{ 43 - 45 } { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ }
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ } أي : سامحك وغفر لك ما أجريت .
{ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } في التخلف { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } بأن تمتحنهم ، ليتبين لك الصادق من الكاذب ، فتعذر من يستحق العذر ممن لا يستحق ذلك .
( عفا اللّه عنك . لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) . . .
إنه لطف اللّه برسوله ، فهو يعجل له بالعفو قبل العتاب . فلقد تدارى المتخلفون خلف إذن الرسول - [ ص ] - لهم بالقعود حين قدموا له المعاذير . وقبل أن ينكشف صدقهم من كذبهم في هذه المعاذير . وكانوا سيتخلفون عن الركب حتى ولو لم يأذن لهم . فعندئذ تتكشف حقيقتهم ، ويسقط عنهم ثوب النفاق ، ويظهرون للناس على طبيعتهم ، ولا يتوارون خلف إذن الرسول .
وإذا لم يكن ذلك فإن القرآن يتولى كشفهم ، ويقرر القواعد التي يمتاز بها المؤمنون والمنافقون .
هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق واستأذنوا دون اعتذار ، منهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم فقال بعضهم ائذن لي ولا تفتني ، وقال بعضهم : ائذن لنا في الإقامة ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استيفاء منه صلى الله عليه وسلم ، وأخذاً بالأسهل من الأمور وتوكلاً على الله ، وقال مجاهد : إن بعضهم قال نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإلا قعدنا فنزلت الآية في ذلك .
وقالت فرقة : إن رسول صلى الله عليه وسلم ، أذن لهم دون أن يؤمر بذلك فعفي عنه ما يلحق من هذا ، وقدم له ذكر العفو قبل العتاب إكراماً له صلى الله عليه وسلم ، وقال عمرو بن ميمون الأودي : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر فيهما بشيء .
هذه ، وأمر أسارى بدر ، فعاتبه الله فيهما ، وقالت فرقة بل قوله في هذه الآية { عفا الله عنك } استفتاح كلام ، كما تقول أصلحك الله وأعزك الله ، ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم ، ذنب يعفى عنه لأن صورة الاستنفار قبول الأعذار مصروفة إلى اجتهاده ، وأما قوله { لم أذنت } فهي على معنى التقرير{[5670]} ، وقوله { الذين صدقوا } يريد استئذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك وقوله { وتعلم الكاذبين } يريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهو كذبة قد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن ، وقال الطبري معناه حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذراً والكاذبين في أن لا عذر لهم .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل يختلط المتعذرون وقد قدمنا أن فيهم مؤمنين كالمستأذنين وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والأول أصوب والله أعلم .
وأدخل الطبري أيضاً في تفسير هذه الآية عن قتادة أن هذه الآية نزلت بعدها الآية الأخرى في سورة النور { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم }{[5671]} .
قال القاضي أبو محمد : هذا غلط لأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات ، فأباح الله له أن يأذن فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} في القعود، يعني في التخلف، {حتى يتبين لك الذين صدقوا} في قولهم، يعنى أهل العذر... {وتعلم الكاذبين} في قولهم، يعنى من لا قدر لهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا عتاب من الله تعالى ذكره عاتب به نبيه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه حين شخص إلى تبوك لغزو الروم من المنافقين. يقول جلّ ثناؤه:"عَفَا اللّهُ عَنْكَ" يا محمد ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك، وفي التخلف عنك من قبل أن تعلم صدقهم من كذبهم.
"لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ "لأيّ شيء أذنت لهم، "حتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الكاذبِينَ" يقول: ما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك، إذ قالوا لك: لو استطعنا لخرجنا معك، حتى تعرف من له العذر منهم في تخلفه ومن لا عذر له منهم، فيكون إذنك لمن أذنت له منهم على علم منك بعذره، وتعلم من الكاذب منهم المتخلف نفاقا وشكّا في دين الله...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأُسارى الفدية، فعاتبه الله كما تسمعون. وقال بعضهم: إنّ الله عز وجل وقّره ورفع محله فهو افتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمخاطبه إن كان كريماً عنده: عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي، ورضي الله عنك إلاّ زرتني، وقيل: معناه: أدام الله لك العفو.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذه خطاب فيه بعض العتاب للنبي (صلى الله عليه وآله) في إذنه من استأذنه في التأخر فأذن له، فأخبر الله بأنه كان الأولى أن لا تأذن لهم وتلزمهم الخروج معك حتى إذا لم يخرجوا ظهر نفاقهم، لأنه متى أذن لهم ثم تأخروا لم يعلم بالنفاق كان تأخرهم أم بغيره. وكان الذين استأذنوه منافقين. وحقيقة العفو الصفح عن الذنب، ومثله الغفران، وهو ترك المؤاخذة على الاجرام. وقد كان يجوز أن يعفو الله عن جميع المعاصي كفرا كان او غيره، غير أنه أخبر أنه لا يعفو عن عقاب الكفر، لإجماع الأمة على ذلك، وما عداه من الفسق باق على ما كان عليه من الجواز.
