{ 93 } { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ }
أي : أنزلهم الله وأسكنهم في مساكن آل فرعون ، وأورثهم أرضهم وديارهم .
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } من المطاعم والمشارب وغيرهما { فَمَا اخْتَلَفُوا } في الحق { حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } الموجب لاجتماعهم وائتلافهم ، ولكن بغى بعضهم على بعض ، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحق ، فحصل بينهم من الاختلاف شيء كثير .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام ، وقدرته الشاملة ، وهذا هو الداء ، الذي يعرض لأهل الدين الصحيح .
وهو : أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية ، سعى في التحريش بينهم ، وإلقاء العداوة والبغضاء ، فحصل من الاختلاف ما هو موجب ذلك ، ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض ، وعداوة بعضهم لبعض ، ما هو قرة عين اللعين .
وإلا فإذا كان ربهم واحدًا ، ورسولهم واحدًا ، ودينهم واحدًا ، ومصالحهم العامة متفقة ، فلأي شيء يختلفون اختلافًا يفرق شملهم ، ويشتت أمرهم ، ويحل رابطتهم ونظامهم ، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت ، ويموت من دينهم ، بسبب ذلك ما يموت ؟ .
فنسألك اللهم ، لطفًا بعبادك المؤمنين ، يجمع شملهم ويرأب صدعهم ، ويرد قاصيهم على دانيهم ، يا ذا الجلال والإكرام .
يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية ف { مُبَوَّأَ صِدْقٍ } {[14407]} قيل : هو بلاد مصر والشام ، مما يلي بيت المقدس ونواحيه ، فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها ، كما قال الله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] وقال في الآية الأخرى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 57 - 59 ]{[14408]} ولكن استمروا مع موسى ، عليه السلام ، طالبين إلى بلاد بيت المقدس [ وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس ]{[14409]} وكان فيه قوم من العمالقة ، [ فنكل بنو إسرائيل عن قتال العمالقة ]{[14410]} فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة ، ومات فيه{[14411]} هارون ، ثم ، موسى ، عليهما السلام ، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون ، ففتح الله عليهم بيت المقدس ، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من الدهر ، ثم عادت إليهم ، ثم أخذها ملوك اليونان ، وكانت تحت أحكامهم{[14412]} مدة طويلة ، وبعث الله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، في تلك المدة ، فاستعانت اليهود - قبحهم{[14413]} الله - على معاداة عيسى ، عليه السلام ، بملوك اليونان ، وكانت تحت أحكامهم ، ووشوا عندهم ، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا{[14414]} من يقبض عليه ، فرفعه الله إليه ، وشُبّه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره{[14415]} فأخذوه فصلبوه ، واعتقدوا أنه هو ، { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [ النساء : 157 ، 158 ] ثم بعد المسيح ، عليه السلام بنحو [ من ]{[14416]} ثلثمائة سنة ، دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان - في دين النصرانية ، وكان فيلسوفا قبل ذلك . فدخل في دين النصارى قيل : تقية ، وقيل : حيلة ليفسده ، فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة وبدعًا أحدثوها ، فبنى لهم الكنائس والبيَع الكبار والصغار ، والصوامع والهياكل ، والمعابد ، والقلايات . وانتشر دين النصرانية{[14417]} في ذلك الزمان ، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف ، ووضع وكذب ، ومخالفة لدين المسيح . ولم يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل من الرهبان ، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه والقفار ، واستحوذت يدُ النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم ، وبنى هذا الملك المذكور مدينة قسطنطينية ، والقُمَامة ، وبيت لحم ، وكنائس [ بلاد ]{[14418]} بيت المقدس ، ومدن حَوْران كبُصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة ، وعبدوا الصليب من حينئذ ، وصلوا إلى الشرق ، وصوروا الكنائس ، وأحلوا لحم الخنزير ، وغير ذلك مما أحدثوه من{[14419]} الفروع في دينهم والأصول ، ووضعوا له الأمانة الحقيرة ، التي يسمونها الكبيرة ، وصنفوا له القوانين ،
والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها{[14420]} منهم الصحابة ، رضي الله عنهم ، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، ولله الحمد والمنة .
وقوله : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : الحلال ، من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا .
وقوله : { فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } أي : ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم ، أي : ولم يكن لهم أن يختلفوا ، وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس . وقد ورد في
الحديث : أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، منها واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار . قيل : من هم{[14421]} يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .
رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ ، وهو في السنن والمسانيد{[14422]} ولهذا قال الله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } أي : يفصل بينهم { يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
عطف على الجمل الماضية فإن جميع تلك الجمل مقصود منها موعظة الكفار من العرب بأحوال من سبقهم من الأمم في مشابهة كفرهم بكفرهم وبما حل بهم من أنواع العذاب جزاء كفرهم كما قال تعالى : { أكُفاركم خير من أولئكم } [ القمر : 43 ] .
فلما ضرب الله مثل السوء أتْبعَه بمثل الصلاح بحال الذين صدقوا الرسول واتبعوه ، وكيف كانت عاقبتهم الحسنى ليظهر الفرق بين مصيري فريقين جاءهم رسول فآمن به فريق وكفر به فريق ، ليكون ذلك ترغيباً للمشركين في الإيمان ، وبشارة للمؤمنين من أهل مكة .
