محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِـۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (132)

{ ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون 132 } .

{ ووصّى بها إبراهيم بنيه } شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره ، إثر بيان كماله في نفسه . والتوصية التقدم إلى الغير في الشيء النافع المحمود عاقبته . والضمير في { بها } إما عائدا لقوله : { أسلمت لرب العالمين } على تأويل الكلمة والجملة . ونحوه رجوع الضمير في قوله : { وجعلها كلمة باقية } {[758]} إلى قوله : { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني } {[759]} وقوله : { كلمة } دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة . وإما عائد إلى الملة في قوله : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } ، وأيّد الأول بكون الموصى به مطابقا فيه اللفظ لأسلمت ، وقرب المعطوف عليه . ورجح القاضي الثاني لكون المرجع مذكورا صريحا . وردّ الإضمار إلى المصرح بذكره ، إذا أمكن ، أولى من رده إلى المدلول والمفهوم . ولكون الملة أجمع من تلك الكلمة . والكل حسن . وقوله تعالى : { بنيه } تفيد صيغة الجمع أن لإبراهيم عليه السلام من الولد غير إسماعيل وإسحق . وقرأت في سفر التكوين من التوراة{[760]} أن إبراهيم عليه السلام تزوج ، بعد وفاة سارة أم إسحق ، امرأة أخرى اسمها قَطُورةُ ، فولدت له : زِمْران ويَقْشان ومَدان ومِدْيان ويِشْباق وشُوحا ، فعلى هذا تكون بنوه عليه السلام ثمانية { ويعقوب } معطوف على إبراهيم ، ومفعوله محذوف تقديره : ووصى يعقوب بنيه . لأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما أوصى إبراهيم بنيه . ودليل ذلك قوله تعالى : { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي } {[761]} كما سيأتي . وقرئ { ويعقوب } بالنصب عطفا على بنيه ، ومعناه : ووصى بها إبراهيم بنيه ، ونافلته يعقوب . وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم ، وأدرك من حياته خمس عشرة سنة ، كما يستفاد من سفر التكوين من التوراة ، فإن فيها أن إبراهيم عليه السلام ، ولد له إسحق ، / وهو ابن مائة سنة{[762]} ، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة ، وكان لإسحق ، حين ولد له يعقوب وعيسو ، ستون سنة ، فاستفيد من ذلك ما ذكرناه . ولوجود يعقوب في حياة جده يفهم سر ذكره في قوله تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } {[763]} وفي آية أخرى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } {[764]} { يا بنيّ } أي قال كل من إبراهيم ويعقوب ، على القراءة الأولى . وعلى الثانية : قال إبراهيم : يا بنيّ { إن الله اصطفى لكم الدين } أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان ، وهو دين الإسلام ، الذي لا دين غيره عند الله تعالى { فلا } أي فتسبب عن ذلك أنى أقول لكم : لا { تموتن إلا وأنتم مسلمون } وفي هذه الجملة إيجاز بليغ . والمراد : الزموا الإسلام ، ولا تفارقوه حتى تموتوا . وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي لا تموتوا على حالة إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام . فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا ، لأنه هو المقدور . فلا يقال : صيغة النهي موضوعة لطلب الكف عما هو مدلولها ، فيكون المفهوم منه النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، وذا ليس بمقصود ، لأنه غير مقدور . وإنما المقدور فيه هو الكون على خلاف حال الإسلام ، فيعود النهي إليه ، ويكون المقصود النهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت ، لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال . فإما أن يقال : استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني ، فيكون مجازا . أو يقال : استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه ، فيكون كناية .

قال الزمخشريّ : ونظير ذلك قولك : لا تصلّ إلا وأنت خاشع ، فلا تنهاه عن الصلاة ، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته . والنكتة في إدخال حرف النهي عما ليس بمنهيّ عنه ، هو إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام ، موت لا خير فيه ، وأنه ليس بموت السعداء ، وان من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم . كما تقول في الأمر : مت وأنت شهيد . فليس مرادك الأمر بالموت ، ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات وإنما أمرته بالموت اعتدادا منك بميتته ، وإظهارا لفضلها على غيرها ، وإنها حقيقة بأن يُحَثَّ عليها . هذا . وقد قرر سبحانه بهذه الآيات بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية ، وبرأ خليله والأنبياء من ذلك .


[758]:[43/ الزخرف/ 28] ونصها: {وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون 28}.
[759]:[43/ الزخرف/ 26 و27] ونصهما: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون 26 إلا الذي فطرني فإنه سيهدين 27}.
[760]:سفر التكوين، الأصحاح الخامس والعشرون، 1 و2 ونصهما: وعاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قَطورَةُ. فولدت له زِمْران ويَقْشان ومَدان ومِدْيان ويَِشْباق وشُوحا.
[761]:[2/ البقرة/ 133] ونصها: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون 133}.
[762]:سفر التكوين، الأصحاح الحادي والعشرون، 5.
[763]:[6/ الأنعام/ 84] ونصها: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين 84}. و[29/ العنكبوت/ 27] ونصها: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين 27}.
[764]:[21/ الأنبياء/ 72] ونصها: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين 72}.