وقال هنا : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي : أعطاهم من قليل وكثير . { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ }
أي : كافينا اللّه ، فنرضى بما قسمه لنا ، وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا : { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } أي : متضرعون في جلب منافعنا ، ودفع مضارنا ، لسلموا من النفاق ولهدوا إلى الإيمان والأحوال العالية ، ثم بين تعالى كيفية قسمة الصدقات الواجبة فقال :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو أنهم رضوا ما آتاهم}، يعني ما أعطاهم، {الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله}، يعني سيغنينا الله، {من فضله ورسوله}، فيها تقديم، {إنا إلى الله راغبون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولو أن هؤلاء الذين يلمزونك يا محمد في الصدقات رضوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء وقسم لهم من قسم، "وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ "يقول: وقالوا: كافينا الله، "سَيُؤْتِينا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ" يقول: سيعطينا الله من فضل خزائنه، ورسوله من الصدقة وغيرها، "إنّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ" يقول: وقالوا: إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ما آتاهم اللَّه من الرزق، ورسوله من الصدقات، كان خيرًا لهم مما طمعوا في هذه الصدقات، وطعنوا رسول اللَّه في ذلك.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولِهِ} فيه ضمير جواب "لو "تقديره: ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله لكان خيراً لهم أو أعود عليهم، وحَذْفُ الجواب في مثله أبلغ لأنه لتأكيد الخبر به استغني عن ذكره مع أن النفس تذهب إلى كل نوع منه والذكر يقصره على المذكور منه دون غيره. وفيه إخبار على أن الرضا بفعل الله يوجب المزيد من الخير جزاء للراضي على فعله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لو وقفوا مع الله بِسِرِّ الرضا لأَتَتْهُم فنونُ العطاء وتحقيقات المنى، ولحفظوا مع الله -عند الوجدان- مالهم من الأدب، من غير معاناة تَعبٍ، ولا مُقاساة نَصَبٍ.. ولكنهم عَرَّجُوا في أوطانِ الطمعِ فوقعوا في الذُّلِّ والحَرب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قلّ نصيبهم وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما أتانا اليوم {إِنَّا إِلَى الله} في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون.
الآية تدل على أن من طلب الدنيا آل أمره في الدين إلى النفاق. وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين فهذا هو الطريق الحق، والأصل في هذا الباب أن يكون راضيا بقضاء الله، ألا ترى أنه قال: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} فذكر فيه مراتب أربعة:
المرتبة الأولى: الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمه بأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ، وحكيم بمعنى أنه عليم بعواقب الأمور، وكل ما كان حكما له وقضاء كان حقا وصوابا ولا اعتراض عليه.
والمرتبة الثانية: أن يظهر آثار ذلك الرضا على لسانهم، وهو قوله: {وقالوا حسبنا الله} يعني أن غيرنا أخذوا المال ونحن لما رضينا بحكم الله وقضائه فقد فزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية، فحسبنا الله.
والمرتبة الثالثة: وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة العالية التي عندها يقول: {حسبنا الله} نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول: {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} إما في الدنيا إن اقتضاه التقدير، وإما في الآخرة وهي أولى وأفضل. والمرتبة الرابعة: أن يقول: {إنا إلى الله راغبون} فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال والفوز بالمناصب في الدنيا، وإنما المراد إما اكتساب سعادات الآخرة، وإما الاستغراق في العبودية على ما دل لفظ الآية عليه فإنه قال: {إنا إلى الله راغبون} ولم يقل: إنا إلى ثواب الله راغبون...