وإنما قال "عفا الله عنك "على غير لفظ المتكلم لأنه أفخم من الكناية لأن هذا الاسم من أسماء التعظيم...
قوله "عفا الله عنك" إنما هي كلمة عتاب له (صلى الله عليه وآله) لم فعل ما كان الأولى به أن لا يفعله، لأنه وإن كان له فعله من حيث لم يكن محظورا فإن الأولى أن لا يفعله، كما يقول القائل لغيره إذا رآه يعاتب أخا له: لم عاتبته وكلمته بما يشق عليه؟ وإن كان له معاتبته وكلامه بما يثقل عليه. وكيف يكون ذلك معصية وقد قال الله في موضع آخر: "فإن استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم" وإنما أراد الله أنه كان ينبغي أن ينتظر تأكيد الوحي فيه...
وقوله "لم أذنت" فالإذن رفع التبعة، عاتب الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) لم أذن لقوم من المتأخرين عن الخروج معه إلى تبوك وإن كان له إذنهم لكن كان الأولى أن لا يأذن "حتى يتبين لك" حتى يظهر لك "الذين صدقوا" في قولهم "لو استطعنا لخرجنا معكم"، لأنه كان فيهم من اعتل بالمرض والعجز وعدم الحمولة "وتعلم الكاذبين" منهم في هذا القول..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق واستأذنوا دون اعتذار، منهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم؛ فقال بعضهم ائذن لي ولا تفتني، وقال بعضهم: ائذن لنا في الإقامة، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استيفاء منه صلى الله عليه وسلم، وأخذاً بالأسهل من الأمور وتوكلاً على الله، وقال مجاهد: إن بعضهم قال نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإلا قعدنا فنزلت الآية في ذلك. وقالت فرقة: إن رسول صلى الله عليه وسلم، أذن لهم دون أن يؤمر بذلك فعفي عنه ما يلحق من هذا، وقدم له ذكر العفو قبل العتاب إكراماً له صلى الله عليه وسلم، وقال عمرو بن ميمون الأودي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر فيهما بشيء. هذه، وأمر أسارى بدر، فعاتبه الله فيهما، وقالت فرقة بل قوله في هذه الآية {عفا الله عنك} استفتاح كلام، كما تقول أصلحك الله وأعزك الله، ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم، ذنب يعفى عنه لأن صورة الاستنفار قبول الأعذار مصروفة إلى اجتهاده، وأما قوله {لم أذنت} فهي على معنى التقرير، وقوله {الذين صدقوا} يريد استئذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك وقوله {وتعلم الكاذبين} يريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهو كذبة قد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن، وقال الطبري معناه حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذراً والكاذبين في أن لا عذر لهم... وعلى هذا التأويل يختلط المتعذرون وقد قدمنا أن فيهم مؤمنين كالمستأذنين وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، والأول أصوب، والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بكتهم على وجه الإعراض لأجل التخلف والحلف عليه كاذباً، أقبل إليه صلى الله عليه وسلم بالعتاب في لذيذ الخطاب على الاسترسال في اللين لهم والائتلاف وأخذ العفو وترك الخلاف إلى هذا الحد، فقال مؤذناً بأنهم ما تخلفوا إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم لأعذار ادعوها كاذبين فيها كما كذبوا في هذا الحلف، مقدماً للدعاء على العتاب لشدة الاعتناء بشأنه واللطف به صلى الله عليه وسلم: {عفا الله} أي ذو الجلال والإكرام {عنك}...
