ثم خوفهما أيضا ، بحالة تشق على النساء غاية المشقة ، وهو الطلاق ، الذي هو أكبر شيء عليهن ، فقال :
{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } أي : فلا ترفعن عليه ، فإنه لو طلقكن ، لم يضق{[1161]} عليه الأمر ، ولم يكن مضطرًا إليكن ، فإنه سيلقى{[1162]} ويبدله الله أزواجًا خيرًا منكن ، دينا وجمالًا ، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد ، ولا يلزم وجوده ، فإنه ما طلقهن ، ولو طلقهن ، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات ، الجامعات بين الإسلام ، وهو القيام بالشرائع الظاهرة ، والإيمان ، وهو : القيام بالشرائع الباطنة ، من العقائد وأعمال القلوب .
القنوت هو دوام الطاعة واستمرارها { تَائِبَاتٍ } عما يكرهه الله ، فوصفهن بالقيام بما يحبه الله ، والتوبة عما يكرهه الله ، { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } أي : بعضهن ثيب ، وبعضهن أبكار ، ليتنوع صلى الله عليه وسلم ، فيما يحب ، فلما سمعن -رضي الله عنهن- هذا التخويف والتأديب ، بادرن إلى رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن ، فصرن أفضل نساء المؤمنين ، وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور ، فلما اختار الله لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه دل على أنهن خير النساء وأكملهن .
ومعنى قوله : { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ } ظاهر .
وقوله { سَائِحَاتٍ } أي : صائمات ، قاله أبو هريرة ، وعائشة ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو مالك ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسُدّيّ ، وغيرهم . وتقدم فيه حديث مرفوع عند قوله : { السَّائِحُونَ } من سورة " براءة " ، ولفظه : " سياحةُ هذه الأمة الصيامُ " .
وقال زيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن : { سَائِحَاتٍ } أي : مهاجرات ، وتلا عبد الرحمن : { السَّائِحُونَ } [ التوبة : 112 ] أي : المهاجرون . والقول الأول أولى ، والله أعلم .
وقوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } أي : منهن ثيبات ، ومنهن أبكارا ، ليكون ذلك أشهى إلى النفوس ، فإن التنوع يبسُط النفسَ ؛ ولهذا قال : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أبو بكر بن صدقة ، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق ، حدثنا عبد الله بن أمية ، حدثنا عبد القدوس ، عن صالح بن حَيَّان ، عن ابن بُرَيدة ، عن أبيه : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } قال : وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه ، فالثيب : آسية امرأة فرعون ، وبالأبكار : مريم بنت عمران{[29061]} .
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة " مريم عليها السلام " من طريق سُوَيْد بن سعيد {[29062]} حدثنا محمد بن صالح بن عمر ، عن الضحاك ومجاهد ، عن ابن عمر قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت خديجة فقال : إن الله يقرئها السلام ، ويبشرها ببيت في الجنة من قَصَب ، بعيد من اللهب{[29063]} لا نَصَب فيه ولا صَخَب ، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم{[29064]} .
ومن حديث أبي بكر الهذلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة ، وهي في الموت فقال : " يا خديجة ، إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام " . فقالت : يا رسول الله ، وهل تزوجت قبلي ؟ قال : " لا " ، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وكلثم أخت موسى " . ضعيف أيضًا{[29065]} .
وقال أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن عرعرة ، حدثنا عبد النور بن عبد الله ، حدثنا يونس{[29066]} بن شعيب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُعْلِمتُ أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة فرعون " . فقلت : هنيئًا لك يا رسول الله{[29067]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { عَسَىَ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مّنكُنّ مُسْلِمَاتٍ مّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } .
يقول تعالى ذكره : عسى ربّ محمد إن طلقكنّ يا معشر أزواج محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدله منكنّ أزواجا خيرا منكن .
وقيل : إن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهنّ : عسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ ، قال : فنزل كذلك .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حميد ، عن أنس ، عن عمر ، قال : يلغني عن بعض أمهاتنا ، أمهات المؤمنين شدّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهنّ إياه ، فاستقريتهنّ امرأة امرأة ، أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقول : إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكن ، حتى أتيت ، حسبت أنه قال على زينب ، فقالت : يا بن الخطاب ، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت ؟ فأمسكت ، فأنزل الله عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجا خَيْرا مِنْكُنّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ، قال : قال عمر بن الخطاب : يلغني عن أمهات المؤمنين شيء ، فاستقريتهنّ أقول : لتكففن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكنّ ، حتى أتيت على إحدى أمهات المؤمنين ، فقالت : يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت ؟ فكففت ، فأنزل الله عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدلَهُ أزْوَجا خَيْرا مِنْكُنّ مُسْلِماتٍ مُوءْمِناتٍ . . . الاَية .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : أنْ يُبْدِلَهُ فقرأ ذلك بعض قرّاء مكة والمدينة والبصرة بتشديد الدال : «يبدّله أزواجا » من التبديل وقرأه عامة قرّاء الكوفة : يُبْدِ له بتخفيف الدال من الإبدال .
والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : مُسْلِماتٍ يقول : خاضعات لله بالطاعة مُوءْمِناتٍ يعني مصدّقات بالله ورسوله .
وقوله قَانِتات يقول : مطيعات لله ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله قانتاتٍ قال : مطيعات .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله قانِتاتٍ قال مطيعات .
وقوله : تائِباتٍ يقول : راجعات إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته عما يكرهه منهنّ عابِدَاتٍ يقول : متذللات لله بطاعته . وقوله سائحاتٍ يقول : صائمات .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : سائحات فقال بعضهم : معنى ذلك : صائمات . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله سائحات قال : صائمات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله سَائحاتٍ قال : صائمات .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال السّائحات : الصائمات .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : سائحاتٍ يعني : صائمات .
وقال آخرون : السائحات : المهاجرات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا إسحق بن إسرائيل ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراورديّ ، عن زيد بن أسلم ، قال : السائحات : المهاجرات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله سائحات قال : مهاجرات ليس في القرآن ، ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة ، وهي التي قال الله السّائحُونَ .
وقد بيّنا الصواب من القول في معنى السائحين فيما مضى قبل بشواهده مع ذكرنا أقوال المختلفين فيه ، وكرهنا إعادته .
وكان بعض أهل العربية يقول : نرى أن الصائم إنما سمي سائحا ، لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل حيث يجد الطعام ، فكأنه أُخذ من ذلك .
وقوله : ثَيّباتٍ وهنّ اللواتي قد افترعن وذهبت عذرتهنّ وأبْكارا وهنّ اللواتي لم يجامعن ، ولم يفترعن .
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن على التغليب أو تعميم الخطاب وليس فيه ما يدل على أنه لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه وقرأ نافع وأبو عمرو يبدله بالتخفيف مسلمات مؤمنات مقرات مخلصات أو منقادات مصدقات قانتات مصليات أو مواظبات على الطاعات تائبات عن الذنوب عابدات متعبدات أو متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم سائحات صائمات سمي الصائم سائحا لأنه يسبح بالنهار بلا زاد أو مهاجرات ثيبات وأبكارا وسط العاطف بينهما لتنافيهما ولأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار .