تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

وأما خطابه للمؤمنين عندما أمرهم بمعاملة الكافرين ، فقال : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي : شرك وصد عن سبيل اللّه ، ويذعنوا لأحكام الإسلام ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين ، أن يدفع شرهم عن الدين ، وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له ، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان .

فَإِنِ انْتَهَوْا عن ما هم عليه من الظلم فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه منهم خافية .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

وقوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } قال البخاري : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا عبد الله بن يحيى ، حدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح ، عن بكر بن عمرو ، عن بُكَيْر ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رجلا جاءه فقال : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } الآية [ الحجرات : 9 ] ، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه ؟ فقال : يا ابن أخي ، أُعَيَّر بهذه الآية ولا أقاتل ، أحب إلي من أن أُعَيَّر بالآية التي يقول الله ، عز وجل : : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } إلى آخر{[12935]} الآية [ النساء : 93 ] ، قال : فإن الله تعالى يقول : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال ابن عمر : قد فعلنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يُفتن في دينه : إما أن يقتلوه ، وإما أن يوثقوه ، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد ، قال : فما قولك في علي وعثمان ؟ قال ابن عمر : ما قولي في علي وعثمان ؟ أما عثمان فكان الله قد عفا عنه ، وكرهتم أن يعفو عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنُه - وأشار بيده - وهذه ابنته أو : بنته - حيث ترون .

وحدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا بَيَان أن وَبَرة حدثه قال : حدثني سعيد بن جُبَيْر قال : خرج علينا - أو : إلينا - ابن عمر ، رضي الله عنهما ، فقال رجل : كيف ترى في قتال الفتنة ؟ فقال : وهل تدري ما الفتنة ؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين ، وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس بقتالكم على الملك .

هذا كله سياق البخاري ، رحمه الله{[12936]}

وقال عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس قد صنعوا ما ترى ، وأنت ابن عمر بن الخطاب ، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم عليَّ دم أخي المسلم . قالوا : أو لم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ؟

قال : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وكان الدين كله لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ، ويكون الدين لغير الله .

وكذا رواه حمَّاد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أيوب بن عبد الله اللخمي قال : كنت عند عبد الله بن عمر{[12937]} رضي الله عنهما ، فأتاه رجل فقال : إن الله يقول : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } فقال{[12938]} ابن عمر : قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله ، وذهب الشرك ولم تكن فتنة ، ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ، ويكون الدين لغير الله . رواهما ابن مَرْدُوَيه .

وقال أبو عَوَانة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْمِي ، عن أبيه قال : قال ذو البطين - يعني أسامة بن زيد - لا أقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله أبدا . قال : فقال سعد بن مالك : وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله أبدا . فقال رجل : ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ؟ فقالا قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وكان الدين كله لله . رواه ابن مردويه .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } يعني : [ حتى ]{[12939]} لا يكون شرك ، وكذا قال أبو العالية ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والربيع عن أنس ، والسدي ، ومُقاتِل بن حَيَّان ، وزيد بن أسلم .

وقال محمد بن إسحاق : بلغني عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيره من علمائنا : { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } حتى لا يفتن مسلم عن دينه .

وقوله : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } قال الضحاك ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : يخلص التوحيد لله .

وقال الحسن وقتادة ، وابن جُرَيْج : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } أن يقال : لا إله إلا الله .

وقال محمد بن إسحاق : ويكون التوحيد خالصا لله ، ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من الأنداد . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } لا يكون مع دينكم كفر .

ويشهد له{[12940]} ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها ، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، عز وجل " {[12941]} وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حَمِيَّة ، ويقاتل رِيَاءً ، أيُّ ذلك في سبيل الله ، عز وجل ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله ، عز وجل " {[12942]}

وقوله : { فَإِنِ انْتَهَوْا } أي : بقتالكم عما هم فيه من الكفر ، فكفوا عنه{[12943]} وإن لم تعلموا{[12944]} بواطنهم ، { فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }{[12945]} كما قال تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] ، وفي الآية الأخرى : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 ] .