ولما كان من المعلوم أنه لا يأذن إلا لما يرى أنه يرضي الله من تألفهم ونحوه، بين أنه سبحانه يرضى منه ترك الإذن فقال كناية عن ذلك: {لم أذنت لهم} أي في التخلف عنك تمسكاً بما تقدم من الأمر باللين لهم والصفح عنهم موافقاً لما جبلت عليه من محبة الرفق، وهذا إنما كان في أول الأمر لخوف التنازع والفتنة، وأما الآن فقد علا الدين وتمكن أمر المؤمنين فالمأمور به الإغلاظ على المنافقين فهلا تركت الإذن لهم {حتى يتبين لك} أي غاية البيان {الذين صدقوا} أي في التزام الأوامر بما أقروا به من كلمة التوحيد {وتعلم الكاذبين} أي فيما أظهروا من الإيمان باللسان، فإنك إن لم تأذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره؛ قال أبو حيان: و {حتى} غاية الاستفهام -انتهى. وذلك لأنه وإن كان داخلاً على فعل مثبت فمعناه النفي، أي ما لك لم تحملهم على الغزو معك ليتحقق بذلك الحمل من يطيع ومن يعصي، فالحاصل أن الذي فعله صلى الله عليه وسلم حسن موافق لما أمره الله به فإنه لا ينطق عن الهوى بل عن أمر الله إما بإيحاء واصل جديد، أو استناد إلى وحي سابق حاصل عتيد، والذي أشار إليه سبحانه أحسن مثل {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} [الفتح: 2] من باب "حسنات الأبرار سيئات المقربين "ومن باب الترقية من مقام عال إلى مقام أعلى تسييراً فيهم بالعدل لما انكشف أنهم ليسوا بأهل الفضل...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{عفا الله عنك} العفو: التجاوز عن الذنب أو التقصير وترك المؤاخذة عليه، ويستعمل بمعنى الدعاء. أي عفا عما تعلق به اجتهادك أيها الرسول حين استأذنوك وكذبوا عليك في الاعتذار.
{لم أذنت لهم} أي لأي شيء أذنت لهم بالقعود والتخلف كما أرادوا، وهلا استأنيت وتريثت بالإذن {حتى يتبين لك الذين صدقوا} في الاعتذار {وتعلم الكاذبين} فيه، أي حتى تميز بين الفريقين فتعامل كلا بما يليق به، وذلك أن الكاذبين لا يخرجون سواء أذنت لهم أم لم تأذن لهم، فكان مقتضى الحزم أن تتلبث في الإذن أو تمسك عنه اختباراً لهم.
روى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} قال: هم ناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: {والله يعلم إنهم لكاذبون} قال: لقد كانوا يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم، وزهادة في الجهاد.
هذا وإن بعض المفسرين -ولا سيما الزمخشري- قد أساؤوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، وكان يجب أن يتعلموا منها أعلى الأدب معه صلوات الله وسلامه عليه، إذ أخبره ربه ومؤدبه بالعفو قبل الذنب، وهو منتهى التكريم واللطف، وبالغ آخرون كالرازي في الطرف الآخر فأرادوا أن يثبتوا أن العفو لا يدل على الذنب، وغايته أن الإذن الذي عاتبه الله عليه وهو خلاف الأولى، وهو جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاص في معنى الذنب وهو المعصية، وما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته الله تعالى في كتابه تمسكاً باصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له ولمدلول اللغة أيضاً، فالذنب في اللغة كل عمل يستتبع ضررًا أو فوت منفعة أو مصلحة، مأخوذ من ذنب الدابة، وليس مرادفا للمعصية بل أعم منها، والإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهي تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين. وقد قال تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 1، 2].
فالتفصي من إسناد الذنب إلى الأنبياء بالتأويل ليوافق المذاهب والقواعد كالتفصي مما وصف الله به نفسه وما أسنده إليها من العلو والاستواء على العرش أو غيرهما من الصفات، وهو يستلزم جعل بيان نظار المتكلمين لحقائق دين الله أفصح وأبين وأولى بالتلقين من كتاب الله عزَّ وجلَّ الذي وصفه بأنه تبيان لكل شيء، ولو قيل: إن لازم المذهب مذهب مطلقاً، وإن لم يفطن له صاحب المذهب ويلتزمه، كما يقوله الذين يكفرون كثيراً من المخالفين لهم، لجاز الحكم بكفر هؤلاء المتأولين المحرفين، ولكن أهل الحق من علماء السلف يمنعون من الحكم بالكفر على الشخص المعين فيما يتأول فيه مما هو كفر في نفسه، ويعدون من العذر بالجهل ما لا يعده المتكلمون عذراً.
