ثم ورثه في ذريته ، ووصاهم به ، وجعلها كلمة باقية في عقبه ، وتوارثت فيهم ، حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه .
فأنتم - يا بني يعقوب - قد وصاكم أبوكم بالخصوص ، فيجب عليكم كمال الانقياد ، واتباع خاتم الأنبياء قال : { يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } أي : اختاره وتخيره لكم ، رحمة بكم ، وإحسانا إليكم ، فقوموا به ، واتصفوا بشرائعه ، وانصبغوا بأخلاقه ، حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه ، لأن من عاش على شيء ، مات عليه ، ومن مات على شيء ، بعث عليه .
وقوله : { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } أي : وصى بهذه الملة{[2833]} وهي الإسلام لله [ أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله :
{ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ] {[2834]} . لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم ؛ كقوله تعالى : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [ الزخرف : 28 ] وقد قرأ بعض السلف " ويعقوب " بالنصب عطفًا على بنيه ، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك ، وقد ادعى القشيري ، فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح ؛ والظاهر ، والله أعلم ، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة ؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض ، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة ، وأيضًا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ الآية : 27 ] وقال في الآية الأخرى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] وهذا يقتضي أنه وجد في حياته ، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس ، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة ، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول ؟ قال : " المسجد الحرام " ، قلت : ثم أي ؟ قال : " بيت المقدس " . قلت : كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " الحديث{[2835]} . فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس - وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه - وبين إبراهيم أربعين سنة ، وهذا مما أنكر على ابن حبان ، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين ، والله أعلم ، وأيضًا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا ، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين .
وقوله : { يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم{[2836]} الله الوفاة عليه . فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه ، ويبعث على ما مات عليه . وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفّق له ويسر{[2837]} عليه . ومن نوى صالحًا ثبت عليه . وهذا لا يعارض ما جاء ، في الحديث [ الصحيح ]{[2838]} " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا بَاعٌ أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها{[2839]} . وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " ؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث : " فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس . وقد قال الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 5 - 10 ] .
{ ووصى بها إبراهيم بنيه } التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة ، وأصلها الوصل يقال : وصاه إذا وصله ، وفصاه : إذا فصله ، كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى ، والضمير في بها للملة ، أو لقوله أسلمت على تأويل الكلمة ، أو الجملة وقرأ نافع وابن عامر وأوصى والأول أبلغ { ويعقوب } عطف على إبراهيم ، أي ووصى هو أيضا بها بنيه . وقرئ بالنصب على أنه ممن وصاه إبراهيم { يا بني } . على إضمار القول عند البصريين ، متعلق بوصى عند الكوفيين لأنه نوع منه ونظيره :
رجلان من ضبة أخبرانا *** أنا رأينا رجلا عريانا
بالكسر ، وبنو إبراهيم كانوا أربعة : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان . وقيل : ثمانية . وقيل : أربعة عشر : وبنو يعقوب إثنا عشر : روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا ويشسوخور وبولون وتفتوني ودون وكودا وأوشير وبنيامين ويوسف { إن الله اصطفى لكم الدين } دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، والمقصود هو النهي عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا ، والأمر بالثبات على الإسلام كقولك : لا تصل إلا وأنت خاشع ، وتغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه ، وأن من حقه أن لا يحل بهم ، ونظيره في الأمر مت وأنت شهيد . وروي أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت .
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }( 132 )
وقرأ نافع وابن عامر «وأوصى » ، وقرأ الباقون { ووصى } ، والمعنى واحد ، إلا أن وصى يقتضي التكثير ، والضمير في { بها } عائد على كلمته التي هي { أسلمت لرب العالمين } ، وقيل : على الملة المتقدمة ، والأول أصوب لأنه أقرب مذكور( {[1282]} ) ، وقرأ عمرو بن فائد الأسواري «ويعقوبَ » بالنصب على أن يعقوب داخل فيمن أوصى( {[1283]} ) ، واختلف في إعراب رفعه ، فقال قوم من النحاة : التقدير ويعقوب أوصى بنيه أيضاً ، فهو عطف على { إبراهيم } ، وقال بعضهم : هو مقطوع منفرد بقوله { يا بني } ، فتقدير الكلام ويعقوب قال يا بني( {[1284]} ) ، و { اصطفى } هنا معناه تخير صفة الأديان ، والألف واللام في { الدين } للعهد( {[1285]} ) ، لأنهم قد كانوا عرفوه ، وكسرت { إنّ } بعد
{ أوصى } لأنها بمعنى القول ، ولذلك سقطت «إن » التي تقتضيها «أوصى » في قوله «أن يا بني » ، وقرأ ابن مسعود والضحاك «أن يا بني » بثبوت أن .
وقوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } إيجاز بليغ ، وذلك أن المقصود منه أمرهم بالإسلام والدوام عليه( {[1286]} ) ، فأتى ذلك بلفظ موجز يقتضي المقصود ويتضمن وعظاً وتذكيراً بالموت ، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى ؟ فإذا أمر بأمر( {[1287]} ) لا يأتيه الموت إلا وهو عليه ، فقد توجه من وقت الأمر دائباً لازماً( {[1288]} ) ، وحكى سيبويه فيما يشبه هذا المعنى قولهم : لا أرينك ها هنا( {[1289]} ) ، وليس إلى المأمور أن يحجب إدراك الأمر عنه ، فإنما المقصود ، اذهب وزل عن هاهنا ، فجاء بالمقصود بلفظ يزيد معنى الغضب والكراهية ، و { أنتم مسلمون } ابتداء وخبر في موضع الحال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ووصى بها}: بالإخلاص {إبراهيم بنيه}...: إسماعيل، وإسحاق... ثم وصى بها يعقوب بنيه يوسف وإخوته... {ويعقوب يا بني}: أي فقال يعقوب لبنيه...: {إن الله} عز وجل {اصطفى} يعني: اختار {لكم الدين}: دين الإسلام، {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}: مخلصون بالتوحيد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَوَصّى بِهَا}: ووصى بهذه الكلمة أعني بالكلمة قوله:"أسْلَمْتُ لِرَبّ العالَمِينَ" وهي الإسلام الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله، وخضوع القلب والجوارح له.
{وَوَصّى بها إبْرَاهِيم بَنِيه}: عهد إليهم بذلك وأمرهم به.
وأما قوله: "وَيَعْقُوبُ":فإنه يعني: ووصى بذلك أيضا يعقوبُ بنيه...
"يا بَنِيّ إِنّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُم الدّينَ": إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه واجتباه لكم. وإنما أدخل الألف واللام في «الدين»، لأن الذين خوطبوا من ولدهما وبنيهما بذلك كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به وعهدهما إليهم فيه، ثم قالا لهم بعد أن عَرّفَاهُموه: إن الله اصطفى لكم هذا الدين الذي قد عهد إليكم فيه، فاتقوا الله أن تموتوا إلا وأنتم عليه.
{فَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
إن قال لنا قائل: أَوَ إلى بني آدم الموت والحياة فينهى أحدهم أن يموت إلا على حالة دون حالة؟ قيل له: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننت، وإنما معناه: {فَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي فلا تفارقوا هذا الدين وهو الإسلام أيام حياتكم وذلك أن أحدا لا يدري متى تأتيه منيته، فلذلك قالا لهم: {فَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وأنْتُمْ مُسلِمُونَ} لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم من ليل أو نهار، فلا تفارقوا الإسلام فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربكم ساخط عليكم فتهلكوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ووصى بها} يعني بالملة، والملة تحتمل ما ذكرنا. وقوله: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين} وهو الإسلام ردا على قول أولئك الكفرة: (إن إبراهيم كان على دينه؛ لأن اليهود زعمت أنه كان على دينهم يهوديا)، وقالت النصارى: (بل كان على النصرانية). وعلى ذلك [كانوا لغيرهم يقولون]: {كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} [البقرة: 135]. فلما ادعى كل واحد من الفريقين أنه كان على دينهم أكذبهم الله عز وجل في قولهم، ورد عليهم ذلك، فقال: [قل] يا محمد: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} [آل عمران: 67]. فعلى ذلك قوله: {اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}: أخبر عز وجل أن دينه كان دين الإسلام، وهو الذي اصطفاه له، والدين الذي اختاروا هم من اليهودية والنصرانية لقوله تعالى: {أم للإنسان ما تمنى} [النجم: 24] {فلله الآخرة والأولى} [النجم: 25]: أي ليس له...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ووصّى أبلغ من أوصى، لأن أوصى يجوز أن يكون قاله مرة واحدة، وَوَصَّى لا يكون إلا مراراً.
{فَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُمْ مُسْلِمُونَ}: الزموا الإسلام ولا تفارقوه إلى الموت...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إن الله اصطفى لكم الدين}: بِشارة بما تقوي به دواعيهم على الرغبة فيما يكلفهم من الإسلام، لأنهم إذا تحققوا أن الله سبحانه اصطفى لهم ذلك علموا أنه لا محالة يعينهم فيسهل عليهم القيام بحق الإسلام...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اصطفى لَكُمُ الدين} أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام. ووفقكم للأخذ به.
{فَلاَ تَمُوتُنَّ} معناه فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا، كقولك: لا تصلّ إلا وأنت خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} إيجاز بليغ، وذلك أن المقصود منه أمرهم بالإسلام والدوام عليه، فأتى ذلك بلفظ موجز يقتضي المقصود ويتضمن وعظاً وتذكيراً بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى؟ فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه من وقت الأمر دائباً لازماً...
اعلم أن هذا هو النوع السادس من الأمور المستحسنة التي حكاها الله عن إبراهيم...
[و] هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين.
(أحدها): أنه تعالى لم يقل وأمر إبراهيم بنيه بل قال: وصاهم ولفظ الوصية أوكد من الأمر، لأن الوصية عند الخوف من الموت، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم، فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتما بهذا الأمر متشددا فيه، كان القول إلى قبوله أقرب.
(وثانيها): أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم، فلما خصهم بذلك في آخر عمره، علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره.
(وثالثها): أنه عمم بهذه الوصية جميع بنيه ولم يخص أحدا منهم بهذه الوصية، وذلك أيضا يدل على شدة الاهتمام.
(ورابعها): أنه عليه السلام أطلق هذه الوصية غير مقيدة بزمان معين ومكان معين، ثم زجرهم أبلغ الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين، وذلك يدل أيضا على شدة الاهتمام بهذا الأمر.
(وخامسها): أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى، وهذا يدل أيضا على شدة الاهتمام بهذا الأمر، ولما كان إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة، ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر، عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام، وأجراها بالرعاية، فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية، وإلا فمعلوم من حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبدا إلى الإسلام والدين...
أما قوله: {اصطفى لكم الدين} فالمراد أنه تعالى استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره...
[و] أما قوله: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} فالمراد بعثهم على الإسلام، وذلك لأن الرجل إذا لم يأمن الموت في كل طرفة عين، ثم إنه أمر بأن يأتي بالشيء قبل الموت صار مأمورا به في كل حال، لأنه يخشى إن لم يبادر إليه أن تعاجله المنية فيفوته الظفر بالنجاة ويخاف الهلاك فيصير مدخلا نفسه في الخطر والغرور...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{ووصى بها إبراهيم بنيه} التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة، وأصلها الوصل يقال: وصاه إذا وصله، وفصاه: إذا فصله، كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى... وتغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، وأن من حقه أن لا يحل بهم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه. فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفّق له ويسر عليه. ومن نوى صالحًا ثبت عليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا بنيّ إن الله} بعظمته وكماله {اصطفى لكم الدين} وهو الإسلام، فأغناكم عن تطلبه وإجالة الفكر فيه رحمة منه لكم {فلا} أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: لا {تموتن} على حالة من الحالات {إلا وأنتم} أي والحال أنكم {مسلمون} أي ملقون بأيديكم وجميع ما ينسب إليكم لله لا حظ لكم في شيء أصلاً ولا التفات إلى غير مولاكم، فإن من كمل افتقاره إلى الغني الحكيم أغناه بحسب ذلك...
