{ 1 - 4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
هذا تعجب من حالة الناس ، وأنه لا ينجع فيهم تذكير ، ولا يرعون إلى نذير ، وأنهم قد قرب حسابهم ، ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة ، والحال أنهم في غفلة معرضون ، أي : غفلة عما خلقوا له ، وإعراض عما زجروا به . كأنهم للدنيا خلقوا ، وللتمتع بها ولدوا ، وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير والوعظ ، ولا يزالون في غفلتهم وإعراضهم ، ولهذا قال : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } .
سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة
هذه السورة ، مكية تعالج الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السور المكية . . موضوع العقيدة . . تعالجه في ميادينه الكبيرة : ميادين التوحيد ، والرسالة والبعث .
وسياق السورة يعالج ذلك الموضوع بعرض النواميس الكونية الكبرى وربط العقيدة بها . فالعقيدة جزء من بناء هذا الكون ، يسير على نواميسه الكبرى ؛ وهي تقوم على الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض ، وعلى الجد الذي تدبر به السموات والأرض ، وليست لعبا ولا باطلا ، كما أن هذا الكون لم يخلق لعبا ، ولم يشب خلقه باطل : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) . .
ومن ثم يجول بالناس . . بقلوبهم وأبصارهم وأفكارهم . . بين مجالي الكون الكبرى : السماء والأرض . الرواسي والفجاج . الليل والنهار . الشمس والقمر . . . موجها أنظارهم إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرفها ، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبر ، والمالك الذي لا شريك له في الملك ، كما أنه لا شريك له في الخلق . . ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . .
ثم يوجه مداركهم إلى وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض ، وإلى وحدة مصدر الحياة : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي )وإلى وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء : ( كل نفس ذائقة الموت ) . . وإلى وحدة المصير الذي إليه ينتهون : ( وإلينا ترجعون ) . .
والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية الكبرى . فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار الزمان : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) . . وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون الرسل كلهم من البشر : ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) . .
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى ، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض . فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل ، لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) . . وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين ، وينجي الله الرسل والمؤمنين : ( ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ) . . وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) . .
ومن ثم يستعرض السياق أمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا . يطول بعض الشيء عند عرض حلقة من قصة إبراهيم - عليه السلام - وعند الإشارة إلى داود وسليمان . ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح ، وموسى ، وهارون ، ولوط ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى عليهم السلام .
وفي هذا الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة . تتجلى . في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات ، بعدما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس .
كذلك يتضمن سياق السورة بعض مشاهد القيامة ؛ وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة .
وهكذا تتجمع الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد ، هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل [ ص ] فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين كما يصفهم في مطلع السورة : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم . . . ) .
إن هذه الرسالة حق وجد . كما أن هذا الكون حق وجد . فلا مجال للهو في استقبال الرسالة ؛ ولا مجال لطلب الآيات الخارقة ؛ وآيات الله في الكون وسنن الكون كله . توحي بأنه الخالق القادر الواحد ، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد .
نظم هذه السورة من ناحية بنائه اللفظي وإيقاعه الموسيقي هو نظم التقرير ، الذي يتناسق مع موضوعها ، ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع . . يبدو هذا واضحا بموازنته بنظم سورتي مريم وطه مثلا . فهناك الإيقاع الرخي الذي يناسب جوهما . وهنا الإيقاع المستقر الذي يناسب موضوع السورة وجوها . .
ويزيد هذا وضوحا بموازنة نظم قصة إبراهيم - عليه السلام - في مريم ونظمها هنا . وكذلك بالتأمل في الحلقة التي أخذت منها هنا الحلقة التي أخذت منها هناك . ففي سورة مريم أخذت حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه . أما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام ، وإلقاء إبراهيم في النار . ليتم التناسق في الموضوع والجو والنظم والإيقاع .
والسياق في هذه السورة يمضي في أشواط أربعة :
الأول : ويبدأ بمطلع قوي الضربات ، يهز القلوب هزا ، وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق ، وهي عنه غافلة لاهية : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . . . الخ .
ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين ، الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين ، فعاشوا سادرين في الغي ظالمين : ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون . لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون . قالوا : يا ويلنا ! إنا كنا ظالمين . فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) . .
ثم يربط بين الحق والجد في الدعوة ، والحق والجد في نظام الكون . وبين عقيدة التوحيد ونواميس الوجود . وبين وحدة الخالق المدبر ووحدة الرسالة والعقيدة . ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها على النحو الذي أسلفناه .
فأما الشوط الثاني فيرجع بالحديث إلى الكفار الذين يواجهون الرسول [ ص ] بالسخرية والاستهزاء ، بينما الأمر جد وحق ، وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام . وهم يستعجلون العذاب والعذاب منهم قريب . . وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة . ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرسل قبلهم . ويقرر أن ليس لهم من الله من عاصم . ويوجه قلوبهم إلى تأمل يد القدرة وهي تنقص الأرض من أطرافها ، وتزوي رقعتها وتطويها ، فلعل هذا أن يوقظهم من غفلتهم التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء . .
وينتهي هذا الشوط بتوجيه الرسول [ ص ] إلى بيان وظيفته : ( قل : إنما أنذركم بالوحي ) وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم : ( ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون )حتى تنصب الموازين القسط وهم في غفلتهم سادرون .
ويتضمن الشوط الثالث استعراض أمة النبيين ، وفيها تتجلى وحدة الرسالة والعقيدة . كما تتجلى رحمة الله بعباده الصالحين وإيحاؤه لهم وأخذ المكذبين .
أما الشوط الرابع والأخير فيعرض النهاية والمصير ، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة : ويتضمن ختام السورة بمثل ما بدأت : إيقاعا قويا ، وإنذارا صريحا ، وتخلية بينهم وبين مصيرهم المحتوم . .
والآن نأخذ في دراسة الشوط الأول بالتفصيل . .
( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا . هل هذا إلا بشر مثلكم . أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ? قال : ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم . بل قالوا : أضغاث أحلام ، بل افتراه ، بل هو شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون . ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها . . أفهم يؤمنون ? وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ، وما كانوا خالدين . ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ) . .
مطلع قوي يهز الغافلين هزا . والحساب يقترب وهم في غفلة . والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى . والموقف جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته .
سماها السلف ( سورة الأنبياء ) . ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : بنو إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، طه ، والأنبياء ، هن من العتاق الأول وهن من تلادي . ولا يعرف لها اسم غير هذا .
ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذكر فيها أسماء ستة عشر نبيا ومريم ولم يأت في سورة القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سورة من سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام . فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبيا في قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } إلى قوله : { ويونس ولوطا } فإن كانت سورة الأنبياء هذه نزلت قبل سورة الأنعام فقد سبقت بالتسمية بالإضافة إلى الأنبياء ، وإلا فاختصاص سورة الأنعام بذكر أحكام الأنعام أوجب تسميتها بذلك الاسم فكانت سورة الأنبياء أجدر من بقية سور القرآن بهذه التسمية ، على أن من الحقائق المسلمة أن وجه التسمية لا يوجبها .
وهي مكية بالاتفاق . وحكي ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك ونقل السيوطي في الإتقان استثناء قوله تعالى : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون } ، ولم يعزه إلى قائل . ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان ، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية ، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز ، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها . وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح . وسيأتي بيانه في موضعه . وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية بالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها .
وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة وقبل سورة النحل ، فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة . ولعلها نزلت بعد إسلام من أسلم من أهل المدينة كما يقتضيه قوله تعالى : { وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } ، كما سيأتي بيانه ، غير أن ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس أن قوله تعالى في سورة الزخرف : { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } ، أن المراد بضرب المثل هو المثل الذي ضربه ابن الزبعري لما نزل قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } كما يأتي يقتضي أن سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف . وقد عدت الزخرف ثانية وستين في النزول .
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشر وفي عد أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة .
والأغراض التي ذكرت في هذه السور هي : الإنذار بالبعث ، وتحقيق وقوعه وإنه لتحقق وقوعه كان قريبا .
وإقامة الحجة عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم وخلق الموجودات من السماء .
التحذير من التكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله .
والتذكير بأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله .
وذكر كثير من أخبار الرسل عليهم السلام .
والتنويه بشأن القرآن وأنه نعمة من الله على المخاطبين وشأن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وأنه رحمة للعالمين .
والتذكير بما أصاب الأمم السالفة من جراء تكذيبهم رسلهم وأن وعد الله للذين كذبوا واقع ولا يغرهم تأخيره فهو جاء لا محالة .
وحذرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين من قبلهم حتى أصابهم بغتة ، وذكر من أشراط الساعة فتح يأجوج ومأجوج .
وذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق .
ومن الإيماء إلى أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أتقن وأحكم لتجزي كل نفس بما كسبت وينتصر الحق على الباطل .
ثم ما في ذلك الخلق من الدلائل على وحدانية الخالق إذا لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة .
وتنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن الأولاد والاستدلال على وحدانية الله تعالى .
وما يكرهه على فعل ما لا يريد .
وأن جميع المخلوقات صائرون إلى الفناء .
وأعقب ذلك تذكيرهم بالنعمة الكبرى عليهم وهي نعمة الحفظ .
ثم عطف الكلام إلى ذكر الرسل والأنبياء .
وتنظير أحوالهم وأحوال أممهم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم وأحوال قومه .
وكيف نصر الله الرسل على أقوامهم واستجاب دعواتهم .
وأن الرسل كلهم جاءوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطعه الضالون قطعا .
وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم .
وأن العاقبة للمؤمنين في خير الدنيا وخير الآخرة ، وأن الله سيحكم بين الفريقين بالحق ويعين رسله على تبليغ شرعه .