وقد كان الإذن المعاتب عليه اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم فيما لا نص فيه من الوحي، وهو جائز وواقع من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه، وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به، فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل، ويؤيده حديث طلحة في تأبير النخل إذ رآهم صلى الله عليه وسلم يلقحونها فقال: (ما أظن يغني ذلك شيئاً)، فأخبروا بذلك فتركوه ظناً منهم أن قوله هذا من أمر الدين، فنفضت النخل وسقط ثمرها، فأخبر بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عزَّ جلَّ) رواه مسلم.
وقد صرح علماء الأصول بجواز الخطأ في الاجتهاد على الأنبياء عليهم السلام، قالوا: ولكن لا يقرهم الله على ذلك؛ بل يبين لهم الصواب فيه. ومنه ما تقدم في سورة الأنفال من عتاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في أخذ الفدية من أسارى بدر، والخطأ هنالك أعظم مما هنا، فغاية ما فيه هنا أنه مخالف لما يقتضيه الحزم، وكان من لطف الرب اللطيف الخبير برسوله البشير النذير أن أخبره بالعفو عنه قبل بيانه له، وأما ذاك فقد بدأ عتابه له وللمؤمنين -الذين عمل برأي جمهورهم في أخذ الفدية- بقوله: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} [الأنفال: 67]، ثم بين أنه كان مقتضياً لعذاب أليم لولا كتاب من الله سبق فكان مانعاً، وسنذكر فائدة أمثال هذا الاجتهاد والخطأ في تفسير الآية 47 وهي قريبة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(عفا اللّه عنك. لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)... إنه لطف اللّه برسوله، فهو يعجل له بالعفو قبل العتاب. فلقد تدارى المتخلفون خلف إذن الرسول -[صلى الله عليه وسلم]- لهم بالقعود حين قدموا له المعاذير. وقبل أن ينكشف صدقهم من كذبهم في هذه المعاذير. وكانوا سيتخلفون عن الركب حتى ولو لم يأذن لهم. فعندئذ تتكشف حقيقتهم، ويسقط عنهم ثوب النفاق، ويظهرون للناس على طبيعتهم، ولا يتوارون خلف إذن الرسول. وإذا لم يكن ذلك فإن القرآن يتولى كشفهم، ويقرر القواعد التي يمتاز بها المؤمنون والمنافقون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وافتتاح العتاب بالإعلام بالعفو إكرام عظيم، ولطافة شريفة، فأخبره بالعفو قبل أن يباشره بالعِتاب. وفي هذا الافتتاح كناية عن خفّة موجِب العتاب لأنّه بمنزلة أن يقال: ما كان ينبغي، وتسمية الصفح عن ذلك عَفْواً ناظر إلى مغزى قول أهل الحقيقة: حسنات الأبرار سيّئاتُ المقرَّبين.
وألقي إليه العتاب بصيغة الاستفهام عن العلّة إيماء إلى أنّه ما أذن لهم إلاّ لسبب تَأوَّلَه ورجَا منه الصلاح على الجملة بحيث يُسْأل عن مثله في استعمال السؤال من سائل يطلب العلم وهذا من صيغ التلطّف في الإنكار أو اللوم، بأن يظهر المنكِر نفسه كالسائِل عن العلّة التي خفيت عليه، ثم أعقبه بأنّ ترك الإذن كان أجدر بتبيين حالهم، وهو غرض آخر لم يتعلّق به قصد النبي صلى الله عليه وسلم.
وحذف متعلِّق {أذنت} لظهوره من السياق، أي لم أذنت لهم في القعود والتخلف.
و {حتَّى} غاية لفعل {أذنت} لأنّه لما وقع في حيز الاستفهام الإنكاري كان في حكم المنفي فالمعنى: لا مقتضيَ للإذن لهم إلى أن يتبيّن الصادق من الكاذب.
وفي زيادة {لك} بعد قوله: {يتبين} زيادة ملاطفة بأنّ العتاب ما كان إلاّ عن تفريط في شيء يعود نفعه إليه، والمراد بالذين صدقوا: الصادقون في إيمانهم، وبالكافرين الكاذبين فيما أظهروه من الإيمان، وهم المنافقون. فالمراد بالذين صدقوا المؤمنون.