وقرر سبحانه بالآيات الآتية بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية، وبرّأ خليله والأنبياء من ذلك على وجه أوجب القطع بأنهم عالمون ببطلانه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ} شروعٌ في بيان تكميلِه عليه السلام لغيره إثرَ بيانِ كماله في نفسه، وفيه توكيدٌ لوجوب الرغبة في مِلته عليه السلام...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ويتضمن هذا النهي إرشاد من كان منحرفا عن الإسلام إلى عدم اليأس، وأن يبادر بالرجوع إليه واعتصام بحبله لئلا يموت على غيره. وفي هذه الآية انتقال إلى إشراك أهل الكتاب وغيرهم من العالمين مع العرب في التذكير والإرشاد إلى الإسلام ولذلك ذكرت وصية يعقوب، واختلف الأسلوب، فقد كان جاريا على طريقة الإيجاز، فانتقل إلى طريقة الإطناب والإلحاح، لما تقدم الإلماع إليه من مراعاة الأولى في خطاب العرب والثانية في خطاب أهل الكتاب، الذين لا يكتفون بالإشارة والعبارة المختصرة لجمود أذهانهم واعتيادهم على التأويل والتحريف. وفصل بين العاطف والمعطوف بالمفعول ولم يقل: ووصى بها إبراهيم ويعقوب بنيهما، لئلا يتوهم أن الوصية كانت منهما في وقت واحد أو أنها خاصة بأبنائهما معا وهم أولاد يعقوب على نحو ما تقدم في تفسير {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم ورَّثه في ذريته، ووصاهم به، وجعلها كلمة باقية في عقبه، وتوارثت فيهم، حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه. فأنتم -يا بني يعقوب- قد وصاكم أبوكم بالخصوص، فيجب عليكم كمال الانقياد، واتباع خاتم الأنبياء قال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أي: اختاره وتخيره لكم، رحمة بكم، وإحسانا إليكم، فقوموا به، واتصفوا بشرائعه، وانصبغوا بأخلاقه، حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه، لأن من عاش على شيء، مات عليه، ومن مات على شيء، بعث عليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه هي ملة إبراهيم.. الإسلام الخالص الصريح.. ولم يكتف إبراهيم بنفسه إنما تركها في عقبه، وجعلها وصيته في ذريته، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه. ويعقوب هو إسرائيل الذي ينتسبون إليه، ثم لا يلبون وصيته، ووصية جده وجدهم إبراهيم!...
ولقد ذكر كل من إبراهيم ويعقوب بنيه بنعمة الله عليهم في اختياره الدين لهم: (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين).. فهو من اختيار الله. فلا اختيار لهم بعده ولا اتجاه. وأقل ما توجبه رعاية الله لهم، وفضل الله عليهم، هو الشكر على نعمة اختياره واصطفائه، والحرص على ما اختاره لهم، والاجتهاد في ألا يتركوا هذه الأرض إلا وهذه الأمانة محفوظة فيهم: (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون).. وها هي ذي الفرصة سانحة، فقد جاءهم الرسول الذي يدعوهم إلى الإسلام، وهو ثمرة الدعوة التي دعاها أبوهم إبراهيم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كان من شأن أهل الحق والحكمةِ أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم وصلاح أمتهم، كان من مكملات ذلك أن يحرِصوا على دوام الحق في الناس متَّبَعاً مشهوراً فكان من سننهم التوصية لمن يظنونهم خلفاً عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق ولا يفرطوا فيما حصل لهم منه، فإن حصوله بمجاهدة نفوس ومرور أزمان فكان لذلك أمراً نفيساً يجدر أن يحتفظ به.
