تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَمَا زَالَت تِّلۡكَ دَعۡوَىٰهُمۡ حَتَّىٰ جَعَلۡنَٰهُمۡ حَصِيدًا خَٰمِدِينَ} (15)

{ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ْ } أي : بمنزلة النبات الذي قد حصد وأنيم ، قد خمدت منهم الحركات ، وسكنت منهم الأصوات ، فاحذروا - أيها المخاطبون - أن تستمروا على تكذيب أشرف الرسل فيحل بكم كما حل بأولئك .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَمَا زَالَت تِّلۡكَ دَعۡوَىٰهُمۡ حَتَّىٰ جَعَلۡنَٰهُمۡ حَصِيدًا خَٰمِدِينَ} (15)

ولكن لقد فات الأوان . فليقولوا ما يشاءون . فإنهم لمتروكون يقولون حتى يقضى الأمر وتخمد الأنفاس :

( فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) .

ويا له من حصيد آدمي ، لا حركة فيه ولا حياة ؛ وكان منذ لحظة يموج بالحركة ، وتضطرب فيه الحياة !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَمَا زَالَت تِّلۡكَ دَعۡوَىٰهُمۡ حَتَّىٰ جَعَلۡنَٰهُمۡ حَصِيدًا خَٰمِدِينَ} (15)

تفريع على جملة { قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين } [ الأنبياء : 14 ] ، فاسم { تلك } إشارة إلى القول المستفاد من قوله تعالى { قالوا يا ويلنا } [ الأنبياء : 14 ] ، وتأنيثه لأنه اكتسب التأنيث من الإخبار عنه بدعواهم ، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة يَدعون بها على أنفسهم .

وهذا الوجه يرجح التفسير الأول لمعنى قوله تعالى { لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } [ الأنبياء : 13 ] لأن شأن الأقوال التي يقولها الخائف أن يكررها إذ يغيب رأيه فلا يهتدي للإتيان بكلام آخر ، بخلاف الكلام المسوق جواباً فإنه لا داعي إلى إعادته .

والمعنى : فما زالوا يكررون مقالتهم تلك حتى هلكوا عن آخرهم .

وسمي ذلك القول دعوى لأن المقصود منه هو الدعاء على أنفسهم بالويل ، والدعاء يسمى دعوى كما في قوله تعالى { دعواهم فيها سبحانك اللهم } في [ سورة يونس : 10 ] . أي فما زال يُكرر دعاؤهم بذلك فلم يكفّوا عنه إلى أن صيرناهم كالحصيد ، أي أهلكناهم .

وحرف { حتى } مؤذن بنهاية ما اقتضاه قوله تعالى { فما زالت تلك دعواهم } .

والحصيد : فعيل بمعنى مفعول ، أي المحصود ، وهذه الصيغة تلازم الإفراد والتذكير إذا جرت على الموصوف بها كما هنا .

والحَصد : جَزُّ الزرع والنبات بالمنجل لا باليد . وقد شاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود بمنزلة الاسم الجامد .

والخامد : اسم فاعل من خَمدت النار تخمُد بضم الميم إذا زال لهيبها .

شُبهوا بزرع حُصِد ، أي بعد أن كان قائماً على سوقه خضرا ، فهو يتضمن قبل هلاكهم بزرع في حسن المنظر والطلعة ، كما شبه بالزرع في قوله تعالى : { كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع } في سورة [ الفتح : 29 ] . ويقال للناشىء : أنبته الله نباتاً حسناً ، قال تعالى : { وأنبتها نباتاً حسناً } في سورة [ آل عمران : 37 ] . فللإشارة إلى الشبهين شَبَه البهجة وشبَه الهلك أوثر تشبيههم حين هلاكهم بالحَصيد .

وكذلك شبهوا حين هلاكهم بالنار الخامدة فتضمن تشبيههم قبل ذلك بالنار المشبوبة في القوة والبأس كما شبه بالنار في قوله تعالى : { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } في سورة [ المائدة : 64 ] ، وقوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } في سورة [ البقرة : 17 ] . فحصل تشبيهان بليغان وليسا باستعارتين مكنيتين لأن ذكر المشبه فيهما مانع من تقوّم حقيقة الاستعارة خلافاً للعلاَّمتين التفتزاني والجرجاني في « شرحيهما للمفتاح » مُتمسكين بصيغة جمعهم في قوله تعالى { جعلناهم ، } فجَعَلا ذلك استعارتين مكنيتين إذ شبهوا بزرع حين انعدامه ونار ذهب قوتُها وحذف المشبهُ بهما ورُمز إليهما بلازم كل منهما وهو الحصد والخمود فكان { حصيداً } وصفاً في المعنى للضمير المنصوب في { جعلناهم ، } فالحصيد هنا وصف ليس منزلاً منزلة الجامد كالذي في قوله تعالى { وحَبّ الحصيد } [ ق : 9 ] ، وبذلك لم يكن قوله تعالى { حصيداً } من قبيل التشبيه البليغ إذ لم يشبهوا بحصيد زرع بل أثبت لهم أنهم محصودون استعارة مكنية مثل نظيره في قوله تعالى { خامدين } الذي هو استعارة لا محالة كما هو مقتضى مجيئه بصيغة الجمع المذكر ، ومبنى الاستعارة على تناسي التشبيه . وهذا تكلف منهما ولم أدر ماذا دعاهما إلى ارتكاب هذا التكلف .

وانتصب { حصيداً خامدين } على أن كليهما مفعول ثان مكرر لفعل الجَعل كما يخبر عن المبتدأ بخبرين وأكثر ، فإن مفعولي ( جعل ) أصلهما المبتدأ والخبر وليس ثانيهما وصفاً لأولهما كما هو ظاهر .