تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا }

لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلام ، وذكر أنه عبده ورسوله ، ذكر هنا أنه لا يستنكف عن عبادة ربه ، أي : لا يمتنع عنها رغبة عنها ، لا هو { وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } فنزههم عن الاستنكاف وتنزيههم عن الاستكبار من باب أولى ، ونفي الشيء فيه إثبات ضده .

أي : فعيسى والملائكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم ، وأحبوها وسعوا فيها بما يليق بأحوالهم ، فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم ، فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ولا لإلهيته ، بل يرون افتقارهم لذلك فوق كل افتقار .

ولا يظن أن رفع عيسى أو غيره من الخلق فوق مرتبته التي أنزله الله فيها وترفعه عن العبادة كمالا ، بل هو النقص بعينه ، وهو محل الذم والعقاب ، ولهذا قال : { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } أي : فسيحشر الخلق كلهم إليه ، المستنكفين والمستكبرين وعباده المؤمنين ، فيحكم بينهم بحكمه العدل ، وجزائه الفصل .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

ويمضي السياق في البيان ؛ لتقرير أكبر قضايا التصور الاعتقادي الصحيح ، وهي الحقيقة الاعتقادية التي تنشأ في النفس من تقرير حقيقة الوحدانية . . حقيقة أن ألوهية الخالق تتبعها عبودية الخلائق . . وأن هناك فقط : ألوهية وعبودية . . ألوهية واحدة ، وعبودية تشمل كل شيء ، وكل أحد ، في هذا الوجود .

ويصحح القرآن هنا عقيدة النصارى كما يصحح كل عقيدة تجعل للملائكة بنوة كبنوة عيسى ، أو شركا في الألوهية كشركته في الألوهية :

( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله - ولا الملائكة المقربون - ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ؛ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرًا ) .

لقد عني الإسلام عناية بالغة بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه ؛ وحدانية لا تتبلس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة من الصور ؛ وعني بتقرير أن الله - سبحانه - ليس كمثله شيء . فلا يشترك معه شيء في ماهية ولا صفة ولا خاصية . كما عني بتقرير حقيقة الصلة بين الله - سبحانه - وكل شيء [ بما في ذلك كل حي ] وهي أنها صلة ألوهية وعبودية . ألوهية الله ، وعبودية كل شيء لله . . والمتتبع للقرآن كله يجد العناية فيه بالغة بتقرير هذه الحقائق - أو هذه الحقيقة الواحدة بجوانبها هذه - بحيث لا تدع في النفس ظلا من شك أو شبهة أو غموض .

ولقد عني الإسلام كذلك بأن يقرر أن هذه هي الحقيقة التي جاء بها الرسل أجمعون . فقررها في سيرة كل رسول ، وفي دعوة كل رسول ؛ وجعلها محور الرسالة من عهد نوح عليه السلام ، إلى عهد محمد خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . .

وكان من العجيب أن أتباع الديانات السماوية - وهي حاسمة وصارمة في تقرير هذه الحقيقة - يكون منهم من يحرف هذه الحقيقة ؛ وينسب لله - سبحانه - البنين والبنات ؛ أو ينسب لله - سبحانه - الامتزاج مع أحد من خلقه في صورة الأقانيم ؛ اقتباسا من الوثنيات التي عاشت في الجاهليات !

ألوهية وعبودية . . ولا شيء غير هذه الحقيقة . ولا قاعدة إلا هذه القاعدة . ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية ، وصلة العبودية بالألوهية . .

ولا تستقيم تصورات الناس - كما لا تستقيم حياتهم - إلا بتمحيض هذه الحقيقة من كل غبش ، ومن كل شبهة ، ومن كل ظل !

أجل لا تستقيم تصورات الناس ، ولا تستقر مشاعرهم ، إلا حين يستيقنون حقيقة الصلة بينهم وبين ربهم . .

