيء من ابن آدم أقربَ مِن خبثه مِن قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما» فسمع ذلك أنس بن مالك فقال: صدق اللّهُ وكذب الحجّاج قال الله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم}. ورويت عن أنس رواية أخرى: قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسحُ الرجلين منسوخاً بالسنّة، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضّؤون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النّار» مرّتين. وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلاّ الإمامية من الشيعة، قالوا: ليس في الرجلين إلاّ المسح، وإلاّ ابن جرير الطبري: رأى التخيير بين الغسل والمسح، وجعَل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح.
واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء. ومن الذين قرأوا بالخفض من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مراداً هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح.
وجملة {وإن كنتم جنباً فاطّهروا إلى قوله وأيديكم منه} مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا.
وجملة {مَا يريد الله ليجعل عليكم من حرج} تعليل لرخصة التيمّم، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق.
واللام في {ليجعل} داخلة على أن المصدرية محذوفةً وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر، وهي لام زائدة على الأرجح، وتسمّى لام أَنْ. وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يُريد الله ليبيّن لكُم} في سورة النّساء (26)، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود.
والحرج: الضيق والشدّة، والحَرَجَة: البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق، والجمع حَرَج. والحَرج المنفي هنا هو الحرج الحِسّي لو كلّفوا بطَهارة الماء مع المرض أو السفر، والحرجُ النفسي لو مُنِعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفرٍ أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها.
وقوله: {ولكن يريد ليطهّركم} إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار: منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة؛ ومنها ما لا يعلمه إلاّ الله، ككون الظهر أربع ركعات، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكمَ منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثُمّ يقضون الجميع. فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جُعل التّيمّم بدلاً عن الوضوء، كما تقدّم في سورة النساء.
وقوله {وليتمّ نعمته عليكم} أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكيّة والتطهير مع التيْسير في أحوال كثيرة. فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم.
وقوله: {لعلّكم تشكرون} أي رجاء شكركم إيّاه. جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول.
وحتى تلقى أيها المسلم الإله المنعم سبحانه فلا بد أن تعد نفسك لهذا اللقاء لأنها ليست مسألة طارئة فلا بد من الإعداد الروحي والإعداد البدني والإعداد المكاني والإعداد الزماني. إن الإعداد البدني يكون بالطهارة والإعداد الزماني هو مواقيت الصلاة والإعداد المكاني هو وجود مكان طاهر لإقامة الصلاة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلاة إلى القبلة، وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على الإنسان بكل النعم ولذلك نقول: إن الصلاة إعلان استدامة الولاء الإيماني للخالق الممد المنعم، فهو الذي خلق من عدم وأمد من عدم وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم، ليقطع على الإنسان سبيل الغفلة عنه، وإذا ما أراد الإنسان أن يلقي الله في الأوقات التي بين الصلوات وأراد أن يعلن استدامة الإيمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلاة فليذكر الله، لأننا نعرف القاعدة الشرعية القائلة: (مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب)...
ونلتفت إلى الكلام الذي تقدم حيث أورد الحق فيه ما أحل لنا من بهيمة الأنعام من طعام وشراب، ثم تكلم في النكاح حتى أنه وسع لنا دائرة الاستمتاع ودائرة الإنسال بأن أباح لنا أن نتزوج الكتابيات وفي هذا توسيع لرقعة الزواج فلم يقصر الزواج على المسلمات. ولما كان الطعام الذي أحله الله ينشأ عنه ما يخرج منا من بول وغائط، والنكاح الذي أحله الله يغير كيماوية الجسد، لذلك جعل الله الوضوء لشيء والجنابة لها شيء آخر، فعن الطعام ينشأ الأخبثان وعن الجماع أو خروج المني ينشأ الحدث الأكبر، فكان ولا بد بعد أن يتكلم عن طهارة الأبعاض في الحدث الأصغر أن يتكلم عن التطهير الكلي في الحدث الأكبر فقال:"وإن كنتم جنبا فاطهروا".
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} ممن يتحرك الإيمان في حياتهم العمليّة، فلا يبقى مجرد فكرة في العقل ونبضةٍ في القلب وكلمة في اللسان، بل يتحول إلى حركةٍ في الواقع الإنساني في الحياة، وهذا هو النّهج الَّذي أراد الله لكم اتباعه كي تتبيّنوا ما تأخذون به أو تدعونه مما يصلح أموركم أو يبعدكم عما يفسدها،...
إنَّنا نفهم من ذلك كله أنَّ الإسلام الَّذي جعل الطهارة عبادة تتحرّك في الجوّ الصلاتي وفي كل الأجواء المتّصلة بالله، يؤكد أنّ للنظافة في تخطيطه التشريعي الدور الحيويّ الَّذي يمتد حتّى في نظافة كل ما يتصل بالإنسان في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وشهوته وغير ذلك. وهذه من مميزات الإسلام في تخطيطه التشريعي الَّذي يؤكد على حماية الإنسان من كل قذارة ماديّة تسيء إلى روحه وبدنه وحياة النّاس من حوله، أو قذارة روحيّة تسيء إلى روحه وأخلاقيته وسلوكه الفرديّ والمجتمعيّ، الأمر الَّذي يوحي بأنَّ الإنسان القذر بعيد عن الله في بدنه وروحه. أمّا التيمم، فإنَّه يمثّل البديل الإيحائيّ عن الوضوء والغسل عند عدم وجود الماء أو عدم التمكن من استعماله، حتَّى لا يبقى المكلَّف من دون بديل، فكان التراب أو الأرض هو الواجب الجديد الَّذي يوحي بالمعنى الروحيّ العباديّ، على أساس مسح الجبهة بالتراب، وكذلك الكفين، ما يدل على الخضوع لله والتواضع له مع ما يمثِّلهُ اشتراط الصعيد بالطهارة من إيحاءات الطهارة، واشتراط نيّة القربة فيه الذي يجعل الإنسان يفكر بأنَّ الله خلقه من تراب ليتعبّد إلى الله في خلقه، ليعبّر ذلك عن إيحاءٍ روحيّ ينساب في وجدانه، ليدخل إلى الصلاة في طهارةٍ ترابيّةٍ عباديّةٍ تنفتح به على سرِّ وجوده، ليتكامل في موقفه بين يدي ربِّه في إحساسه الروحيّ بالأرض الّتي جاء الحديث النبويّ الشريف فيها: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً». ما يعني بأنَّها رمز الطهارة كما هي موضع السجود. والله العالم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويجب هنا الانتباه إلى أن جملة (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) مع أنّها وردت في أواخر الآيات التي اشتملت على أحكام الغسل والوضوء والتيمم، إِلاّ أنّها تبيّن قانوناً عامّاً معناه أنّ أحكام الله ليست تكاليف شاقّة أبداً، ولو كان في أي حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أي فرد بسبب مرض أو شيخوخة أو ما شابه ذلك، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه، بناء على هذا الدليل نفسه. ولا يخفي أيضاً أنّ هناك من الأحكام الإِلهية ما يظهر فيها الصعوبة والمشقة بذاتها مثل حكم الجهاد، إِلاّ أنّه ولدى مقارنة المصالح التي تتحقق بالجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه، تترجح كفة المصالح وأهميتها فلا تكون المشاق أمامها شيئاً يذكر، وقد سمي القانون الذي أثبتته الجملة القرآنية الأخيرة بقانون «لا حرج» وهو مبدأ أساسي يستخدمه الفقهاء في أبواب مختلفة ويستنبطون منه أحكاماً كثيرة.