{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } فأمر تعالى بذكره ، ووعد عليه أفضل جزاء ، وهو ذكره لمن ذكره ، كما قال تعالى على لسان رسوله : { من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم }
وذكر الله تعالى ، أفضله ، ما تواطأ عليه القلب واللسان ، وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته ، وكثرة ثوابه ، والذكر هو رأس الشكر ، فلهذا أمر به خصوصا ، ثم من بعده أمر بالشكر عموما فقال : { وَاشْكُرُوا لِي } أي : على ما أنعمت عليكم بهذه النعم ، ودفعت عنكم صنوف النقم ، والشكر يكون بالقلب ، إقرارا بالنعم ، واعترافا ، وباللسان ، ذكرا وثناء ، وبالجوارح ، طاعة لله وانقيادا لأمره ، واجتنابا لنهيه ، فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة ، وزيادة في النعم المفقودة ، قال تعالى : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية ، من العلم وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال ، بيان أنها أكبر النعم ، بل هي النعم الحقيقية ؟ التي تدوم ، إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل ، أن يشكروا الله على ذلك ، ليزيدهم من فضله ، وليندفع عنهم الإعجاب ، فيشتغلوا بالشكر .
ولما كان الشكر ضده الكفر ، نهى عن ضده فقال : { وَلَا تَكْفُرُونِ } المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر ، فهو كفر النعم وجحدها ، وعدم القيام بها ، ويحتمل أن يكون المعنى عاما ، فيكون الكفر أنواعا كثيرة ، أعظمه الكفر بالله ، ثم أنواع المعاصي ، على اختلاف أنواعها وأجناسها ، من الشرك ، فما دونه .
قال مجاهد في قوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ }{[2958]} يقول : كما فعلت فاذكروني .
قال عبد الله بن وهب ، عن هشام بن سعيد ، عن زيد بن أسلم : أن موسى ، عليه السلام ، قال : يا رب ، كيف أشكرك ؟ قال له ربه : تذكرُني ولا تنساني ، فإذا ذكرتني فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني .
وقال الحسن البصري ، وأبو العالية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، إن الله يذكر من ذكره ، ويزيد من شكره ويعذب من كفره .
وقال بعض السلف في قوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] قال : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا يُنْسَى ، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عمارة الصيدلاني ، حدثنا مكحول الأزدي قال : قلت لابن عمر : أرأيت قاتل النفس ، وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله ، وقد قال الله تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ؟ قال : إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته ، حتى يسكت .
وقال الحسن البصري في قوله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } قال : اذكروني ، فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي .
وعن سعيد بن جبير : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ، وفي رواية : برحمتي .
وعن ابن عباس في قوله { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }{[2959]} قال : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
وفي الحديث الصحيح : " يقول الله تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه " .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل : يا ابن آدم ، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملإ ذكرتك ، في ملإ من الملائكة - أو قال : [ في ]{[2960]} ملأ خير منهم - وإن دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا ، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا ، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول "
صحيح الإسناد : أخرجه البخاري من حديث قتادة{[2961]} . وعنده قال قتادة : الله أقرب بالرحمة .
وقوله تعالى : { وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } أمر الله تعالى بشكره ، ووعده على شكره بمزيد الخير ، فقال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن الفضيل{[2962]} بن فضالة - رجل من قيس - حدثنا أبو رجاء العطاردي ، قال : خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطْرف من خز لم نره{[2963]} عليه قبل ذلك ولا بعده ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه " . وقال روح مرة : " على عبده " {[2964]} .
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ( 152 )
قال سعيد بن جبير : معنى الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة .
قال القاضي أبو محمد : أي اذكروني عند كل أموركم فيحملكم خوفي على الطاعة فأذكركم حينئذ بالثواب ، وقال الربيع والسدي : المعنى اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحوه( {[1419]} ) .
وفي الحديث : إن الله تعالى يقول : «ابن آدم اذكرني في الرخاء أذكرك في الشدة »( {[1420]} ) ، وفي حديث آخر : إن الله تعالى يقول : «وإذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم »( {[1421]} ) وروي أن الكافر إذا ذكر الله ذكره الله باللعنة والخلود في النار ، وكذلك العصاة يأخذون بحظ من هذا المعنى( {[1422]} ) ، وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام «قل للعاصين لا يذكروني » .