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله، كما قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [الحشر: 59] وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال تعالى: {إنا إلى الله راغبون} ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب} [الانشراح: 7، 18]. فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده، والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فتضمنت هذه الآية الكريمة أدبا عظيما وسرا شريفا، حيث جعل الرضا بما آتاه الله ورسوله والتوكل على الله وحده، وهو قوله: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وكذلك الرغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسول وامتثال أوامره، وترك زواجره، وتصديق أخباره، والاقتفاء بآثاره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر تعالى عن حالهم السيئ الدنيئ الذي لا يجديهم في الدنيا ويهلكهم في الأخرى، نبههم على ما هو الأصلح لهم من الحال الشريف السني فقال: {ولو أنهم} أي المنافقين {رضوا ما آتاهم الله} أي المنعم بجميع النعم لأن له جميع الكمال {ورسوله} الذي عظمته من عظمته قل ذلك المؤتي أو كثر طال زمنه أو قصر {وقالوا} أي مع الرضى {حسبنا الله} أي كافينا لأن له جميع العظمة فهو الغني المطلق. ولما كانت الكفاية تارة تكون بالتنجيز العاجل وتارة بالوثوق بالوعد الآجل، بين أن الثاني هو المراد لأنه أدل على الإيمان فقال: {سيؤتينا الله} أي الملك الأعظم بوعد لا خلف فيه واعتقدوا أن لا حق لأحد فقالوا: {من فضله ورسوله} أي الذي لا يخالف أمره، على ما قدر لنا في الأزل؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنا إلى الله} أي المستجمع لصفات الكمال وحده {راغبون} أي عريقون في الرغبة، فلذلك نكتفي بما يأتي من قبله كائناً ما كان، أي لكان ذلك خيراً لهم لأنه لا ينالهم إلا ما قسم سبحانه لهم شاؤوا أو أبوا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... وتفصيل المعنى: ولو أنهم رضوا من الله بنعمته، ومن الرسول بقسمته، وعلقوا أملهم ورجاءهم بفضل الله وكفايته، وما سينعم به في المستقبل، وبعدل الرسول صلى الله عليه وسلم في القسمة، وانتهت رغبتهم في هذا وغيره إلى الله وحده، لكان خيرا لهم من الطمع في غير مطمع، ولمز الرسول المعصوم من كل ملمز ومهمز، صلوات الله وسلامه عليه. والآيتان تهديان المؤمن إلى القناعة بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها، ثم بأن يوجه قلبه إلى ربه، ولا يرغب إلا إليه في شيء من رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية، لا إلى الرسول ولا إلى من دونه فضلاً وعدلاً وقرباً من الله تعالى بالأولى، فتعسا لعباد القبور، والراغبين إلى ما دفن فيها في مهمات الأمور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...فهذا هو أدب النفس وأدب اللسان، وأدب الإيمان: الرضا بقسمة اللّه ورسوله، رضا التسليم والاقتناع لا رضا القهر والغلب. والاكتفاء باللّه، واللّه كاف عبده. والرجاء في فضل اللّه ورسوله والرغبة في اللّه خالصة من كل كسب مادي، ومن كل طمع دنيوي.. ذلك أدب الإيمان الصحيح الذي ينضح به قلب المؤمن. وإن كانت لا تعرفه قلوب المنافقين، الذين لم تخالط بشاشة الإيمان أرواحهم، ولم يشرق في قلوبهم نور اليقين...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد بين الله تعالى صفات المؤمنين بجوار ما يفعله الذين في قلوبهم نفاق، فقال تعالى مبينا من في قلوبهم نفاق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ}، {لو} في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ} هي شرطية، وجوابها محذوف تقديره مثلا: (لكان خيرا لهم)، وإني أظن أن حذف الجواب لتضمن {لو} معنى الحض والرجاء بأن يكونوا كذلك إن خلعوا رداء النفاق من أنفسهم.
وقوله تعالى: {رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ}، فيه بعض نواح نشير إلى بعضها أولاها: أن (رضى) تتعدى بالباء فيقال رضيت بالأمر، وتتعدى بنفسها، فيقال رضيت الأمر، وهنا متعدية بنفسها، وأشعر بأنها إذ تعدت بنفسها تتضمن معنى الرغبة والاقتناع، وهذا ما يليق بالمؤمن عند العطاء من الله ورسوله.
الثانية: أن الله تعالى قال: {آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ}، وذكر الله سبحانه وتعالى، مع أنهم لمزوا ما فعله الرسول، للإشارة إلى عظم الجرم الذي ارتكبوه؛ لأنهم إذ عابوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكأنهم يعيبون الله تعالى؛ لأن الرسول لا يعمل بالهوى، ولأن الرسول ينفذ، وإنهم إذا عصوه عليه السلام فقد تجرؤوا؛ لأن الله تعالى يقول: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء 80).
الثالثة: ما أشرنا إليه من قبل، إلى أن ذلك الرضاء أمر يحبه الله ورسوله، ويرجوه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لهم، ليكونوا من المؤمنين حقا.
