ثم ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ } . دل هذا على كمال عزمه وحزمه وحسن تنظيمه لجنوده وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار ، حتى إنه لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور والنظر : هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء ؟ وهذا هو المعنى للآية . ولم يصنع شيئا من قال : إنه تفقد الطير لينظر أين الهدهد منها{[593]} ليدله على بعد الماء وقربه ، كما زعموا عن الهدهد أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة ، فإن هذا القول لا يدل عليه دليل بل الدليل العقلي واللفظي دال على بطلانه ، أما العقلي فإنه قد عرف بالعادة والتجارب والمشاهدات أن هذه الحيوانات كلها ، ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة ، ينظر الماء تحت الأرض الكثيفة ، ولو كان كذلك لذكره الله لأنه من أكبر الآيات .
وأما الدليل اللفظي فلو أريد هذا المعنى لقال : " وطلب الهدهد لينظر له الماء فلما فقده قال ما قال " أو " فتش عن الهدهد " أو : " بحث عنه " ونحو ذلك من العبارات ، وإنما تفقد الطير لينظر الحاضر منها والغائب ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها . وأيضا فإن سليمان عليه السلام لا يحتاج ولا يضطر إلى الماء بحيث يحتاج لهندسة الهدهد ، فإن عنده من الشياطين والعفاريت ما يحفرون له الماء ، ولو بلغ في العمق ما بلغ . وسخر الله له الريح غدوها شهر ورواحها شهر ، فكيف -مع ذلك- يحتاج إلى الهدهد ؟ "
وهذه التفاسير التي توجد وتشتهر بها أقوال لا يعرف غيرها ، تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل مجردة ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة وتطبيقها على الأقوال ، ثم لا تزال تتناقل وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم حتى يظن أنها الحق ، فيقع من الأقوال الردية في التفاسير ما يقع ، واللبيب الفطن يعرف أن هذا القرآن الكريم العربي المبين الذي خاطب الله به الخلق كلهم عالمهم وجاهلهم وأمرهم بالتفكر في معانيه ، وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني التي لا تجهلها العرب العرباء ، وإذا وجد أقوالا منقولة عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها إلى هذا الأصل ، فإن وافقته قبلها لكون اللفظ دالا عليها ، وإن خالفته لفظا ومعنى أو لفظا أو معنى ردها وجزم ببطلانها ، لأن عنده أصلا معلوما مناقضا لها وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته .
والشاهد أن تفقد سليمان عليه السلام للطير ، وفقده الهدهد يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه وكمال فطنته حتى فقد هذا الطائر الصغير { فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } أي : هل عدم رؤيتي إياه لقلة فطنتي به لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة ؟ أم على بابها بأن كان غائبا من غير إذني ولا أمري ؟ .
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما ، عن ابن عباس وغيره : كان الهدهد مهندسا ، يدل سليمان ، عليه السلام ، على الماء ، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض ، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض ، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض ، فإذا دلهم عليه أمر سليمان ، عليه السلام ، الجان فحفروا له ذلك المكان ، حتى يستنبط{[22006]} الماء من قراره ، فنزل سليمان ، عليه السلام [ يوما ]{[22007]} ، بفلاة من الأرض ، فتفقد الطير ليرى الهدهد ، فلم يره ، { فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } .
حدَّث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا ، وفي القوم رجل من الخوارج ، يقال له : " نافع بن الأزرق " ، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس ، فقال له : قف يا بن عباس ، غُلبت اليوم ! قال : وَلِمَ ؟ قال : إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض ، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ، ويحثو على الفخ ترابًا ، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ ، فيصيده الصبي . فقال ابن عباس : لولا أن يذهب هذا فيقول : رددت على ابن عباس ، لما أجبته . فقال{[22008]} له : ويحك ! إنه إذا نزل القَدَر عَمي البصر ، وذهب الحَذَر . فقال له نافع : والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبدًا{[22009]} .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البَرْزيّ - من أهل " بَرْزَةَ " من غوطة دمشق ، وكان من الصالحين يصوم [ يوم ]{[22010]} الاثنين والخميس ، وكان أعور قد بلغ الثمانين - فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن زيد : أنه سأله عن سبب عَوَره ، فامتنع عليه ، فألح عليه شهورًا ، فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة ، وسألاه عن وادٍ بها ، فأريتهما إياه ، فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخورًا كثيرًا ، حتى عجعج الوادي بالدخان ، فأخذا يَعْزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما ، فلا يلتفتان إلى شيء منها ، حتى أقبلت حية نحو الذراع ، وعيناها توقدان مثل الدينار . فاستبشرا بها عظيما ، وقالا الحمد لله الذي لم يُخَيب سفرنا من سنة ، وكسرا المجامر ، وأخذا الحية فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به ، فسألتهما أن يكحلاني ، فأبيا ، فألححت عليهما وقلت : لا بد من ذلك ، وتوعدتهما بالدولة ، فكحلا عيني الواحدة اليمنى ، فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة ، أنظر ما تحتها كما تُري المرآة ، ثم قالا لي : سر معنا قليلا فسرت معهما وهما يحدثان ، حتى إذا بعدت عن القرية ، أخذاني فكتفاني ، وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها ، ورمى بها ومضيا . فلم أزل كذلك ملقى مكتوفًا ، حتى مر بي نفر ففَكَّ وَثَاقي . فهذا ما كان من خبر عيني{[22011]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن عمرو الغساني ، حدثنا عَبّاد بن مَيْسَرة المِنْقَرِيّ ، عن الحسن قال : اسم هدهد سليمان عليه السلام : عنبر .
وقال محمد بن إسحاق : كان سليمان ، عليه السلام ، إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه : تفقد الطير ، وكان فيما يزعمون يأتيه نُوَبٌ من كل صنف من الطير ، كل يوم طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلّها من حَضَره إلا الهدهد ، { فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } أخطأه بصري من الطير ، أم غاب فلم يحضر ؟ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.