قوله تعالى : { وَوَصَّى } : قرئ مِنْ وصَّى ، وفيه معنى التكثير باعتبارِ المفعولِ المُوَصَّى ، وأَوْصى رباعياً وهي قراءةُ نافعٍ وابنِ عامر ، وكذلك هي في مصاحفِ المدينةِ والشام ، وقيل أَوْصى ووصَّى بمعنىً .
والضميرُ في " بها " فيه ستةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه يعودُ على المِلَّة في قوله : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } ، قال الشيخ : " وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكُرِ [ المهدوي ] وغيرَه " والزمخشري - رحمه الله - لم يذكرْ هذا ، وإنما ذَكَرَ عَوْدَه على قوله " أَسَلَمْتُ " لتأويله بالكلمةِ ، قال الزمخشري : " والضميرُ في " بها " لقولِه { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } على تأويلِ الكلمةِ والجملةِ ، ونحوُه رجوعُ الضميرِ في قولِه : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً } [ الزخرف : 28 ] إلى قوله : { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي }
[ الزخرف : 28 ] وقولُه " كلمةً باقيةً " دليلٌ على أن التأنيثِ على معنى الكلمة . انتهى . الثاني : أنَّه يعودُ على الكلمةِ المفهومةِ من قولِه " أَسْلَمْتُ " كما تقدَّم تقريرُه عن الزمخشري : قال ابن عطية : " وهو أصوبُ لأنه أقربُ مذكور " . الثالثُ : أنه يَعودُ على متأخر ، وهو الكلمةُ المفهومةُ مِنْ قولِه : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } . الرابع : أنه يعودُ إلى كلمةِ الإِخلاص وإن لم يَجْرِ لها [ ذِكْرٌ ] . الخامسُ : أنه يعودُ على الطاعةِ للعلم بها أيضاً . السادسُ : أنَّه يعودُ على الوصيَّةِ المدلولِ عليها بقوله : " ووصَّى " ، و " بها " يتعلَّق لوصَّى . و " بنِيه " مفعولٌ به .
قوله : { وَيَعْقُوبُ } الجمهورُ على رفعه وفيه قولان ، أظهرهُما : أنه عطفٌ على " إبراهيم " ويكونُ مفعولُه محذوفاً أي : ووصَّى يعقوبُ بنيه أيضاً ، والثاني : أن يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ وخبرُه محذوفٌ تقديرُه ويعقوبُ قال : يا بَنِيَّ إنَّ الله اصطفى . وقرأ إسماعيل بن عبد الله وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على " بَنيه " ، أي : ووصَّى إبراهيمُ يعقوبَ أيضاً .
قوله : { يَا بَنِيَّ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه من مقولِ إبراهيمِ ، وذلك على القولِ بعطفِ يعقوبَ على إبراهيم أو على قراءتهِ منصوباً . والثاني : أنه مِنْ مقولِ يعقوبَ إنْ قُلْنا رفعُه بالابتداءِ ويكونُ قد حَذَفَ مقولَ إبراهيم للدلالةِ عليه تقديرُه : " ووصَّى إبراهيمُ بنيه يا بَنِيَّ ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملةُ من قوله : " يا بَنِيَّ " وما بعدها [ منصوبةٌ ] بقولٍ محذوفٍ على رأيِ البصريين ، أي : فقال يا بَنِيَّ ، وبفعل الوصيَّةِ لأنَّها في معنى القولِ على رأيِ الكوفيين ، وقال الراجز :
رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبرانَا *** إنَّا رَأَيْنا رجلاً عُرْيانا
بكسر الهمزةِ على إضمارِ القولِ ، أو لإِجراءِ الخبرِ مُجْرى القولِ ، ويؤيِّد تعلُّقَها بالوصية قراءةُ ابنِ مسعود : " أَنْ يا بَنِيَّ " ب " أَنْ " المفسرة ، ولا يجوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً لعدمِ ما يَنْسَبِكُ منه مصدرٌ ، ومَنْ أبى جَعْلَها مفسرةً وهم الكوفيون يجعلونَها زائدةً .
ويعقوبُ عَلَمٌ أعجمي ولذلك لا يَنْصَرِفُ ، ومَنْ زَعَم أنَّه سُمِّي يعقوب لأنه وُلِد عَقِبَ العَيْص أخيه وكانا تَوْءَمين أَوْ لأنه كَثُر عَقِبُه ونَسْلُه فقد وَهمَ ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصَرِفَ لأنه عربيٌّ مشتق . ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الحَجَل ، إذا سُمِّي به المذكرُ انصرفَ ، والجمعُ يعاقِبَة ويعاقيب .
و " اصطفى " ألفُه عن ياء ، تلك الياءُ منقلبةُ عن واو لأنها من الصَّفْوة ، ولمَّا صارتِ الكلمةُ أربعةً فصاعداً ، قُلِبَتْ ياءً ثم انقَلَبَتْ ألفاً . و " لكم " أي لأجلكم ، والالفُ واللامُ في " الذين " للعهدِ .
قوله : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إلا } هذا نَهْيٌ في الصورةِ عن الموتِ ، وهو في الحقيقةِ نَهْيٌ عن كونِهم على خلافِ حالِ الإِسلامِ إذا ماتوا كقولك : " لا تُصَلِّ إلا وأنت خاشع " ، فَنهْيُك له ليس عن الصلاة ، إنما هو عن تَرْك الخشوع في حالِ صلاتِه ، والنكتةُ في إدخالِ حرفِ النهي على الصلاةِ وهي غيرُ مَنْهِيٍّ عنها هي إظهارُ أنَّ الصلاةَ التي لا خشوعَ فيها كالصلاة ، كأنه قال : أَنْهَاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالةِ ، وكذلك المعنى في الآيةِ إظهارُ أنَّ موتهم لا على حالِ الثباتِ على الإِسلامِ موتٌ لا خيرَ فيه ، وأنَّ حقَّ هذا الموتِ ألاَّ يُجْعَلَ فيهم .
وأصل تموتُنَّ : تموتُونَنَّ : النونُ الأولى علامةُ الرفعِ والثانيةُ المشدَّدةُ للتوكيدِ ، فاجتمع ثلاثةُ أمثالٍ فَحُذِفَتْ نونُ الرفعِ ؛ لأنَّ نونَ التوكيدِ أَوْلى بالبقاءِ لدلالِتها على معنىً مستقلٍ فالتقى ساكنان : الواوُ والنونُ الأولى المُدْغمة فَحُذِفَت الواوُ لالتقاءِ الساكنين ، وبقيتِ الضمةُ تَدُلُّ عليها وهكذا كلُّ ما جاء من نظائره . { إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } هذا استثناءٌ مفرَّغٌ من الأحوالِ العامة ، و " أنتم مسلمون " مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصلٍ على الحالِ كأنه قال تعالى " لا تَموتُنَّ على كلِّ حالٍ إلا على هذه الحالِ " ، والعاملُ فيها ما قبلَ إلاَّ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.