هو إله لهم وهم عبيده . . هو خالق لهم وهم مخاليق . . هو مالك لهم وهم مماليك . . وهم كلهم سواء في هذه الصلة ، لا بنوة لأحد . ولا امتزاج بأحد . . ومن ثم لا قربى لأحد إلا بشيء يملكه كل أحد ويوجه إرادته إليه فيبلغه : التقوى والعمل الصالح . . وهذا في مستطاع كل أحد أن يحاوله . فأما البنوة ، وأما الامتزاج فانى بهما لكل أحد ؟ !

ولا تستقيم حياتهم وارتباطاتهم ووظائفهم في الحياة ، إلا حين تستقر في أخلادهم تلك الحقيقة : أنهم كلهم عبيد لرب واحد . . ومن ثم فموقفهم كلهم تجاه صاحب السلطان واحد . . فأما القربى إليه ففي متناول الجميع . . عندئذ تكون المساواة بين بني الانسان ، لانهم متساوون في موقفهم من صاحب السلطان . . وعندئذ تسقط كل دعوى زائفة في الوساطة بين الله والناس ؛ وتسقط معها جميع الحقوق المدعاة لفرد أو لمجموعة أو لسلسلة من النسب لطائفة من الناس . . وبغير هذا لا تكون هناك مساواة أصيلة الجذور في حياة بني الإنسان ومجتمعهم ونظامهم ووضعهم في هذا النظام !

فالمسألة - على هذا - ليست مسألة عقيدة وجدانية يستقر فيها القلب على هذا الأساس الركين ، فحسب ، إنما هي كذلك مسألة نظام حياة ، وارتباطات مجتمع ، وعلاقات أمم وأجيال من بني الإنسان .

إنه ميلاد جديد للإنسان على يد الإسلام . . ميلاد للإنسان المتحرر من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد . . ومن ثم لم تقم في تاريخ الإسلام " كنيسة " تستذل رقاب الناس ، بوصفها الممثلة لابن الله ، أو للأقنوم المتمم للأقانيم الإلهية ؛ المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم . ولم تقم كذلك في تاريخ الإسلام سلطة مقدسة تحكم " بالحق الإلهي " زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله !

وقد ظل " الحق المقدس " للكنيسة والبابوات في جانب ؛ وللأباطرة الذين زعموا لأنفسهم حقا مقدسا كحق الكنيسة في جانب . . ظل هذا الحق أو ذاك قائما في أوربا باسم [ الابن ] أو مركب الأقانيم . حتى جاء " الصليبيون " إلى أرض الإسلام مغيرين . فلما ارتدوا أخذوا معهم من أرض الإسلام بذرة الثورة على " الحق المقدس " وكانت فيما بعد ثورات " مارتن لوثر " و " كالفن " و " زنجلي " المسماة بحركة الإصلاح . . على أساس من تأثير الإسلام ، ووضوح التصور الإسلامي ، ونفي القداسة عن بني الإنسان ؛ ونفي التفويض في السلطان لأنه ليست هنالك إلا ألوهية وعبودية في عقيدة الإسلام . .

وهنا يقول القرآن كلمة الفصل في ألوهية المسيح وبنوته ؛ وألوهية روح القدس [ أحد الأقانيم ] وفي كل أسطورة عن بنوة أحد لله ، أو ألوهية أحد مع الله ، في أي شكل من الأشكال . . يقول القرآن كلمة الفصل بتقريره أن عيسى بن مريم عبد لله ؛ وأنه لن يستنكف أن يكون عبدالله . وأن الملائكة المقربين عبيد لله ؛ وأنهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله . وأن جميع خلائقه ستحشر إليه . وأن الذين يستنكفون عن صفة العبودية ينتظرهم العذاب الأليم . وأن الذين يقرون بهذه العبودية لهم الثواب العظيم :

( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله - ولا الملائكة المقربون - ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله . وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرًا ) .

