{ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا }
كان العرب في الجاهلية - من جبروتهم{[184]} وقسوتهم لا يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان ، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء لأنهم -بزعمهم- أهل الحرب والقتال والنهب والسلب ، فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعًا ، يستوي فيه رجالهم ونساؤهم ، وأقوياؤهم وضعفاؤهم . وقدم بين يدي ذلك أمرا مجملا لتتوطَّن على ذلك النفوس .
فيأتي التفصيل بعد الإجمال ، قد تشوفت له النفوس ، وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة ، فقال : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } : أي : قسط وحصة { مِمَّا تَرَكَ } أي : خلف { الْوَالِدَان } أي : الأب والأم { وَالْأَقْرَبُونَ } عموم بعد خصوص { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ }
فكأنه قيل : هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة ، وأن يرضخوا لهم ما يشاءون ؟ أو شيئا مقدرا ؟ فقال تعالى : { نَصِيبًا مَفْرُوضًا } : أي : قد قدره العليم الحكيم . وسيأتي -إن شاء الله- تقدير ذلك .
وأيضا فهاهنا توهم آخر ، لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير ، فأزال ذلك بقوله : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } فتبارك الله أحسن الحاكمين .
قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا ، فأنزل الله : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ [ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ]{[6643]} } أي : الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى ، يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله [ تعالى ]{[6644]} لكل منهم ، بما يدلي به إلى الميت من قرابة ، أو زوجية ، أو ولاء . فإنه لُحْمَة كَلُحمة النسب . وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هَرَاسة{[6645]} عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : جاءت أم كُجَّة{[6646]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن لي ابنتين ، وقد مات أبوهما ، وليس لهما شيء ، فأنزل الله تعالى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } الآية ، وسيأتي هذا الحديثُ عند آيتي الميراث بسياق آخر ، والله أعلم .
سمى الله عز وجل الأب والداً لأن الولد منه ومن الوالدة ، كما قال الشاعر : [ الرجز ]
*بِحَيْثُ يَعْتشُّ الغُرَابُ البَائِضُ*
لأن البيض من الأنثى والذكر{[3859]} ، قال قتادة وعكرمة وابن زيد : وسبب هذه الآية ، أن العرب كان منها من لا يورث النساء ويقول : لا يرث إلا من طاعن بالرمح وقاتل بالسيف فنزلت هذه الآية ، قال عكرمة : سببها خبر أم كحلة{[3860]} ، مات زوجها وهو أوس بن سويد وترك لها بنتاً فذهب عم بنيها إلى أن لا ترث فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال العم : هي يا رسول الله لا تقاتل ولا تحمل كلاً ويكسب عليها ولا تكسب ، واسم العم ثعلبة فيما ذكره . و { نصيباً مفروضاً } ، نصب على الحال ، كذا قال مكي ، وإنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال ، تقديره : فرضاً لذلك جاز نصبه ، كما تقول : لك عليَّ كذا وكذا حقاً واجباً ، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في الاسم الذي ليس بمصدر هذا النصب ، ولكان حقه الرفع .
استئناف ابتدائي ، وهو جار مجرى النتيجة لحكم إيتاء أموال اليتامى ، ومجرى المقدّمة لأحكام المواريث التي في قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] .
ومناسبة تعقيب الآي السابقة بها : أنّهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشدّاء بالأموال ، وحرمان الضعفاء ، وإبقاءهم عالة على أشدّائهم حتّى يكونوا في مقادتهم ، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم ، وكان أكبر العائلة يَحرم إخوته من الميراث معه فكان أولئك لضعفهم يصبرون على الحرمان ، ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم ، لأنّهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم ، فصاروا عالة على الناس .
وأخصّ الناس بذلك النساءُ فإنّهن يجدن ضعفاً من أنفسهنّ ، ويخشين عار الضيعة ، ويتّقين انحراف الأزواج ، فيتّخذن رضى أوليائهُنّ عدّة لهنّ من حوادث الدهر ، فلمّا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم ، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيباً ممّا ترك الوالدان والأقربون .
فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه ممّا ترك له الوالدان والأقربون ، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم ممّا ترك الوالدان والأقربون ، وذُكر النساءُ هناك تمهيداً لشرع الميراث ، وقد تأيّد ذلك بقوله : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى } [ النساء : 8 ] فإنّ ذلك يناسب الميراث ، ولا يناسب إيتاءَ أموال اليتامى .
