معاني القرآن للفراء - الفراء  
{وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِـۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (132)

وقوله : { وَوَصَّى بِها إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ . . . }

في مصاحف أهل المدينة " وأَوصى " وكلاهما صوابٌ كثيرٌ في الكلام .

وقوله : { وَيَعْقُوبُ . . . }

أي ويعقوبُ وصّى بهذا أيضا . وفي إحدى القراءتين قراءة عبد الله أو قراءة أُبَىٍّ : { أَنْ يَا بنَىَّ إن الله اصطفي لكم الدين }يوقع وصى على " أن " يريد وصّاهم " بأن " وليس في قراءتنا " أن " ، وكلّ صواب . فمن ألقاها قال : الوصيَّة قول ، وكلّ كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول أَنْ ، وجاز إلقاء أنْ ؛ كما قال الله عزَّ وجلَّ في النساء : { يوصِيكم اللّهُ في أولادِكم لِلذكرِ مثل حظِّ الأنثيين } لأن الوصيَّة كالقول ؛ وأنشدني الكسائي :

إني سأُبدي لك فيما أُبدي *** لي شَجَنان شَجن بنجد

*** وشجَن لي ببلاد السِنْد ***

لأن الإبداء في المعنى بلسانه ؛ ومثله قول الله عزّ وجلّ { وَعَدَ اللّهُ الَّذينَ آمنُوا وعَمِلوا الصالِحاتِ مِنْهم مغفِرةً } لأن العِدَة قول . فعلى هَذا يُبنى ما ورد من نحوه .

وقول النحويّين : إنما أراد : أن فأُلقِيتْ ليس بشيء ؛ لأن هذا لو كان لجاز إلقاؤها مع ما يكون في معنى القول وغيره .

وإذا كان الموضع فيه ما يكون معناه معنى القول ثم ظهرت فيه أن فهي منصوبة الألف . وإذا لم يكن ذلك الحرف يرجع إلى معنى القول سقطت أن من الكلام .

فأما الذي يأتي بمعنى القول فتظهر فيه أن مفتوحة فقول الله تبارك وتعالى : { إنا أَرْسَلْنا نُوحا إلى قَوْمِه أَنْ أَنذِر قومك } جاءت أن مفتوحة ؛ لأن الرسالة قول . وكذلك قوله { فانْطَلَقُوا وهم يَتَخَافَتُونَ . أَنْ لاَ يَدْخُلها } والتخافت قول . وكذلك كلّ ما كان في القرآن . وهو كثير . منه قول الله { وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمدُ لِلّه } . ومثله : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللّهِ [ على الظَّالِمين ] } الأذان قول ، والدعوى قول في الأصل .

وأما ما ليس فيه معنى القول فلم تدخله أن فقول الله { ولو تَرَى إِذ المجرِمون ناكِسُوا رُءُوسِهِم عِندَ رَبّهِم رَبَّنا أَبْصِرنا } فلما لم يكن في " أبصرنا " كلام يدلّ على القول أضمرت القول فأسقطت أن ؛ لأن ما بعد القول حكاية لا تحدث معها أن . ومنه قول الله { والملائكةُ باسِطوا أَيدِيهم أَخرِجوا أَنفسكم } . معناه : يقولون أخرجوا . ومنه قول الله تبارك وتعالى : { وإِذْ يَرْفَعُ إِبراهِيمُ القَواعِدَ مِن البيتِ وإِسماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنا } . معناه يقولانِ " رَبَّنا تَقَبَّلْ منا " وهو كثير . فقِس بهذا ما ورد عليك .