ثم أخبر أنه له ملك السماوات والأرض وما بينهما ، فالكل عبيده ومماليكه ، فليس لأحد منهم ملك ولا قسط من الملك ، ولا معاونة عليه ، ولا يشفع إلا بإذن الله ، فكيف يتخذ من هؤلاء آلهة وكيف يجعل لله منها ولد ؟ ! فتعالى وتقدس ، المالك العظيم ، الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الصعاب ، وخشعت له الملائكة المقربون ، وأذعنوا له بالعبادة الدائمة المستمرة أجمعون ، ولهذا قال : { وَمَنْ عِنْدَهُ ْ } أي من الملائكة { لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ْ } أي : لا يملون ولا يسأمونها ، لشدة رغبتهم ، وكمال محبتهم ، وقوة أبدانهم .
ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارًا ، فقال : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ }
يعني : الملائكة ، { لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : لا يستنكفون عنها ، كما قال : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } [ النساء : 172 ] .
وقوله : { وَلا يَسْتَحْسِرُونَ } أي : لا يتعبون ولا يَملُّون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وكيف يجوز أن يتخذ الله لهوا ، وله مُلك جميع من في السموات والأرض ، والذين عنده من خلقه لا يستنكفون عن عبادتهم إياه ولا يَعْيَون من طول خدمتهم له ، وقد علمتم أنه لا يستعبد والد ولده ولا صاحبته ، وكل من في السموات والأرض عبيده ، فأنى يكون له صاحبة وولد يقول : أولا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يرجعون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يحسَرون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ قال : لا يُعيون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ قال : لا يعيون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُون قال : لا يستحسرون ، لا يملّون ذلك الاستحسار ، قال : ولا يفترون ، ولا يسأَمون .
هذا كله معناه واحد والكلام مختلف ، وهو من قولهم : بعير حَسِير : إذا أعيا وقام ومنه قول علقمة بن عبدة :
بِها جِيَفُ الحَسْرَى فأمّا عِظامُها *** فَبِيضٌ ، وأمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
قوله تعالى : { وله } يحتمل أن يكون ابتداء كلام يحتمل أن يكون معادلاً لقوله { ولكم الويل } [ الأنبياء : 18 ] كأنه تقسيم الأمر في نفسه أي للمختلقين هذه المقالة الويل ولله تعالى { من في السموات والأرض } واللام في { له } لام الملك ، وقوله تعالى : { من في السماوات } يعم الملائكة والنبيين وغيرهم ، ثم خصص من هذا العموم من أراد تشريفه من الملائكة بقوله تعالى : { ومن عنده } لأن «عند » هنا ليست في المسافات إنما هي تشريف في المنزلة فوصفهم تعالى بأنهم { لا يستكبرون } عن عبادة الله ولا يسأمونها ولا يكلون فيها . والحسير من الإبل المعيي ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
لهن الوجى لم يكن عوناً على النوى . . . ولا كان منها طالع وحسير{[8202]}
وحسر واستحسر بمعنى واحد ، وهذا موجود في كثير من الأفعال وإن كان الباب في استفعل أن يكون لطلب الشيء .
عطف على جملة { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدّنا } [ الأنبياء : 17 ] مبيِّنةٌ أن كل من في السماوات والأرض عباد لله تعالى مخلوقون لقبول تكليفه والقياممِ بما خلقوا لأجله ، وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإفاضة في إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية القرآن .
فاللام في { وله } للملك ، والمجرور باللام خبر مقدم . و { من في السموات } مبتدأ ، وتقديم المجرور للاختصاص ، أي له من في السماوات والأرض لا لغيره وهو قصر إفراد رداً على المشركين الذين جعلوا لله شركاء في الإلهية .
و { من في السماوات والأرض } يعم العقلاء وغيرهم وغُلِّب اسم الموصول الغالب في العقلاء لأنهم المقصود الأول .
وقوله تعالى { ومن عنده } يجوز أن يكون معطوفاً على { من في السماوات والأرض } فيكون من عطف الخاص على العام للاهتمام به . ووجه الاهتمام ظاهر وتكون جملة { لا يستكبرون عن عبادته } حالاً من المعطوف عليه .
ويجوز أن يكون { مَنْ عنده } مبتدأ وجملة { لا يستكبرون عن عبادته } خبراً .
وما صدَق ( مَن ) جماعة كما دل عليه قوله تعالى { لا يستكبرون } بصيغة الجمع .
{ ومن عنده } هم المقربون في العوالم المفضلة وهم الملائكة .
وعلى كلا الوجهين في موقع جملة { لا يستكبرون عن عبادته } يكون المقصود منها التعريض بالذين يستكبرون عن عبادة الله ويعبدون الأصنام وهم المشركون .
والاستحسار : مصدر كالحُسور وهو التعب ، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالاستكبار والاستنكار والاسيخار ، أي لا يصدر منهم الاستحسار الذي هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم ، أي لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقلَ ذلك العمل ، فعبر بالاستحسار هنا الذي هو الحسور القوي لأنه المناسب للعمل الشديد ، ونفيه من قبيل نفي المقيد بقيد خرجَ مخرج الغالب في أمثاله . فلا يفهم من نفي الحسور القوي أنهم قد يحسرون حسوراً ضعيفاً . وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعاني بأن المبالغة في النفي لا في المنفي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.