و { اشكروا لي } واشكروني بمعنى واحد ، و { لي } أشهر وأفصح مع الشكر( {[1423]} ) ، ومعناه نعمي وأياديّ ، وكذلك إذا قلت شكرتك فالمعنى شكرت صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ، إذ معنى الشكر ذكر اليد وذكر مسديها معاً ، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف ، و { تكفرون } أي نعمي وأياديّ( {[1424]} ) ، وانحذفت نون الجماعة للجزم ، وهذه نون المتكلم ، وحذفت الياء التي بعدها تخفيفاً لأنها رأس آية ، ولو كان نهياً عن الكفر ضد الإيمان لكان : ولا تكفروا ، بغير النون .
الفاء للتفريع عاطفة جملة الأمر بذكر الله وشكره على جمل النعم المتقدمة أي إذ قد أنعمت عليكم بهاته النعم فأنا آمركم بذكري .
وقوله : { فاذكروني أذكركم } فعلان مشتقان من الذكر بكسر الذال ومن الذكر بضمها والكل مأمور به لأننا مأمورون بتذكر الله تعالى عند الإقدام على الأفعال لنذكر أوامره ونواهيه قال تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } [ آل عمران : 135 ] وعن عمر بن الخطاب أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه ، ومأمورون بذكر اسم الله تعالى بألسنتنا في جمل تدل على حمده وتقديسه والدعوة إلى طاعته ونحو ذلك ، وفي الحديث القدسي : " وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " .
والذكر في قوله : { أذكركم } يجيء على المعنيين ، ولا بد من تقدير في قوله : { فاذكروني } على الوجهين لأن الذكر لا يتعلق بذات الله تعالى فالتقدير اذكروا عظمتي وصفاتي وثنائي وما ترتب عليها من الأمر والنهي ، أو اذكروا نعمي ومحامدي ، وهو تقدير من دلالة الاقتضاء ، وأما { أذكركم } فهو مجاز ، أي أعاملكم معاملة من ليس بمغفول عنه بزيادة النعم والنصر والعناية في الدنيا ، وبالثواب ورفع الدرجات في الآخرة ، أو أخلق ما يفهم منه الناس في الملأ الأعلى وفي الأرض فضلكم والرضى عنكم ، نحو قوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] ، وحسن مصيركم في الآخرة ، لأن الذكر بمعنييه الحقيقيين مستحيل على الله تعالى . ثم إن تعديته للمفعول أيضاً على طريق دلالة الاقتضاء إذ ليس المراد تذكر الذوات ولا ذكر أسمائها بل المراد تذكر ما ينفعهم إذا وصل إليهم وذكر فضائلهم .
وقوله : { واشكروا لي } أمر بالشكر الأعم من الذكر من وجه أو مطلقاً ، وتعديته للمفعول باللام هو الأفصح وتسمى هذه اللام لام التبليغ ولام التبيين كما قالوا نصح له ونصحه كقوله تعالى : { فتعساً لهم } [ محمد : 8 ] وقول النابغة :
شَكَرتُ لك النُّعْمَى وأثنيتُ جاهداً *** وعطَّلْتُ أَعراض العُبَيْدِ بننِ عَامر
وقوله : { ولا تكفرون } نهي عن الكفران للنعمة ، والكفران مراتب أعلاها جحد النعمة وإنكارها ثم قصد إخفائها ، ثم السكوت عن شكرها غفلة وهذا أضعف المراتب وقد يعرض عن غير سوء قصد لكنه تقصير .
قال ابن عرفة : « ليس عطف قوله : { ولا تكفرون } بدليل على أن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده وذلك لأن الأمر بالشكر مطلق ( أي لأن الأمر لا يدل على التكرار فلا عموم له ) فيصدق بشكره يوماً واحداً فلما قال { ولا تكفرون } أفاد النهي عن الكفر دائماً » اهـ ، يريد لأن الفعل في سياق النهي يعم ، مثل الفعل في سياق النفي لأن النهي أخو النفي .