{ أُولَئِكَ } أي : الموصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } أي : على هدى عظيم ، لأن التنكير للتعظيم ، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة ، وهل الهداية [ الحقيقية ] إلا هدايتهم ، وما سواها [ مما خالفها ]{[36]} ، فهو ضلالة .
وأتى ب " على " في هذا الموضع ، الدالة على الاستعلاء ، وفي الضلالة يأتي ب " في " كما في قوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى ، مرتفع به ، وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر .
يقول الله تعالى : { أُولَئِكَ } أي : المتصفون بما تقدم : من الإيمان بالغيب ، وإقام الصلاة ، والإنفاق من الذي رزقهم الله ، والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل ، والإيقان بالدار الآخرة ، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات .
{ عَلَى هُدًى } أي : نور وبيان وبصيرة من الله تعالى . { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } أي : على نور من ربهم ، واستقامة على ما جاءهم ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا .
وقال ابن جرير : وأما معنى قوله : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } فإن معنى ذلك : أنهم على نور من ربهم ، وبرهان واستقامة وسداد ، بتسديد الله إياهم ، وتوفيقه لهم وتأويل قوله : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي المُنْجِحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنات ، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب{[1220]} .
وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ } الآية ، على ما تقدم من الخلاف . [ قال ]{[1221]} وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ } منقطعا{[1222]} مما قبله ، وأن يكون مرفوعًا على الابتداء وخبره { [ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ ] أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }{[1223]} واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب ، لما رواه السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما الذين يؤمنون بالغيب ، فهم المؤمنون من العرب ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب . ثم جمع الفريقين فقال : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة ، والإشارة عائدة عليهم ، والله أعلم . وقد نقل هذا عن مجاهد ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، رحمهم الله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبد ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له : يا رسول الله ، إنا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس ، أو كما قال . قال : فقال : «أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار ؟ » . قالوا : بلى يا رسول الله . قال : «{ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } » إلى قوله تعالى : { الْمُفْلِحُونَ } هؤلاء أهل الجنة » . قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء . ثم قال : «{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ } » إلى قوله : { عَظِيمٌ } هؤلاء أهل النار » . قالوا : لسنا هم يا رسول الله . قال : «أجل »{[1224]} .
{ أولئك على هدى من ربهم } الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له فكأنه لما قيل { هدى للمتقين } قيل ما بالهم خصوا بذلك ؟ فأجيب بقوله : { الذين يؤمنون بالغيب } إلى آخر الآيات . وإلا فاستئناف لا محل لها ؟ فكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة . أو جواب سائل قال : ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى ؟ ونظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان ، فإن اسم الإشارة ههنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة ، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى وتلخيصه ، فإن ترتب الحكم على الوصف إيذان بأنه الموجب له . ومعنى الاستعلاء في { على هدى } تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه ، وقد صرحوا به في قولهم : امتطى الجهل وغوى واقتعد غارب الهوى . وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل . ونكر هدى للتعظيم . فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره ، ونظيره قول الهذلي :
فلا وأبي الطير المربة بالضحى *** على خالد لقد وقعت على لحم
وأكد تعظيمه بأن الله تعالى مانحه والموفق له ، وقد أدغمت النون في الراء بغنة وبغير غنة .
{ وأولئك هم المفلحون } كرر فيه اسم الإشارة تنبيها على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين وإن كلا منهما كاف في تمييزهم بها عن غيرهم ، ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا بخلاف قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } ، فإن التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شيء واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف . وهم : فصل يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ، ويفيد اختصاص المسند إليه ، أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك . والمفلح بالحاء والجيم : الفائز بالمطلوب ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلي يدل على الشق . والفتح وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة . أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم .
تنبيه : تأمل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى ، وبناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسيط الفصل ، لإظهار قدرهم والترغيب في اقتفاء أثرهم ، وقد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب ، ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح ، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم ، لا عدم الفلاح له رأسا .
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 )
وقوله تعالى : { أولئك } إشارة إلى المذكورين ، و «أولاء » جمع «ذا » ، وهو مبني على الكسرة لأنه ضَعُفَ لإبهامه عن قوة الأسماء ، وكان أصل البناء السكون فحرك( {[175]} ) لالتقاء الساكنين ، والكاف للخطاب ، و «الهدى » هنا( {[176]} ) الإرشاد . و { أولئك } الثاني ابتداء ، و { المفلحون } خبره ، و { هم } فصل ، لأنه وقع بين معرفتين ويصح أن يكون { هم } ابتداء ، و { المفلحون } خبره ، والجملة خبر { أولئك } .
والفلح( {[177]} ) الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد( {[178]} ) : [ الرمل ] .
اعقلي إن كنت لمّا تعقلي . . . ولقد أفلح من كان عقلْ
وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء ، كقوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونرجو الفلاحَ بَعْدَ عادٍ وحمْيَرِ ( {[179]} )
لِكُلّ همٍّ من الهموم سَعَهْ . . . والصُّبْحُ والمسى لا فلاح معه( {[180]} )
والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية ، إذ هو رأس ذلك وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين .