الوصية : العهد ، وصى بنيه : أي عهد إليهم وتقدم إليهم بما يعمل به مقترناً بوعظ .
ووصى وأوصى لغتان ، إلا أنهم قالوا : إن وصى المشدّد يدل على المبالغة والتكثير .
يعقوب : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، ويعقوب عربي ، وهو ذكر القبج ، وهو مصروف ، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً .
ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان ، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه ، أو سمي بذلك لكثرة عقبه ، فقوله فاسد ، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي ، فكان يكون مصروفاً .
{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين } : قرأ نافع وابن عامر : وأوصى ، وقرأ الباقون : ووصى .
قال ثعلب : أملى عليّ خلف بن هشام البزار ، قال : اختلف مصحف أهل المدينة وأهل العراق في اثنى عشر حرفاً .
كتب أهل المدينة : وأوصى ، وسارعوا ، يقول ، الذين آمنوا من يرتدد ، الذين اتخذوا ، مسجداً خيراً منهما ، فتوكل ، وأن يظهر ، بما كسبت أيديكم ، ما تشتهيه الأنفس ، فإن الله الغني ، ولا يخاف عقباها .
وكتب أهل العراق : ووصى ، سارعوا ، ويقول ، من يرتد ، والذين اتخذوا ، خيراً منها ، وتوكل ، أن يظهر ، فيما كسبت أيديكم ، ما تشتهي ، فإن الله هو ، فلا يخاف .
وبها متعلق بأوصى ، والضمير عائد على الملة في قوله : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } ، وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكر المهدوي غيره ، أو على الكلمة التي هي قوله : { أسلمت لرب العالمين } ونظيره ، وجعلها كلمة باقية في عقبه ، حيث تقدم { أنني براء مما تعبدون } .
وبهذا القول ابتدأ ابن عطية وقال : هو أصوب ، لأنه أقرب مذكور ، ورجح العود على الملة بأنه يكون المفسر مصرحاً به ، وإذا عاد على الكلمة كان غير مصرح به ، وعوده على المصرح أولى من عوده على المفهوم .
وبأن عوده على الملة أجمع من عوده على الكلمة ، إذ الكلمة بعض الملة .
ومعلوم أنه لا يوصي إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة .
وقيل : يعود على الكلمة المتأخرة ، وهو قوله : { فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون } .
وقيل : على كلمة الإخلاص وهي : لا إله إلا الله ، وإن لم يجر لها ذكر ، فهي مشار إليها من حيث المعنى ، إذ هي أعظم عمد الإسلام .
وقيل : يعود على الوصية الدال عليها ووصى .
بنيه : بنو إبراهيم ، إسماعيل وأمه هاجر القبطية ، وإسحاق وأمه سارة ، ومدين : ومديان ، ونقشان ، وزمزان ، ونشق ، ونقش سورج ، ذكرهم الشريف النسابة أبو البركات محمد بن علي بن معمر الحسيني الجواني وغيره ، وأم هؤلاء الستة قطورا بنت يقطن الكنعانية .
هؤلاء الثمانية ولده لصلبه ، والعقب الباقي فيهم اثنان إسماعيل وإسحاق لا غير .
قرأ الجمهور : ويعقوب بالرفع ، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي ، والضرير ، وعمرو بن فائد الأسواري : بالنصب .
فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون معطوفاً على إبراهيم ، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه ، أي ووصى يعقوب بنيه .
ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره : قال يا بني إن الله اصطفى ، والأول أظهر .
وأما قراءة النصب فيكون معطوفاً على بنيه ، أي ووصى بها نافلته يعقوب ، وهو ابن ابنه إسحاق .
وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط .
يا بني : من قرأ ويعقوب بالنصب ، كان يا بني من مقولات إبراهيم ، ومن رفع على العطف فكذلك ، أو على الابتداء ، فمن كلام يعقوب .
وإذا جعلناه من كلام إبراهيم ، فعند البصريين هو على إضمار القول ، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك ، لأن الوصية في معنى القول ، فكأنه قال : قال إبراهيم لبنيه يا بني ، ونحوه قول الراجز :
رجلان من ضبة أخبرانا *** أنا رأينا رجلاً عريانا
بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو معمولاً لا خبراناً على المذهبين ، وفي النداء لمن بحضرة المنادي .
وكون النداء بلفظ البنين مضافين إليه تلطف غريب وترجئة للقبول وتحريك وهز ، لما يلقى إليهم من أمر الموافاة على دين الإسلام الذي ينبغي أن يتلطف في تحصيله ، ولذلك صدر كلامه بقوله : { إن الله اصطفى لكم الدين } ، وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل .
وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك : أن يا بني ، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها .
ومن لم يثبت معنى التفسير ، لأن جعلها هنا زائدة ، وهم الكوفيون .
{ إن الله اصطفى لكم الدين } ، أي استخلصه لكم وتخيره لكم صفوة الأديان .
والألف واللام في الدين للعهد ، لأنهم كانوا قد عرفوه ، وهو دين الإسلام .
{ فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون } : هذا استثناء من الأحوال ، أي إلا على هذه الحالة ، والمعنى : الثبوت على الإسلام ، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام .
إلا أن ذلك نهى عن الموت ، ونظير ذلك في الأمر : مت وأنت شهيد ، لا يكون أمراً بالموت ، بل أمر بالشهادة ، فكأنه قال : لتستشهد في سبيل الله ، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة .
وقد تضمن هذا الكلام إيجازاً بليغاً ووعظاً وتذكيراً ، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه .
فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها ، كان متذكراً للموت دائماً ، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائماً ، .
وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سبباً للموافاة على غير الإسلام ، ونظير ذلك قولهم : لا أرينك هنا ، لا ينهي نفسه عن الرؤية ، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان ، فيكون يراه ، فكأنه قال : اذهب عن هذا المكان .
ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان ، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة ، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه .
وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف ، منها : الوصية ، ولا تكون إلا عند خوف الموت .
ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين ، حتى وصى به من كان ملتبساً به ، إذ كان بنوه على دين الإسلام .
ومنها اختصاصه ببنيه ، ولا يختصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم .
ومنها أنه عمم بنيه ، ولم يخص أحداً منهم ، كما جاء في حديث النعمان بن بشير ، حين نحله أبوه شيئاً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتحب أن يكونوا لك في البر سواء ؟ » ورد نحله إياه وقال : لا أشهد على جور .
ومنها إطلاق الوصية ، ولم يقيدها بزمان ولا مكان .
ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين .
ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن الله تعالى هو الذي اختار لكم دين الإسلام ، فلا تخرجوا عما اختاره الله لكم .
قال المؤرخون : نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيع ، وقيل : ابن سنتين .
وقيل : ابن أربع عشرة سنة ، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة ، ومات وله مائة وثلاثون سنة .
وكان لإسماعيل ، لما مات أبوه إبراهيم ، تسع وثمانون سنة .
وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة ، ومات بالأرض المقدّسة ، ودفن عند أبيه إبراهيم .
وكان بين وفاة أبيه إبراهيم ومولد محمد صلى الله عليه وسلم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة ، واليهود تنقص من ذلك نحواً من أربعمائة سنة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.