تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (35)

{ 35 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

هذا أمر من الله لعباده المؤمنين ، بما يقتضيه الإيمان من تقوى الله والحذر من سخطه وغضبه ، وذلك بأن يجتهد العبد ، ويبذل غاية ما يمكنه من المقدور في اجتناب ما يَسخطه الله ، من معاصي القلب واللسان والجوارح ، الظاهرة والباطنة . ويستعين بالله على تركها ، لينجو بذلك من سخط الله وعذابه . { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } أي : القرب منه ، والحظوة لديه ، والحب له ، وذلك بأداء فرائضه القلبية ، كالحب له وفيه ، والخوف والرجاء ، والإنابة والتوكل . والبدنية : كالزكاة والحج . والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها ، من أنواع القراءة والذكر ، ومن أنواع الإحسان إلى الخلق بالمال والعلم والجاه ، والبدن ، والنصح لعباد الله ، فكل هذه الأعمال تقرب إلى الله . ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله ، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي [ بها ] ويستجيب الله له الدعاء .

ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه ، الجهاد في سبيله ، وهو : بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال ، والنفس ، والرأي ، واللسان ، والسعي في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد ، لأن هذا النوع من أجل الطاعات وأفضل القربات .

ولأن من قام به ، فهو على القيام بغيره أحرى وأولى { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إذا اتقيتم الله بترك المعاصي ، وابتغيتم الوسيلة إلى الله ، بفعل الطاعات ، وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته .

والفلاح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب ، والنجاة من كل مرهوب ، فحقيقته السعادة الأبدية والنعيم المقيم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (35)

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه ، وهي إذا قرنت بالطاعة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات ، وقد قال بعدها : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } قال سفيان الثوري ، حدثنا أبي ، عن طلحة ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أي القربة . وكذا قال مجاهد [ وعطاء ]{[9774]} وأبو وائل ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الله بن كثير ، والسدي ، وابن زيد .

وقال قتادة : أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه . وقرأ ابن زيد : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } [ الإسراء : 57 ] وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه{[9775]} وأنشد ابن جرير عليه قول الشاعر{[9776]}

إذا غَفَل الواشُون عُدنَا لِوصْلنَا *** وعَاد التَّصَافي بَيْنَنَا والوسَائلُ

والوسيلة : هي التي يتوصل{[9777]} بها إلى تحصيل المقصود ، والوسيلة أيضًا : علم على أعلى منزلة في الجنة ، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة ، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش ، وقد ثبت في صحيح البخاري ، من طريق محمد بن المُنكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقامًا محمودا الذي وعدته ، إلا حَلَّتْ له الشفاعة يوم القيامة " .

حديث آخر في صحيح مسلم : من حديث كعب عن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جُبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلُّوا عَليّ ، فإنه من صلى عَليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة ، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حَلًّتْ عليه الشفاعة . " {[9778]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن لَيْث ، عن كعب ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا صليتم عَليّ فَسَلُوا لي الوسيلة " . قيل : يا رسول الله ، وما الوسيلة ؟ قال : " أعْلَى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رَجُلٌ واحد{[9779]} وأرجو أن أكون أنا هو " .

ورواه الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن أبي عاصم ، عن سفيان - هو الثوري - عن لَيْث بن أبي سُلَيم ، عن كعب قال : حدثني أبو هريرة ، به . ثم قال : غريب ، وكعب ليس بمعروف ، لا نعرف أحدًا روى عنه غير ليث بن أبي سليم . {[9780]}

طريق أخرى : عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع ، حدثنا محمد بن نصر الترمذي ، حدثنا عبد الحميد بن صالح ، حدثنا أبو شهاب ، عن ليث ، عن المعلى ، عن محمد بن كعب ، عن أبي هريرة رفعه قال : " صلوا عليَّ صلاتكم ، وسَلُوا الله لي الوسيلة " . فسألوه وأخبرهم : " أن الوسيلة درجة في الجنة ، ليس ينالها إلا رجل واحد ، وأرجو أن أكونه " . {[9781]} {[9782]}

حديث آخر : قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : أخبرنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ابن أبي ذئب{[9783]} عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوا الله لي الوسيلة ، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا - أو : شفيعًا - يوم القيامة " .

ثم قال الطبراني : " لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا موسى بن أعين " . كذا قال ، وقد رواه ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، فذكر بإسناده نحوه . {[9784]}

حديث آخر : روى ابن مردويه بإسناده عن عمارة بن غَزِيةَ ، عن موسى بن وَرْدان : أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الوسيلة درجة عند الله ، ليس فوقها درجة ، فسَلُوا

الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه " . {[9785]}

حديث آخر : روى ابن مردويه أيضًا من طريقين ، عن عبد الحميد بن بحر : حدثنا شَريك ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " في الجنة درجة تدعى الوسيلة ، فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة " . قالوا : يا رسول الله ، من يسكن معك ؟ قال : " علي وفاطمة والحسن والحسين " .