وقد صور الله تعالى النفس المؤمنة بأنها قانعة غير طامعة، ونفس المنافق غير قانعة بل هي طامعة دائما وتريد من الدنيا المزيد؛ لأنها لا تؤمن إلا بالدنيا ومتعها وموادها، فيبتغون المزيد منها،وبئس ما يبغون، فقال سبحانه في تصوير النفس المؤمنة بعد رضاها {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ}، أي كافينا الله، ولم يقل الله تعالى عنهم أنهم يقولون حسبنا ما آتانا الله، بل إنه سبحانه وتعالى يقول عنهم: {حَسْبُنَا اللّهُ} أي إن الله كافينا، أعطانا هذا ما رضينا به، وسيعطينا إن احتجنا، وما أخذنا يكفينا.
وقوله تعالى عنهم: {حَسْبُنَا اللّهُ} فيه من معاني التفويض والتوكل على الله ورجاء ما عنده ما لا يدركه إلا القلوب المؤمنة المتبتلة الضارعة له سبحانه وتعالى وحده.
وإن قوله تعالى: {سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ}، فيه تصوير معنى الاتكال على الله تعالى، ورجاء ما عنده. على أنه فضله فيستحق الشكر ولا يجوز أن ينتقص ما يأمر بإعطائه، وينتقص باللمز، والسير في طريق الكفر، وهو الضلال البعيد.
ولقد قال الله حاكيا عن أقوال المؤمنين: {إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} هذه غاية الضراعة، أن يرغبوا إلى الله تعالى وحده ولا يرغبون فيما لا يقتنونه، ولا عرضا من أعراض الدنيا ولا غاية من غاياتها، وتقديم الجار والمجرور {إلى الله} تعالى على {راغبون} يفيد الاختصاص، أي لا يرغبون إلا إليه سبحانه وتعالى.
وهنا يأتي الحق سبحانه وتعالى بالعلاج فيقول جل جلاله: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون}. كيف يقول الحق سبحانه وتعالى: {ما آتاهم} مع أنهم لم يأخذوا شيئا، بل إنهم قد سخطوا؛ لأنهم لم يأخذوا شيئا. نقول: إن الله يريد أن يلفتهم إلى أن له عطاء في المنح وعطاء في المنع. فعطاء الحق سبحانه لمن أخذ، وحرمان الحق سبحانه للبعض، وكل ذلك فيه عطاء من الحق جل وعلا، ولكن الناس لا يلتفتون إلى ذلك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين منع الغنائم عن الأنصار في حنين أخذوا المعية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أكبر وأسمى من الغنائم، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المحيا محياكم، والممات مماتكم. لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار". وبذلك أخذوا ما هو أكبر وأهم وأعظم من الغنائم. إذن فقد يكون في المنع إيتاء. الحق سبحانه وتعالى يقول: {ما آتاهم الله ورسوله} وهو عز وجل المشرع، والرسول عليه الصلاة والسلام هو المبلغ والمنفذ، فإذا ما رضوا بقسمة الله، فالرضاء عمل قلبي كان عليهم أن يترجموه بكلام نزوعي هو: {وقالوا حسبنا الله} فكأن الرضا عمل القلب، والتعبير عن الرضا عمل اللسان، وما داموا قد احتسبوا الأمر عند الله، فالله هو الذي يرعى، وفي عطائه خير وفي منعه خير... ولذلك فأهم ما يجب أن يحرص عليه المؤمن ليس هو الصلة بالنعمة ولكن الصلة بالمنعم. وفي أن الله هو القادر على أن يعوض أي شيء يفوت. ويوضح لنا سبحانه الصورة أكثر فيقول: {سيؤتينا الله من فضله} أي سيعوضنا عنها بخير منها. وعطاء الله دائما فضل... {إنا إلى الله راغبون} وما دمنا إلى الله راغبين، كان يجب ألا نعزل عطاء الدنيا عن عطاء الآخرة، فالدنيا ليست كل شيء عندك؛ ما دمت راغبا إلى الله الذي سيعطيك نعيما لا حدود له في الآخرة. ولذلك فرغبتنا في الله كان يجب ألا تجعلنا نسخط على نعيم فاتنا في الدنيا، لأن هناك نعيما بلا حدود ينتظرنا في الآخرة...