تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (22)

{ 22 } { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .

يقول تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : لا يجتمع هذا وهذا ، فلا يكون العبد مؤمنا بالله واليوم الآخر حقيقة ، إلا كان عاملا على مقتضى الإيمان{[1022]}  ولوازمه ، من محبة من قام بالإيمان وموالاته ، وبغض من لم يقم به ومعاداته ، ولو كان أقرب الناس إليه .

وهذا هو الإيمان على الحقيقة ، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه ، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي : رسمه وثبته وغرسه غرسا ، لا يتزلزل ، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك .

وهم الذين قواهم الله بروح منه أي : بوحيه ، ومعونته ، ومدده الإلهي وإحسانه الرباني .

وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار ، ولهم جنات النعيم في دار القرار ، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وتختار ، ولهم أكبر النعيم وأفضله ، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا ، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات ، ووافر المثوبات ، وجزيل الهبات ، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية ، ولا فوقه نهاية{[1023]} .

وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله ، محب لمن ترك الإيمان{[1024]}  وراء ظهره ، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له ، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه ، فمجرد الدعوى ، لا تفيد شيئا ولا يصدق صاحبها .

ختام السورة:

تم تفسير قد سمع الله ، بحمد الله وعونه وتسديده .

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وسلم تسليما


[1022]:- في ب: إيمانه.
[1023]:- في ب: ولا وراءه.
[1024]:- في ب: لمن نبذ.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (22)

ثم قال تعالى :{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي : لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ }[ آل عمران : 28 ] الآية ، وقال تعالى :{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[ التوبة : 24 ] .

وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره : أنزلت هذه الآية { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ، حين قتل أباه يوم بدر ؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة ، رضي الله عنهم : { ولو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته } .

وقيل في قوله : { وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } نزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر{ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ } في{[28474]} الصديق ، هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن ، { أَوْ إِخْوَانَهُمْ } في مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ { أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } في عمر ، قتل قريبا له يومئذ أيضًا ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ ، والله أعلم .

قلت : ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر ، فأشار الصديق بأن يفادوا ، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ، وهم بنو العم والعشيرة ، ولعل الله أن يهديهم . وقال عمر : لا أرى ما رأى يا رسول الله ، هل{[28475]} تمكني من فلان - قريب لعمر - فأقتله ، وتمكن عليًا من عقيل ، وتمكن فلانًا من فلان ، ليعلم الله أنه ليست{[28476]} في قلوبنا هوادة للمشركين . . . القصة بكاملها .

وقوله : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي : من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه ، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان ، أي : كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته .

وقال السدي : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ } جعل في قلوبهم الإيمان .

وقال ابن عباس : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي : قواهم .

وقوله :{ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } كل هذا تقدم تفسيره غير مرة .

وفي قوله :{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } سر بديع ، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم ، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، والفضل العميم .

وقوله :{ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : هؤلاء حزبُ الله ، أي : عباد الله {[28477]} وأهل كرامته .

وقوله :{ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرهم{[28478]} في الدنيا والآخرة ، في مقابلة ما أخبر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان . ثم قال :{ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .

وقد قال بن أبي حاتم : حدثنا هارون بن حميد الواسطي ، حدثنا الفضل بن عَنْبَسة ، عن رجل قد سماه - يقال{[28479]} هو عبد الحميد بن سليمان ، انقطع من كتابي - عن الذَيَّال بن عباد قال : كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري : أعلم أن الجاه جاهان ، جاه يجريه الله على أيدي أوليائه لأوليائه ، وأنهم الخامل ذكرهم ، الخفية شخوصهم ، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . " إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء ، الذين إذا غابوا لم يُفتَقَدوا ، وإذا حضروا لم يُدْعَوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة " {[28480]} فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله : { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .

وقال نُعَيم بن حَمّاد : حدثنا محمد بن ثور ، عن يونس ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ، لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدًا ولا نعمة ، فإني وجدت فيما أوحيته إلي : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } قال سفيان : يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان . ورواه أبو أحمد العسكري .


[28474]:- (1) في م: "وفي".
[28475]:- (2) في م: "بل".
[28476]:* (3) في م: "ليس".
[28477]:- (1) في م: : عباده".
[28478]:- (2) في م: "ونصرتهم".
[28479]:- (3) في م: "فقال".
[28480]:- (4) الحديث أخرجه ابن ماجة في السنن برقم (3989) من طريق ابن لهيعة، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر مرفوعًا، وفيه ابن لهيعة وقد توبع، تابعه عياش بن عباس، عن عيسى بن عبد الرحمن به، رواه الحاكم في المستدرك (4/328) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (22)

{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَآدُّونَ مَنْ حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } } .

كان للمنافقين قرابة بكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان نفاقهم لا يخفى على بعضهم ، فحذر الله المؤمنين الخالصين من موادّة من يعادي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

ورُويت ثمانية أقوال متفاوتة قوة أسانيد استقصاها القرطبي في نزول هذه الآية وليس يلزم أن يكون للآية سبب نزول فإن ظاهرها أنها متصلة المعنى بما قبلها وما بعدها من ذم المنافقين وموالاتهم اليهود ، فما ذكر فيها من قصص لسبب نزولها فإنما هو أمثلة لمقتضى حكمها .

وافتتاح الكلام ب { لا تجد قوماً } يثير تشويقاً إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم .

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادّة من يعلم أنه محادّ الله ورسوله هي مما ينافي الإِيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبساً بها . فالكلام من قبل الكناية عن السعي في نفي وجدان قوم هذه صفتهم ، من قبيل قولهم : لا أَرَيَنَّك هاهنا ، أي لا تحضر هنا .

ومنه قوله تعالى : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس : 18 ] أراد بما لا يكون ، لأن ما لا يعلمه الله لا يجوز أن يكون موجوداً ، وكانت هذه عادة المؤمنين قبل الهجرة أيام كانوا بمكة . وقد نقلت أخبار من شواهد ذلك متفاوتة القوة ولكن كان الكفر أيامئذٍ مكشوفاً والعداوة بين المؤمنين والمشركين واضحة . فلما انتقل المسلمون إلى المدينة كان الكفر مستوراً في المنافقين فكان التحرز من موادّتهم أجدر وأحذر .

والمُوادّة أصلها : حصول المودّة في جانبين . والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودّة ، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتباراً بأن شأن الودّ أن يجلب وُدًّا من المودود للوادّ .

وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الودّ صادقاً لأن الوادَّ الصادق يقابله المودود بمثله . ويعرف ذلك بشواهد المعاملة ، وقرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يقل الله هنا { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] ، لأن المودة من أحوال القلب فلا تُتَصور معها التقية ، بخلاف قوله : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } إلى قوله : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] .

وقولُه : { ولو كانوا آباءهم } إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد يقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة .

ثم إن الذي يُحَادُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متجاهراً بذلك معلناً به ، أو متجاهراً بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوةٍ دنيوية ، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته قال تعالى : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } [ الممتحنة : 9 ] ولم يرخَّص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتّقاء شرّهم إن كان لهم بأس قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] .

وأما من عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شَرّه عن المسلمين ، قال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } [ الممتحنة : 8 ] .

ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بيّن شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البرّ والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } [ الممتحنة : 8 ] وأن لكل منهما حالتها .

ف { لو } وصلية وتقدم بيان معنى { لو } الوصلية عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة [ آل عمران : 91 ] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلّي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره .

وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن أهل الإِيمان الكامل لا يوادُّون من فيه معنى من محادّة الله ورسوله بخرق سياج شريعته عمداً والاستخفاف بحرمات الإِسلام ، وهؤلاء مثل أهل الظلم والعدوان في الأعمال من كل ما يؤذن بقلة اكتراث مرتكبه بالدّين وينبىء عن ضُعف احترامه للدين مثل المتجاهرين بالكبائر والفواحش الساخرين من الزواجر والمواعظ ، ومثل أهل الزيغ والضلال في الاعتقاد ممن يؤذن حالهم بالإِعراض عن أدلة الاعتقاد الحق ، وإيثار الهوى النفسي والعصبية على أدلة الاعتقاد الإِسلامي الحق . فعن الثوري أنه قال : كانوا يرون تنزيل هذه الآية على من يصحب سلاطين الجَور . وعن مالك : لا تجالِسْ القدرية وعَادِهم في الله لقوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } .

وقال فقهاؤنا : يجوز أو يجب هجران ذي البدعة الضالّة أو الانغماس في الكبائر إذا لم يقبل الموعظة .

وهذا كله من إعطاء بعض أحكام المعنى الذي فيه حكم شرعي أو وعيد لمعنى آخر فيه وصفٌ من نوع المعنى ذي الحكم الثابت . وهذا يرجع إلى أنواع من الشبَه في مسالك العلة للقياس فإن الأشياء متفاوتة في الشبه .

وقد استدل أئمة الأصول على حُجِّيّة الإِجماع بقوله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنم } [ النساء : 115 ] مع أن مهيع الآية المحْتج بها إنما هو الخروج عن الإِسلام ولكنهم رأوا الخروجَ مراتب متفاوتة فمخالفة إجماع المسلمين كلِّهم فيه شَبه اتّباع غير سبيل المؤمنين .

{ أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } .

الإِشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم { يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } .

والجملة مُستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الأوصاف السابقة ووقوعها عقب ما وصف به المنافقون من محادّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سابقاً وآنفاً ، وما توعدهم الله به أنه أعدّ لهم عذاباً شديداً ولهم عذاب مهين ، وأنهم حزب الشيطان ، وأنهم الخاسرون ، مما يَستشرِف بعده السامع إلى ما سيخبر به عن المتصفين بضد ذلك . وهم المؤمنون الذين لا يوادُّون من حادّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

وكتابة الإِيمان في القلوب نظير قوله : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] . وهي التقدير الثابت الذي لا تتخلف آثاره ، أي هم المؤمنون حقاً الذين زين الله الإِيمان في قلوبهم فاتّبعوا كمالَه وسلكوا شُعبه .

والتأييد : التقوية والنصر . وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { وأيدناه بروح القدس } في سورة [ البقرة : 87 ] ، أي أن تأييد الله إياهم قد حصل وتقرّر بالإِتيان بفعل المضيّ للدلالة على الحصول وعلى التحقق والدوام فهو مستعمل في معنييه .

والروح هنا : ما به كمال نوع الشيء من عمل أو غيره ، وروحٌ من الله : عنايته ولطفه . ومعاني الروح في قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح } في سورة [ الإِسراء : 85 ] ، ووعدهم بأنه يدخلهم في المستقبل الجنات خالدين فيها .

ورضَى الله عنهم حاصل من الماضي ومحقّق الدوام فهو مِثل الماضي في قوله : { وأيدهم } ، ورضاهم عن ربهم كذلك حاصل في الدنيا بثباتهم على الدين ومعاداة أعدائه ، وحاصل في المستقبل بنوال رضى الله عنهم ونوال نعيم الخلود .

وأما تحويل التعبير إلى المضارع في قوله : { ويدخلهم جنات } فلأنه الأصل في الاستقبال . وقد استغني عن إفادة التحقيق بما تقدمه من قوله تعالى : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } .

وقوله : { أولئك حزب الله } إلى آخره كالقول في { أولئك حزب الشيطان } [ المجادلة : 19 ] . وحرف التنبيه يحصل منه تنبيه المسلمين إلى فضلهم . وتنبيه من يسمع ذلك من المنافقين إلى ما حبا الله به المسلمين من خير الدنيا والآخرة لعل المنافقين يغبطونهم فيخلصون الإِسلام .

وشتان بين الحزبين . فالخسران لحزب الشيطان ، والفلاح لحزب الله تعالى .