وقال : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 193 ] . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة - لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال : " لا إله إلا الله " ، فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله - فقال لأسامة : " أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ " قال : يا رسول الله ، إنما قالها تعوذا . قال : " هلا شَقَقْتَ عن قلبه ؟ " ، وجعل يقول ويكرر عليه : " من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ " قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم{[12946]} {[12947]}

/خ40


[12935]:في ك، م: "آخرها".
[12936]:صحيح البخاري برقم (4650، 4651).
[12937]:في أ: "عمرو".
[12938]:في أ: "قال".
[12939]:زيادة من م.
[12940]:في أ: "لهذا"
[12941]:رواه البخاري في صحيحه برقم (25) ومسلم في صحيحه برقم (22) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما.
[12942]:صحيح البخاري برقم (2810) وصحيح مسلم برقم (1904).
[12943]:في ك، م: "عنهم".
[12944]:في ك، م: "إن كنتم لا تعلمون".
[12945]:في ك، م: "تعملون".
[12946]:في ك، م: "يومئذ".
[12947]:صحيح البخاري برقم (4269) وصحيح مسلم برقم (96).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

وقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } الآية ، أمر من الله عز وجل فرض به على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار ، و «الفتنة » قال ابن عباس وغيره معناها الشرك ، وقال ابن إسحاق : معناها حتى لا يفتن أحد عن دينه كما كانت قريش تفعل بمكة بمن أسلم كبلال وغيره ، وهو مقتضى قول عروة بن الزبير في جوابه لعبد الملك بن مروان حين سأله عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً{[5347]} ، وقوله { ويكون الدين كله لله } أي لا يشرك معه صنم ولا وثن ولا يعبد غيره ، وقال قتادة حتى تستوسق{[5348]} كلمة الإخلاص لا إله إلا الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذه المعاني تتلازم كلها ، وقال الحسن : حتى لا يكون بلاء ، وهذا يلزم عليه القتال في فتن المسلمين الفئة الباغية ، على سائر ما ذكرناه من الأقوال يكون المعتزل في فسحة ، وعلى هذا جاء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه أما نحن فقد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وأما أنت وأصحابك فتزيدون أن نقاتل حتى تكون فتنة .

قال القاضي أبو محمد : فمذهب عمر أن «الفتنة » الشرك في هذه الآية وهو الظاهر ، وفسر هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله »{[5349]} ، ومن قال المعنى حتى لا يكون شرك فالآية عنده يريد بها الخصوص فيمن لا يقبل منه جزية ، قال ابن سلام : وهي في مشركي العرب ، ثم قال الله تعالى : { فإن انتهوا } أي عن الكفر فإن الله بصير بعملهم مجاز عليه ، عنده ثوابه وجميل المعاوضة عليه{[5350]} وقرأ يعقوب بن إسحاق وسلام بن سليمان «بما تعملون » بالتاء أي في قتالكم وجدكم وجلادكم عن دينه .


[5347]:- روى ابن جرير الطبري عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة: "سلام عليك، فإني أحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فأنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وسأخبرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله" ثم حدثه كيف بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وكيف قابله قومه بالتعذيب له ولأصحابه، بالسعي لفتنة المسلمين، وكيف أمرهم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بالهجرة إلى الحبشة، فلما فشا الإسلام ودخل فيه من دخل وبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة، وعلموا أن المسلمين صاروا بمأمن فهم لا يفتنون رجعوا إلى مكة، فلما انتشر الإسلام بالمدينة عادت قريش إلى التآمر على فتنة المسلمين. قال عروة في آخر رسالته: "وكانت فتنة الآخرة". إلى أن قال: "فاشتدت عليهم قريش، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وخرج هو، وهي التي أنزل الله فيها {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} اهـ. وكتاب عروة هذا في تفسير الطبري.
[5348]:- بمعنى: تجتمع، يقال: استوسق الشيء: اجتمع وانضم، واستوسق الأمر: انتظم، واستوسق له الأمر: أمكنه أن يجمع السلطة والكلمة في يده.
[5349]:- الحديث متواتر، ورواه عن أبي هريرة البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، ورمز له السيوطي في (الجامع الصغير) بأنه صحيح.
[5350]:- جاء في بعض النسخ "المعاوضة" بدلا من "المقارضة".