افتتاح الكلام بهذه الجملة أسلوب بديع في الافتتاح لما فيه من غرابة الأسلوب وإدخال الروع على المنذَرين ، فإن المراد بالناس مشركو مكة ، والاقتراب مبالغة في القرب ، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقق الفعل أي اشتد قرب وقوعه بهم .
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية شبه حال إظلال الحساب لهم بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس ، ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة ، وهي هيئة المغير والمُعَجِّل في الإغارة على القوم فهو يلح في السير تكلفاً للقرب من ديارهم وهم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غارّين معرضين عن اقتراب العدوّ منهم ، فالكلام تمثيل .
والمراد من الحساب إما يوم الحساب ، ومعنى اقترابه أنه قريب عند الله لأنه محقق الوقوع ، أو قريب بالنسبة إلى ما مضى من مدة بقاء الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم " بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين " أو اقترب الحساب كناية عن اقتراب موتهم لأنهم إذا ماتوا رأوْا جَزاء أعمالهم ، وذلك من الحساب . وفي هذا تعريض بالتهديد بقرب هلاكهم وذلك بفنائهم يوم بدر .
أو المراد بالحساب المؤاخذة بالذنب كما في قوله تعالى : { إنْ حسابهم إلاّ على ربي } [ الشعراء : 113 ] وعليه فالاقتراب مستعمل في حقيقته أيضاً فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه .
واللام في قوله { للناس } إن أبقيت على معناها الأصلي من الاختصاص فذكرها تأكيد لمعنى اللام المقدرة في الإضافة في قوله { حسابهم } لأن تقديره : حسابٌ لهم . والضمير عائد إلى { الناس } فصار قوله { للناس } مساوياً للضمير الذي أضيف إليه ( حساب ) فكأنه قيل : اقترب حساب للناس لهم فكانَ تأكيداً لفظياً ، وكما تقول : أزف للحي رَحيلُهم ، أصله أزف الرحيلُ للحيّ ثم صار أزف للحي رحيلُهم ، ومنه قول العرب : لا أبَا لك ، أصله لا أباكَ ، فكانت لام ( لك ) مؤكدة لمعنى الإضافة لإمكان إغناء الإضافة عن ذكر اللام . قال الشاعر :
أبالموت الذي لا بد أني *** مُلاق لا أباك تخوّفيني
وأصل النظم : اقترب للناس الحساب . وإنما نظم التركيب على هذا النظم بأن قدم ما يدل على المضاف إليه وعُرِّف { الناس } تعريف الجنس ليحصل ضرب من الإبهام ثم يقع بعده التبيين ، ولِما في تقديم الجار والمجرور من الاهتمام بأن الاقتراب للناس ليعلم السامع أن المراد تهديد المشركين لأنهم الذين يُكنَّى عنهم بالناس كثيراً في القرآن ، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مضاف فصار مثل : اقترب حساب للناس الحساب ، وحذف المضاف لدلالة مفسره عليه . ولما كان الحساب حساب الناس المذكورين جيء بضمير الناس ليعود إلى لفظ الناس فيحصل تأكيد آخر وهذا نمط بديع من نسج الكلام ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى ( من ) أو بمعنى ( إلى ) متعلقة ب { اقترب } فيكون المجرور ظرفاً لغواً ، وعن ابن مالك أنه مَثّل لانتهاء الغاية بقولهم : « تقربت منك » .
وجملة { وهم في غفلة معرضون } حال من { الناس ، } أي اقترب منهم الحساب في حال غفلتهم وإعراضهم . والمراد بالناس المشركون لأنهم المقصود بهذا الكلام كما يدل عليه ما بعده .
والغفلة : الذهول عن الشيء وعن طرق علمه ، وقد تقدمت عند قوله تعالى : { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } في سورة [ الأنعام : 156 ] ، وقوله تعالى : { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } في [ سورة الأعراف : 146 ] .
والإعراض : صرف العقل عن الاشتغال بالشيء . وتقدم في قوله : { فأعرض عنهم وعظهم } في سورة [ النساء : 63 ] ، وقوله : { فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } في سورة [ الأنعام : 68 ] .
ودلت ( في ) على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم ، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها ، ذلك أن غفلتهم عن يوم الحساب متأصلة فيهم بسبب سابق كفرهم . والمعنى : أنهم غافلون عن الحساب وعن اقترابه .
وإعراضهم هو إبايتهم التأمل في آيات القرآن التي تذكرهم بالبعث وتستدل لهم عليه ، فمتعلق الإعراض غير متعلق الغفلة لأن المعرض عن الشيء لا يعد غافلاً عنه ، أي أنهم لما جاءتهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وإنذارهم بيوم القيامة استمروا على غفلتهم عن الحساب بسبب إعراضهم عن دلائل التذكير به . فكانت الغفلة عن الحساب منهم غير مقلوعة من نفوسهم بسبب تعطيلهم ما شأنه أن يقلع الغفلة عنهم بإعراضهم عن الدلائل المثبتة للبعث .