البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَمَا زَالَت تِّلۡكَ دَعۡوَىٰهُمۡ حَتَّىٰ جَعَلۡنَٰهُمۡ حَصِيدًا خَٰمِدِينَ} (15)

خمدت النار : طفئت

واسم { زالت } هو اسم الإشارة وهو { تلك } وهو إشارة إلى الجملة المقولة أي فما زالت تلك الدعوى { دعواهم } .

قال المفسرون : فما زالوا يكررون تلك الكلمة فلم تنفعهم كقوله { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } والدعوى مصدر دعا يقال : دعا دعوى ودعوة كقوله { وآخر دعواهم } لأن المويل كأنه يدعو الويل .

وقال الحوفي : وتبعه الزمخشري وأبو البقاء : { تلك } اسم { زالت } و { دعواهم } الخبر ، ويجوز أن يكون { دعواهم } اسم { زالت } و { تلك } في موضع الخبر انتهى .

وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء قاله الزجاج قبلهم ، وأما أصحابنا المتأخرون فاسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول ، فكما لا يجوز في باب الفاعل والمفعول إذا ألبس أن يكون المتقدم الخبر والمتأخر الاسم لا يجوز ذلك في باب كان ، فإذا قلت : كان موسى صديقي لم يجز في موسى إلى أن يكون اسم كان وصديقي الخبر ، كقولك : ضرب موسى عيسى ، فموسى الفاعل وعيسى المفعول ، ولم ينازع في هذا من متأخري أصحابنا إلاّ أبو العباس أحمد بن عليّ عُرِّف بابن الحاج وهو من تلاميذ الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ونبهائهم ، فأجاز أن يكون المتقدم هو المفعول والمتأخر هو الفاعل وأن ألبس فعلى ما قرره جمهور الأصحاب يتعين أن يكون { تلك } اسم { زالت } و { دعواهم } الخبر .

وقوله : { حصيداً } أي بالعذاب تركوا كالصحيد { خامدين } أي موتى دون أرواح مشبهين بالنار إذا طفئت و { حصيداً } مفعول ثان .

قال الحوفي : و { خامدين } نعت لحصيداً على أن يكون { حصيداً } بمعنى محصودين يعني وضع المفرد ويراد به الجمع ، قال : ويجوز أن يجعل { خامدين } حالاً من الهاء والميم .

وقال الزمخشري : { جعلناهم } مثل الحصيد شبههم في استئصالهم واصطلامهم كما تقول : جعلناهم رماداً أي مثل الرماد ، والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له ، فلما دخل عليهما جعل نصبهما جميعاً على المفعولية .

فإن قلت : كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل ؟ قلت : حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد لأن معنى قولك : جعلته حلواً حامضاً جعلته للطعمين ، وكذلك معنى ذلك { جعلناهم } جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ، والخمود عطف على المماثلة لا على الحصيد انتهى .