فإن كان لا بد من الفراق ، وليس للإمساك محل ، فليس الإمساك بلازم .
بل متى { أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } أي : تطليقَ زوجة وتزوجَ أخرى . أي : فلا جناح عليكم في ذلك ولا حرج . ولكن إذا { آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ } أي : المفارقة أو التي تزوجها { قِنْطَارًا } أي : مالا كثيرا . { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } بل وفروه لهن ولا تمطلوا بهن .
وفي هذه الآية دلالة على عدم تحريم كثرة المهر ، مع أن الأفضل واللائق الاقتداءُ بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر . ووجه الدلالة أن الله أخبر عن أمر يقع منهم ، ولم ينكره عليهم ، فدل على عدم تحريمه [ لكن قد ينهي عن كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة تقاوم ]{[203]}
ثم قال : { أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } فإن هذا لا يحل ولو تحيلتم عليه بأنواع الحيل ، فإن إثمه واضح .
وقوله : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } أي : إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها ، فلا يأخذن مما كان أصدق الأولى شيئاً ، ولو كان قنطارا من مال .
وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا .
وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل ، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ، ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سلمة{[6858]} بن علقمة ، عن محمد بن سِيرين ، قال : نُبِّئْت عن أبي العَجْفَاء السُّلميِّ قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تُغْلُوا في صَداق{[6859]} النساء ، فإنها لو كانت مَكْرُمَةً في الدنيا أو تَقْوَى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصْدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه ، ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أُوقِيَّة ، وإن كان الرجل ليُبْتَلَى بصَدُقَةِ امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كَلِفْتُ إليك عَلَق القِرْبة ، ثم رواه أحمد وأهل السنن من طرق ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي العجفاء - واسمه هرم ابن مُسَيب البصري - وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح{[6860]} .
طريق أخرى عن عمر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن عبد الرحمن ، عن المجالد{[6861]} بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ثم قال : أيها الناس ، ما إكثاركم في صُدُق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك . ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة{[6862]} لم تسبقوهم إليها . فَلا أعرفَنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت :{[6863]} يا أمير المؤمنين ، نَهَيْتَ الناس أن يزيدوا النساء صداقهم{[6864]} على أربعمائة درهم ؟ قال : نعم . فقالت : أما سمعت ما أنزل الله{[6865]} في القرآن ؟ قال : وأي ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [ فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ]{[6866]} } [ النساء : 20 ] قال : فقال :
اللهم غَفْرًا ، كُلُّ الناس أفقه من عمر . ثم{[6867]} رجع فركب المنبر فقال : إني{[6868]} كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن{[6869]} على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب . قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل . إسناده جيد قوي{[6870]} .
طريق أخرى : قال ابن المنذر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق ، عن قيس بن ربيع ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور{[6871]} النساء . فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إن الله تعالى يقول : " وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب " . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : " فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا " فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته{[6872]} .
طريق أخرى : عن عمر فيها انقطاع : قال الزبير بن بكار حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال : قال عمر بن الخطاب لا تزيدوا في مهور{[6873]} النساء وإن كانت بنت ذي الغُصّة - يعني يزيد ابن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال . فقالت امرأة - من صُفَّة النساء طويلة ، في أنفها فَطَس - : ما ذاك لك . قال : ولم ؟ قالت : لأن الله [ تعالى ]{[6874]} قال : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } الآية . فقال عمر : امرأة أصابت{[6875]} ورجل أخطأ{[6876]} . ولهذا قال [ الله ]{[6877]} منكرا : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }
{ وَإِنْ أَرَدْتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإنْ أرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ } وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها { وآتَيْتمْ إحْدَاهنّ } يقول : وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر قنطارا ، والقنطار : المال الكثير . وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف أهل التأويل في مبلغه والصواب من القول في ذلك عندنا . { فلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا } يقول : فلا تضرّوا بهنّ إذا أردتم طلاقهنّ ليفتدين منكم بما آتيتموهن . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَإنْ أرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ } : طلاق امرأة مكان أخرى ، فلا يحلّ له من مال المطلقة شيء وإن كثر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { أتأْخُذُونَهُ بُهْتانا وإثْما مبِينا } .
يعني بقوله تعالى : { أتأْخُذُونَهُ } : أتأخذون ما آتيتموهنّ من مهورهنّ ، { بُهْتانا } يقول : ظلما بغير حقّ ، { وإثْما مُبِينا } يعني : وإثما قد أبان أمر آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم .
لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة ، وأن للزوج أخذ المال منها ، عقب ذلك ذكر الفراق الذي سببه الزوج ، والمنع من أخذ مالها مع ذلك ، فهذا الذي في هذه الآية هو الذي يختص الزوج بإرادته ، واختلف العلماء ، إذا كان الزوجان يريدان الفرق ، وكان منهما نشوز وسوء عشرة ، فقال مالك رحمه الله : للزوج أن يأخذ منها إذا سبب الفراق ، ولا يراعي تسبيبه هو ، وقالت جماعة من العلماء : لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وبظلمه في ذلك ، وقال بعض الناس : يخرج في هذه الآية جواز المغالاة بالمهور ، لأنه الله تعالى قد مثل بقنطار ، ولا يمثل تعالى إلا بمباح .
وخطب عمر بن الخطاب فقال : ألا لا تغالوا بمهور نسائكم ، فإن الرجل يغالي حتى يكون ذلك في قلبه عداوة للمرأة ، يقول : تجشمت إليك علق القربة أو عرق القربة{[3914]} ، فيروى أن امرأة كلمته من وراء الناس فقالت ، كيف هذا ؟ والله تعالى يقول : { وآتيتم إحداهن قنطاراً } قال : فأطرق عمر ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر ، ويروى أنه قال : امرأة أصابت ورجل أخطأ ، والله المستعان ، وترك الإنكار ، وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل جاء على جهة المبالغة ، كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد ، وهذا كقوله عليه السلام ، ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ){[3915]} فمعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص وقد قال النبي عليه السلام لابن أبي حدرد - وقد جاء يستعينه في مهره - فسأله عن المهر ، فقال : مائتين ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل ، الحديث ){[3916]} فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يلزم ، لأن هذا أحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال ، وذلك مكروه باتفاق ، وإنما المغالاة المختلف فيها مع الغنى وسعة المال ، وقرأ ابن محيصن بوصل ألف «إحداهن » وهي لغة تحذف على جهة التخفيف ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونَسْمَعُ مِنْ تَحْتِ العجَاجِ لَهَا زمْلا{[3917]}
*إنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالبِسوني بُرْقُعا{[3918]}*
وقد تقدم القول في قدر القنطار في سورة آل عمران ، وقرأ أبو السمال «منه شيئاً » بفتح الياء والتنوين ، وهي قراءة أبي جعفر والبهتان : مصدر في موضع الحال ، ومعناه : محيراً لشنعته وقبح الأحدوثة والفعلة فيه .