والإيصاء أمر أو نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصاً أو عموماً، وفي فوته ضر، فالوصية أبلغ من مطلق أمر ونهي، فلا تطلق إلا في حيث يخاف الفوات إِما بالنسبة للموصى ولذلك كثر الإيصاء عند توقع الموت كما سيأتي عند قوله تعالى: {أم كنتم شهداء إِذ حضر يعقوب الموت إِذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي} [البقرة: 133]، وفي حديث العرباض:"وعظنا رسول الله موعظة وَجِلَتْ منها القلوبُ وذَرَفَتْ منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مُوَدِّععٍ فأَوْصنا" الحديث.
وكانت الوصية "يا بني إن الله اصطفى لكم الدين "إذن فالوصية لم تكن أمرا من عند إبراهيم ولا أمرا من عند يعقوب ولكن كانت أمرا اختاره الله للناس فلم يجد إبراهيم ولا يعقوب أن يوصيا أولادهما إلا بما اختاره الله.. فكأن إبراهيم ائتمن الله على نفسه فنفذ التكاليف وائتمنه على أولاده فأراد منهم أن يتمسكوا بما اختاره لهم الله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولم يقتصر على نفسه في إسلامه هذا، بل وصَّى بها بنيه، لأنَّ الإسلام هو الذي اصطفاه اللّه للنّاس، فلا بُدَّ لهم من أن يحيوا بالإسلام ويموتوا وهم يحملون كلمته.. وحملها يعقوب حفيد إبراهيم وصيّةً يختم بها حياته، فلم يقف في اللحظات الأخيرة منها ليتحدّث عن شؤونه الحياتية في ما يخلّفه لهم من إرثٍ مالي، كما يتحدّث النّاس إلى وَرَثَتِهم في ذلك عندما يفكرون بالوصية إليهم، بل وقف ليطمئنّ على انسجامهم مع الخطّ العبادي المتمثّل في هذا الإسلام للّه...
{وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} فقد انطلقت هذه التجربة في حياة الجد في حديثه مع بنيه وفي حياة الحفيد في وصيته لأولاده، في دلالة على أنَّ الرسالة كانت كلّ اهتماماتهما الروحية، فلم يكتفيا بالجهاد في سبيلها في حياتهما، بل انطلقا ليدفعا بها للاستمرار في الجيل الجديد بعد وفاتهما، لأنَّ الوصية تعبّر في مضمونها عن القلق النفسي الذي يشعر به الإنسان تجاه ما أوصى به ومن أوصى له...
{يَا بَنيَّ إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} واختاره منهجاً للنجاة في الحياة ووسيلةً للسعادة في الآخرة من خلال برامجه التي تكفل لكم العيش الرغيد والسلامة المريحة، وانفتاحه على معرفة اللّه وطاعته للوصول إلى رضوانه، وذلك من قاعدة واحدة؛ وهي إسلام القلب والوجه والحياة كلّها للّه، ليلتقي الإسلام بمعنى العبودية الحقّة الخاضعة للألوهية المطلقة، فليكن هذا الدِّين الإسلام هو الخطّ المستقيم الذي تتحرّكون فيه في كلّ حياتكم، فلا تنحرفوا عنه، أو تتركوه إلى غيره، مهما اشتدت الضغوط واهتزت الأرض من تحت أقدامكم وتنوّعت الإغراءات حتى نهاية حياتكم.
{فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} لتلتقوا باللّه على خطّ الإسلام عندما يقوم النّاس لربّ العالمين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لعلّ القرآن الكريم، بنقله وصية إبراهيم، يريد أن يقول للإنسان إنه مسؤول عن مستقبل أبنائه، عليه أن يهتم بمستقبلهم المعنوي قبل أن يهتم بمستقبلهم المادي [و] يعقوب كإبراهيم وصّى أيضاً أبناءه، بنفس هذه الوصايا، وأكد لأبنائه أن رمز نجاحهم يتلخص في جملة واحدة، هي التسليم لربّ العالمين...
[و] ربّما يعود ذكر اسم يعقوب هنا من بين سائر الأنبياء، إلى أن اليهود والنصارى كانوا يعتقدون بانتسابهم إلى يعقوب بشكل من الأشكال، فأرادت الآية أن توضح لهم أن خط الشرك الذي يسلكونه لا يتناسب مع منهج يعقوب، وهو منهج التسليم المحض لربّ العالمين...