هذا حديث غريب منكر من هذا الوجه{[9786]}

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الحسن الدَّشْتَكِيّ ، حدثنا أبو زهير ، حدثنا سعد{[9787]} بن طَرِيف ، عن علي بن الحسين الأزْدِي - مولى سالم بن ثَوْبان - قال : سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة : يا أيها الناس ، إن في الجنة لؤلؤتين : إحداهما بيضاء ، والأخرى صفراء ، أما الصفراء فإنها إلى بُطْنَان العرش ، والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة ، كل بيت منها ثلاثة أميال ، وغرفها وأبوابها وأسرتها وكأنها{[9788]} من عرق واحد ، واسمها الوسيلة ، هي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، والصفراء فيها مثل ذلك ، هي لإبراهيم ، عليه السلام ، وأهل بيته .

وهذا أثر غريب أيضا{[9789]}

وقوله : { وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات ، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم ، التاركين للدين القويم ، ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة ، من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تَبِيد ولا تَحُول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة الآمنة ، الحسنة مناظرها ، الطيبة مساكنها ، التي من سكنها يَنْعَم لا ييأس ، ويحيا لا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه .


[9774]:زيادة من ر.
[9775]:في ر: "لا خلاف فيه بين المفسرين".
[9776]:البيت في تفسير الطبري (10/290).
[9777]:في د: "لوصلها".
[9778]:صحيح مسلم برقم (1384).
[9779]:في ر: "واحد في الجنة".
[9780]:المسند (2/265) وسنن الترمذي برقم (3612).
[9781]:في ر: "أكون"، وفي أ: "أن أكون هو".
[9782]:وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.ورواه البزار في مسنده برقم (252) "كشف الأستار" من طريق آخر، فرواه من طريق داود بن علية، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة بنحوه، وقال الهيثمي: "دواد بن علية ضعيف".
[9783]:في هـ: "ابن أبي حبيب" وهو خطأ.
[9784]:المعجم الأوسط للطبراني برقم (639) "مجمع البحرين" وقال الهيثمي في المجمع (1/333): "فيه الوليد بن عبد الملك الحراني قد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث إذا روي عن الثقات. قلت: وهذا من روايته عن موسى بن أعين وهو ثقة".
[9785]:ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (640، 641) "مجمع البحرين" من طريق عمارة بن غزية به.
[9786]:ووجه غرابته أنه من رواية عبد الحميد بن بحر البصري، قال ابن حبان: كان يسرق الحديث، والحارث هو الأعور كذبه الشعبي وضعفه جماعة.
[9787]:في ر: "سعيد".
[9788]:في أ: "وأكوابها".
[9789]:وفي إسناده سعد بن طريف الإسكافي، قال ابن معين: لا يحل لأحد أن يروي عنه، وقال أحمد وأبو حاتم: ضعيف، وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الفور. ميزان الاعتدال (2/122).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (35)

هذه الآية وعظ من الله تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين ، وهذا من أبلغ الوعظ لأنه يرد على النفوس وهي خائفة وجلة ، وعادة البشر إذا رأى وسمع أَمْرَ ُمْمَتِحن ببشيع المكاره أن يرق ويخشع ، فجاء الوعظ في هذه الحال ، { ابتغوا } معناه اطلبوا ، و { الوسيلة } القربة وسبب النجاح في المراد ، ومن ذلك قول عنترة لامرأته :

إن الرجال لهم إليك وسيلة . . . أن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وأما الوسيلة المطلوبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فهي أيضاً من هذا ، لأن الدعاء له بالوسيلة والفضيلة إنما هو أن يؤتاهما في الدنيا ويتصف بهما ويكون ثمرة ذلك في الآخرة التشفيع في المقام المحمود ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر :

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا . . . وعاد التصافي بيننا والوسائل

أنشده الطبري ، وقوله تعالى : { وجاهدوا في سبيله } خص الجهاد بالذكر لوجهين ، أحدهما نباهته في أعمال البر وأنه قاعدة الإسلام ، وقد دخل بالمعنى في قوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } ولكن خصه تشريفاً ، والوجه الآخر أنها العبادة التي تصلح لكل منهي عن المحاربة وهو ُمعٌّد لها من حاله وسنه وقوته وِشَّرةِ نفسه ، فليس بينه وبين أن ينقلب إلى الجهاد إلا توفيق الله تعالى .