فالمراد ببني إسرائيل القوم المتحدث عنهم بقوله : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } [ يونس : 91 ] الآية وترتيب الإخبار يقتضي أن الله بَوأهم مُبَوّأ صدق عقب مجاوزتهم البحر غرَقِ فرعون وجنوده ، فإنهم دخلوا بعد ذلك صحراء التيه وأمنوا على أنفسهم وأقبلوا على تزكية نفوسهم وإصلاح شؤونهم ، ورُزقوا المنّ والسَّلوى ، وأعطوا النصر على الأمم التي تعرضت لهم تحاول منعهم من امتلاك الأرض الطيبة .
فما زالوا يتدرّجون في مدارج الخير والإنعام فذلك مُبَوّأ الصدق .
فمعنى { فما اختلفوا } أولئك ولا مَن خلفهم من أبنائهم وأخلافهم .
والتبوّؤ تقدم آنفاً ، والمُبَوّأ : مكان البَوْء ، أي الرجوع ، والمراد المسكن كما تقدم ، وإضافته إلى ( صدق ) من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ويجوز أن يكون المبوّأ مصدراً ميمياً . والصدق هنا بمعنى الخالص في نوعه . وتقدم عند قوله تعالى : { أنّ لهم قَدَمَ صدق عند ربهم } [ يونس : 2 ] . والمراد بمبوأ الصدق ما فتح الله عليهم من بلاد فلسطين وما فيها من خصب وثراء قال تعالى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون مشارقَ الأرض ومغاربَها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] .
وتفريع قوله : { فما اختلفوا } على { بوأنا } وما عطف عليه تفريعُ ثناء عليهم بأنهم شكروا تلك النعمة ولم يكفروها كما كفرها المشركون الذين بوَّأهم الله حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء ، فجعلوا لله شركاء ، ثم كفروا بالرسول المرسل إليهم . فوقع في الكلام إيجاز حذف . وتقدير معناه : فشكروا النعمة واتبعوا وصايا الأنبياء وما خالفوا ذلك إلا من بعد ما جاءهم العلم .
والاختلاف افتعال أريد به شدة التخالف ولا يعرف لمادة هذا المعنى فعل مجرد . وهي مشتقة من الاسم الجامد وهو الخَلْف لمعنى الوراء فتعين أن زيادة التاء للمبالغة مثل ( اكتسب ) مبالغة في ( كسب ) ، فيحمل على خلاف تشديد وهو مضادة ما جاء به الدين وما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المناسب للسياق فإن الكلام ثناء مردف بغاية تؤذن أنّ ما بعد الغاية نهاية للثناء وإثبات للوم إذ قد نفى عنهم الاختلاف إلى غاية تؤذن بحصول الاختلاف منهم عند تلك الغاية فالذين لم يختلفوا هم الذين بوّأهم الله مُبوّأ صدق .
وقد جاءوا بعدهم إلى أن جاء الذين اختلفوا على الأنبياء . وهؤلاء ما صدق ضمير الرفع في قوله : { جاءهم العلم } [ آل عمران : 19 ] .
وما جاءهم من العلم يجوز أن يكون ما جاءهم به الأنبياء من شرع الله فلم يعملوا بما جاؤوهم به ، وأعظم ذلك تكذيبهم بمحمد عليه الصلاة والسلام .
فعن ابن عباس : هم اليهود الذين كانوا في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانوا قبل مبعثه مقرين بنبيء يأتي ، فلما جاءهم العلم ، وهو القرآن اختلفوا في تصديق محمد عليه الصلاة والسلام ، قال ابن عباس : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع .
ويجوز أن يكون العلم هو القرآن ، وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية كمعنى قوله : { إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } [ آل عمران : 19 ] ، وقوله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] فإن البينة هي محمد صلى الله عليه وسلم لأن قبل هذا قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفاً مطهّرة } [ البينة : 1 ، 2 ] الآية . وقال تعالى : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] .
وهذا المحمل هو المناسب لحرف ( حتى ) في قوله تعالى : { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } .
وتعقيبُ { فما اختلفوا } بالغاية يؤذن بأنّ ما بعد الغاية منتهى حالة الشكر ، أي فبقوا في ذلك المُبَوّأ ، وفي تلك النعمة ، حتى اختلفوا فسلبت نعمتهم فإن الله سلبهم أوطانهم .
وجملة : { إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة } تذييل وتوعد ، والمقصود منه : أن أولئك قوم مضَوا بما عملوا وأن أمرهم إلى ربهم كقوله : { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } [ البقرة : 134 ] ، وفيه إيماء إلى أن على الحاضرين اليوم أن يفكروا في وسائل الخلاص من الضلال والوقوع في المؤاخذة يوم القيامة .
و ( بينَ ) ظرفُ مكان للقضاء المأخوذ من فعل ( يَقضي ) ففعل القضاء كأنه متخلّل بينهم لأنه متعلق بتبيين المحق والمبطل .
وضمير { بينهم } عائد إلى ما يفهم من قوله : { فما اختلفوا } من وُجود مخالف ( بكسر اللام ) ومخالَف ( بفتحها ) .