{ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة ، { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي : فلذلك يشرع ما أراد ، ويحكم بما يريد{[1410]} .
( إلا ما شاء الله ) . . فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية ، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى . ليظل الأمر في إطار المشيئة الكبرى ؛ ويظل التطلع دائما إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها . ويظل القلب معلقا بمشيئة الله حيا بهذا التعلق أبدا . .
( إنه يعلم الجهر وما يخفى ) . . وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء . . فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى ؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعا ، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا .
وقوله تعالى : { إلا ما شاء الله } ، قال الحسن وقتادة وغيره مما قضى الله تعالى بنسخه ، وأن ترفع تلاوته وحكمه . وقال الفراء وجماعة من أهل المعاني : هو استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء ، وليس ثم شيء أبيح نسيانه ، وقال ابن عباس : { إلا ما شاء الله } أن ينسيكه لتسن به على نحو قوله عليه السلام «إني لأنسى أَو أُنَسَّى لأسنَّ {[11751]} » وقال بعض المتأولين : { إلا ما شاء الله } أن يغلبك النسيان عليه ثم يذكرك به بعد ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قراءة عباد بن بشر يرحمه الله : «لقد أذكرني كذا في سورة كذا وكذا{[11752]} » .
قال القاضي أبو محمد : ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع فيما أمر بتبليغه ، إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه ، فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك وعلى أن يسنَّ ، أو على النسخ ، ثم أخبر تعالى { إنه يعلم الجهر } من الأشياء { وما يخفى } منها ، وذلك لإحاطته بكل شيء علماً ، وبهذا يصح الخبر بأنه لا ينسى شيئاً إلا ذكره الله تعالى به
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى ، فقال : { إلا ما شاء الله } يعني إلا ما شاء الله فينسخها ، ويأت بخير منها ، ثم قال :{ إنه يعلم الجهر وما يخفى } يعلم الجهر من القول والفعل ، وما يخفى منهما . ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إلاّ ما شاءَ اللّهُ" يقول تعالى ذكره : سنقرئك يا محمد هذا القرآن فلا تنساه ، إلاّ ما شاء الله .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله "فلا تَنْسَى إلاّ ما شاءَ اللّهُ" ؛ فقال بعضهم : هذا إخبار من الله نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن ، ويحفظه عليه ، ونهي منه أن يعجل بقراءته ، كما قال جلّ ثناؤه : "لا تُحَرّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بهِ إنّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرآنَهُ" ... فقال قائلو هذه المقالة : معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان ، ومعنى الكلام : فلا تنسى ، إلاّ ما شاء الله أن تنساه ، ولا تذكُرَه ، قالوا : ذلك هو ما نسخه الله من القرآن ، فرفع حكمه وتلاوته ...
وقال آخرون : معنى النسيان في هذا الموضع : الترك، وقالوا : معنى الكلام : سنقرئك يا محمد فلا تترك العمل بشيء منه ، إلاّ ما شاء الله أن تترك العمل به ، مما ننسخه .
وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : لم يشأ الله أن تنسى شيئا ، وهو كقوله : "خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ" ولا يشاء . قال : وأنت قائل في الكلام : لأعطينك كلّ ما سألت إلاّ ما شئت ، وإلاّ أن أشاء أن أمنعك ، والنية أن لا تمنعه ، ولا تشاء شيئا . قال : وعلى هذا مجارِي الأَيمان ، يستثنى فيها ، ونية الحالف : اللمام .
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي ، قول من قال : معنى ذلك : فلا تنسى إلاّ أن نشاء نحن أن نُنسيكه بنسخه ورفعه ، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك أظهر معانيه .