إن المسيح عيسى بن مريم لن يتعالى عن أن يكون عبدا لله . لأنه - عليه السلام - وهو نبي الله ورسوله - خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ؛ وأنهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان . وهو خير من يعرف أنه من خلق الله ؛ فلا يكون خلق الله كالله ؛ أو بعضا من الله ! وهو خير من يعرف أن العبودية لله - فضلا على أنها الحقيقة المؤكدة الوحيدة - لا تنقص من قدره . فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء . وهي المرتبة التي يصف الله بها رسله ، وهم في أرقى حالاتهم وأكرمها عنده . . وكذلك الملائكة المقربون - وفيهم روح القدس جبريل - شأنهم شأن عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء - فما بال جماعة من أتباع المسيح يأبون له ما يرضاه لنفسه ويعرفه حق المعرفة ؟ !

( ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ) . .

فاستنكافهم واستكبارهم لا يمنعهم من حشر الله لهم بسلطانه . . سلطان الألوهية على العباد . . شأنهم في هذا شأن المقرين بالعبودية المستسلمين لله . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

ثم برأ تعالى جهة المسيح عليه السلام من أقوالهم ، وخلصه للذي يليق به فقال { لن يستنكف المسيح أن يكون } الآية ، والاستنكاف : إباية بأنفة ، وقوله تعالى : { ولا الملائكة المقربون } زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان ، أي ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين ، لا يستنكفون عن ذلك فكيف سواهم ، وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء{[4390]} .

ثم أخبر تعالى عمن يستنكف أي يأنف عن عبادة الله ويستكبر ، بأنه سيناله الحشر يوم القيامة والرد إلى الله ، وقوله { فسيحشرهم } عبارة وعيد ، وقرأ جمهور الناس «فسيحشرهم » بالياء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «فسنحشرهم » بنون الجماعة ، «فنوفيهم » ، «ونزيدهم » ، «فنعذبهم » ، كلها بالنون ، قال أبو الفتح : وقرأ مسلمة «فسيحشْرهم » «فيعذْبهم » بسكون الراء والباء على التخفيف .


[4390]:- الكلام في تفضيل الملائكة على الأنبياء استدلالا بهذه الآية يحتاج إلى وقفة وتأمل، وبعض المفسرين ينفي ذلك، فابن كثير يقول: "ليس لمن استدل بهذه الآية على تفضيل الملائكة دلالة، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح، والملائكة أقدر على الاستنكاف من المسيح، لكن لا يلزم أن يكونوا أفضل".اهـ، ولكن الزمخشري يرى أن الآية تدل على ذلك قال: من حيث أن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، لأن الكلام سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يرتفع عن العبودية ولا من هو أرفع منه درجة، ويؤيد ذلك تخصيص المقربين، ومثل قول القائل: وما مثله ممن يجاود حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره ورد على الزمخشري أبو حيان في "البحر المحيط" فقال: "التفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل، وأما الآية فقد يُقال: متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول، ولا أن ذلك من باب الترقي". اهـ وارجع إليه في البحر جـ3 ص 403.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

استئناف واقع موقع تحقيق جملة { له ما في السماوات وما في الأرض } [ النساء : 171 ] أو موقع الاستدلال على ما تضمّنته جملة { سبحانه أن يكون له ولد } [ النساء : 171 ] .

والاستنكاف : التكبّر والامتناع بأنفة ، فهو أشد من الاستكبار ، ونفي استنكاف المسيح : إمّا إخبار عن اعتراف عيسى بأنّه عبد الله ، وإمّا احتجاج على النّصارى بما يوجد في أناجيلهم . قال الله تعالى حكاية عنه { قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب } [ مريم : 30 ] إلخ . وفي نصوص الإنجيل كثير ممّا يدلّ على أنّ المسيح عبد الله وأنّ الله إلهُه وربّه ، كما في مجادلته مع إبليس ، فقد قال له المسيح « للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد » .

وعُدل عن طريق الإضافة في قوله : { عبداً لِلّه } فأظهر الحرف الّذي تقدّر الإضافة عليه : لأنّ التنكير هنا أظهر في العبودية ، أي عبداً من جملة العبيد ، ولو قال : عبدَ اللّهِ لأوهمت الإضافة أنّه العبد الخِصّيص ، أو أنّ ذلك علَم له . وأمّا ما حكى الله عن عيسى عليه السلام في قوله { قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب } [ مريم : 30 ] فلأنّه لم يكن في مقام خطاب من ادّعوا له الإلهية .