ولا جرم أنّ من أهمّ شرائع الإسلام شرع الميراث ، فقد كان العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصيّة لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة ، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والودّ ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يُصرف لأبْناء الميّت الذكور ، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنّهم يصرفونه إلى عصبته من إخوة وأبناء عمّ ، ولا تعطى بناته شيئاً ، أمّا الزوجات فكنّ موروثات لا وارثات .
وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوّة إلاّ إذا كان الأبناء ذكوراً ، فلا ميراث للنساء لأنّهم كانوا يقولون إنّما يرث أموالنا من طاعن بالرمح ، وضرب بالسيف . فإن لم تكن الأبناءُ الذكورُ وَرِث أقربُ العصبة : الأبُ ثمّ الأخُ ثمّ العمّ وهكذا ، وكانوا يورثون بالتبنيّ وهو أن يتّخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبنِّي والمتبنَّى جميع أحكام الأبوّة .
ويورثون أيضاً بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا ، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يُخالف أحكام سكّانها ، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث : بالهجرة ، فالمهاجر يرث المهاجر ، وبالحلف ، وبالمعاقدة ، وبالأخوّة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ، ونزل في ذلك قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 33 ] الآية من هاته السورة . s وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة ، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين ، فشرع الله الميراث بالقرابة ، وجعل للنساء حظوظاً في ذلك فأتمّ الكلمة ، وأسبغ النعمة ، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها .
وقد كان قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب .
ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله ، لقصد تهيئة النفوس ، وحكمة هذا الإجمال حكمةُ ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقلَ لتسكن النفوس إليها بالتدريج .
روى الواحدي ، في أسباب النزول ، والطبري ، عن عكرمة ، وأحَدُهما يزيد على الآخر ما حاصله : إنّ أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كُحَّة فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : « إنّ زوجي قُتِل معك يوم أُحد وهاتان بنتاه وقد استوفى عمّهما مالَهما فما ترى يا رسول الله ؟ فواللَّهِ ما تَنْكحان أبداً إلاّ ولهما مال » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقضي الله في ذلك " . فنزلت سورة النساء وفيها : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] . قال جابر بن عبد الله : فقال رسول الله " ادع لي المرأة وصاحبَها " فقال لعمهما " أعطهما الثلثين وأعط أمّهما الثمن وما بقي فلَك " . ويروى : أنّ ابني عمّه سويد وعرفطة ، وروى أنّهما قتادة وعرفجة ، وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا دعا العَمّ أو ابني العمّ قال ، أو قالا له « يا رسول الله لا نعطي من لا يركب فرساً ولا يحمل كَلا ولا يَنكي عدوّا » فقال " انصرف أوْ انصرفا ، حتّى أنظرَ ما يحدث الله فيهنّ " فنزلت آية { للرجال نصيب } الآية . وروي أنّه لمّا نزلت هاته الآية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى وليّ البنتين فقال : " لا تفرّق من مال أبيهما شيئاً فإنّ الله قد جعل لهنّ نصيباً " والنصيب تقدّم عند قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } في سورة آل عمران ( 23 ) .
وقوله : بيان لمما ترك } لقصد تعميم ما ترك الوالدان والأقربون وتنصيص على أنّ الحقّ متعلّق بكلّ جزء من المال ، حتّى لا يستأثر بعضهم بشيء ، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن مَعِّد بن عدنان لأبنائه : مضر ، وربيعة ، وإياد ، وأنْمارِ ، فجعل لمضر الحمراء كلّها ، وجعل لربيعة الفرسَ ، وجعل لإياد الخادم ، وجعل لأنمار الحمار ، ووكَلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف الأربعة إلى الأفعى الجُرْهُمي في نَجْران ، فانصرفوا إليه ، فقسم بينهم ، وهو الذي أرسل المثَل : إنّ العَصَا من العُصَيَّة .
وقوله : { نصيباً مفروضاً } حال من ( نصيب ) في قوله : { للرجال نصيب } { وللنساء نصيب } وحيث أريد بنصيب الجنس جاء الحال منه مفرداً ولم يراع تعدّده ، فلم يُقَل : نصيبين مفروضين ، على اعتبار كون المذكور نصيبين ، ولا قيل : أنصباء مفروضة ، على اعتبار كون المذكور موزّعا للرجال وللنساء ، بل روعي الجنس فجيء بالحال مفرداً و { مفروضا } وصف ، ومعنى كونه مفروضاً أنّه معيّن المقدار لكلّ صنف من الرجال والنساء ، كما قال تعالى في الآية الآتية { فريضة من الله } [ النساء : 11 ] . وهذا أوضح دليل على أنّ المقصود بهذه الآية تشريع المواريث .