وقوله : "إنّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَما يَخْفَى" يقول تعالى ذكره : إن الله يعلم الجهر يا محمد من عملك ، ما أظهرته وأعلنته "وَما يَخْفَى" يقول : وما يخفى منه فلم تظهره ، مما كتمته ، يقول : هو يعلم جميع أعمالك ، سرّها وعلانيتها يقول : فاحذره أن يطلع عليك وأنت عامل في حال من أحوالك بغير الذي أذن لك به .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع فيما أمر بتبليغه ، إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه ، فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك وعلى أن يسنَّ ، أو على النسخ ، ثم أخبر تعالى { إنه يعلم الجهر } من الأشياء { وما يخفى } منها ، وذلك لإحاطته بكل شيء علماً ، وبهذا يصح الخبر بأنه لا ينسى شيئاً إلا ذكره الله تعالى به ...
فائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه لا من قوته.
إنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي قليلا كان أو كثيرا أن يكون ذلك هو المستثنى ، فلا جرم كان يبالغ في التثبت والتحفظ والتيقظ في جميع المواضع ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه عليه السلام على التيقظ ، في جميع الأحوال...
أما قوله تعالى : { إنه يعلم الجهر وما يخفى } ففيه وجهان؛
( أحدهما ) : أن المعنى أنه سبحانه عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام ، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان ، فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه.
( والثاني ) : أن يكون المعنى : فلا تنسى إلا ما شاء الله أن ينسخ ، فإنه أعلم بمصالح العبيد ، فينسخ حيث يعلم أن المصلحة في النسخ . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إلا ما شاء الله } أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله ، أن تنساه لأنه نسخه ، أو لتظهر عظمته في أن أعظم الخلق يغلبه القرآن لأنه صفة الله فتنسى الآية أو الكلمة ثم تذكرها تارة بتذكير أحد من آحاد أمتك وتارة بغير ذلك ....{ إنه } أي الذي مهما شاء كان { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }[ النحل : 40 ] ....{ يعلم الجهر } أي ثابت له هذا الوصف على سبيل التجدد والاستمرار في الإقراء والقراءة وغيرهما . ولما ذكره باسمه ليدل على- أنه يعلمه مطلقاً لا بقيد كونه جهراً ، قال مصرحاً بذلك : { وما يخفى } أي يتجدد خفاؤه من القراءة وغيرها على أي حالة كان الإخفاء ، فيدل على علمه به إذا جهر به بطريق الأولى . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( إلا ما شاء الله ) . . فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية ، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى . ليظل الأمر في إطار المشيئة الكبرى ؛ ويظل التطلع دائما إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها . ويظل القلب معلقا بمشيئة الله حيا بهذا التعلق أبدا . . ( إنه يعلم الجهر وما يخفى ) . . وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء . . فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى ؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعا ، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } فهما سيّان لديه ، لأن كل ما في داخلهما جزءٌ من خلقه ومن إرادته ، فهو الذي يقرّر للإنسان ما يختاره من ذلك كله . وقد نستوحي من التأكيد على الإقراء مع عدم النسيان ، أنّ عملية الوعي الحاضر للقرآن واستيعاب آياته وحفظه في دائرة الاستغراق في كلماته ومعانيه ، يمثِّل قاعدةً قرآنيةً إسلاميّةً للدعاة إلى الله ، لا بدّ لهم من أن يتوفّروا عليها ، باعتبار أنها تمثل الأساس في القاعدة الفكرية النفسية لإبلاغ الرسالة في وعيٍ عامل حاضرٍ للمصدر الأساس للرسالة وهو القرآن . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى ، وأنّ كلّ خير منه ، تقول الآية : ( إلاّ ما شاء اللّه إنّه يعلم الجهر وما يخفى ) . ولا يعني هذا الاستثناء بأنّ النسيان قد أخذ من النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطراً ، وإنّما هو لبيان أنّ قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى ، ومشيئته هي الغالبة أبداً ، وإلاّ لتزعزعت الثقة في قول النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وبعبارة أخرى ، إنّما جاء الاستثناء لتبيان الفرق بين علم اللّه تعالى الذاتي ، وعلم النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المعطى له من بارئه . والآية تشبه إلى حد ما ما جاء في الآية ( 108 ) من سورة هود ،...