وعطف الملائكة على المسيح مع أنّه لم يتقدّم ذِكْر لمزاعم المشركين بأنّ الملائكة بنات الله حتّى يتعرّض لردّ ذلك ، إدماج لقصد استقصاء كلّ من ادعيت له بنوة الله ، ليشمله الخبر بنفي استنكافه عن أن يكون عبداً لله ، إذ قد تقدّم قبله قوله : { سبحانه أن يكون له ولد } [ النساء : 171 ] ، وقد قالت العرب : إنّ الملائكة بنات الله من نساء الجنّ ، ولأنَّه قد تقدّم أيضاً قوله : { له ما في السماوات وما في الأرض } [ النساء : 171 ] ، ومِنْ أفضل ما في السماوات الملائكة ، فذكروا هنا للدلالة على اعترافهم بالعبوديّة . وإن جعلتَ قوله : { لن يستنكف المسيح } استدلالاً على ما تضمّنه قوله : { سبحانَه أن يكون له ولد } [ النساء : 171 ] كان عطف { ولا الملائكة المقرّبون } محتمِلاً للتتميم كقوله : { الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 3 ] فلا دلالة فيه على تفضيل الملائكة على المسيح ، ولا على العكس ؛ ومحتملاً للترقّي إلى ما هو الأولى بعكس الحكم في أوهام المخاطبين ، وإلى هذا الأخير مال صاحب « الكشّاف » ومثله بقوله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حّتى تتّبع ملّتهم } [ البقرة : 120 ] وجعل ، الآية دليلاً على أنّ الملائكة أفضل من المسيح ، وهو قول المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء ، وزعم أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك ، وهو تضييق لواسع ، فإنّ الكلام محتمل لوجوه ، كما علمت ، فلا ينهض به الاستدلال .

واعلم أنّ تفضيل الأنبياء على الملائكة مطلقاً هو قول جمهور أهل السنّة ، وتفضيل الملائكة عليهم قول جمهور المعتزلة والبَاقِلاّني والحليمي من أهل السنّة ، وقال قوم بالتفصيل في التفضيل ، ونسب إلى بعض الماتريدية ، ولم يضبط ذلك التفصيل ، والمسألة اجتهادية ، ولا طائل وراء الخوض فيها ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في تفاضل الأنبياء ، فما ظنّك بالخوض في التفاضل بين الأنبياء وبين مخلوقات عالم آخر لا صلة لنا به .

و { المقرّبون } ، يحتمل أن يكون وصفاً كاشفاً ، وأن يكون مقيِّداً ، فيراد بهم الملقّبون ( بالكَرُوبيين ) وهم سادة الملائكة : جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل . ووصفُهم بالكَروبيين وصف قديم وقع في بيت نسب إلى أميّة بن أبي الصلت . وقد قالوا : إنَّه وصف مشتقّ من كَرَب مرادف قَرُب ، وزيد فيه صيغتا مبالغة ، وهي زنة فَعول وياء النسب . والَّذي أظنّ أنّ هذا اللّفظ نقل إلى العربيّة من العبرانيّة : لوقوع هذا اللّفظ في التّوراة في سفر اللاويين وفي سفر الخروج ، وأنّه في العبرانيّة بمعنى القرب ، فلذلك عدل عنه القرآن وجاء بمرادفه الفصيح فقال : { المقرّبون } ، وعليه فمن دونهم من الملائكة يثبت لهم عدم الاستنكاف عن العبوديّة لله بدلالة الأحرى .

وقوله : { ومن يستنكف عن عبادته } الآية تخلّص إلى تهديد المشركين كما أنبأ عنه قوله : { وأمَّا الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذّبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله وليَّاً ولا نصيرا } .

وضمير الجمع في قوله : { فسيحشرهم } عائد إلى غير مذكور في الكلام ، بل إلى معلوم من المقام ، أي فسَيَحْشُر النّاسَ إليه جميعاً كما دلّ عليه التفصيل المفرّع عليه وهو قوله : { فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الخ .