... وهنا يقدم الحق سبحانه العفو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أذن لهم بالقعود عن القتال، ثم يأتي القرآن بعد ذلك ليؤكد أن ما فعله رسول الله بالإذن لهم بالقعود كان صوابا، فيقول في موضع آخر من نفس السورة: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} (التوبة: 47). إذن: فلو أنهم خرجوا لكانوا سببا في الهزيمة، لا من أسباب النصر. وصوَّبَ الحق عمل الرسول، وهو صلى الله عليه وسلم له العصمة. وهنا نحن أمام عفو من عفو الله، على الرغم من عدم وجود ذنب يُعفى عنه، وهنا أيضا إذن من الرسول لهم بالقعود، ونزل القرآن ليؤكد صوابه. وهناك من فهم قول الحق: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} على أنها استفهام استنكاري، وكأن الحق يقول: كيف أَذِنْتَ لهم بالعفو؟. إذن: فرسول الله بين أمرين: بين عفو لا يُذكر بعده ذنب، واستفهام يفيد عند البعض الإنكار. ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى أيَّد رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} (التوبة: 47)، فكأن الرسول قد هُدي إلى الأمر بفطرته الإيمانية، وقد أشار القرآن إلى ذلك، ليوضح لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم وفطرته سليمة، وكان عليه أن يقدم البيان العقلي للناس، لأنه الأسوة حتى لا يأتي من بعده واحد من عامة الناس ليفتي في مسألة دينية ويقول: أنا رأيت بفطرتي كذا، بل لابد أن يتبين الإنسان ما جاء في القرآن الكريم والسنة قبل أن يفتي في أمر من أمور الدين. وعلى سبيل المثال: اختلف الأمر بين المسلمين في مسألة الفداء لأسرى بدر ونزل القول الحق: {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} (الأنفال) وأيَّد الله حكم رسوله وأبقاه. إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم هُدي إلى الأمر بفطرته الإيمانية، ولكن هذا الحق لا يباح لغير معصوم. وقد أباح الله سبحانه الاستئذان في قوله: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} (النور: 62). والحق سبحانه وتعالى يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} وهكذا يتبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن لهم بالمقدمات والبحث والفطرة، ورأى أن الإذن لهؤلاء المتخلفين هو أمر يوافق مراد الحق سبحانه؛ لأنهم لو خرجوا مع جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالا، لعدم توافر النية الصادقة في الجهاد؛ لذلك ثبطهم الله، وأضعف عزيمتهم حتى لا يخرجوا. والعفو هنا جاء في شكلية الموضوع، حيث كان يجب التبيُّن قبل الإذن، فيقول الحق سبحانه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم يأذن لهم لكانوا قد انكشفوا، ولكن إذنه لهم أعطاهم ستارا يسترون به نفاقهم، فهم قد عقدوا النية على ألا يخرجوا، ولو فعلوا ذلك لافتُضِحَ أمرهم للمسلمين جميعا، فشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسترهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يُستفاد من الآيات محل البحث أنّ جماعة من المنافقين جاؤوا إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد أن تذرعوا بحجج واهية مختلفة حتى أنّهم أقسموا على صدق مدعاهم استأذنوا النّبي أن ينصرفوا عن المساهمة في معركة تبوك، فأذن لهم النّبي بالانصراف. فالله سبحانه يعتّب على النّبي في الآية الأُولى من الآيات محل البحث فيقول: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)...
غاية الأمر أنّه لو لم يأذن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم فسرعان ما ينكشف أمرهم ويعرفهم المسلمون، غير أنّ هذا الموضوع لم يكن من الأهمية بحيث أنّ ذهابهم وفقدانهم موجباً لارتكاب ذنب أو عصيان. وربّما يمكن أن يسمى ذلك تركاً للأولى فحسب، بمعنى أنّ إِذن النّبي لهم في تلك الظروف، وبما أظهره أُولئك المنافقون من الأعذار بأيمانهم، وإن لم يكن أمراً سيئاً، إلاّ أن ترك الإِذن كان أفضل منه، لتُعرف هذه الجماعة بسرعة. كما يُحتمل في تفسير الآية هو أنّ العتاب أو الخطاب المذكور آنفاً إنّما هو على سبيل الكناية، ولم يكن في الأمر حتى «تركُ الأَولى» بل المراد بيان روح النفاق في المنافقين ببيان لطيف وكناية في المقام. ويمكن أن يتّضح هذا الموضوع بذكر مثال فلنفرض أن ظالماً يريد أن يلطم وجه ابنك، إلاّ أن أحد أصدقائك يحول بينه وبين مراده فيمسك يده فقد تكون راضياً عن سلوكه هذا، بل وتشعر بالسرور الباطني، إلاّ أنّك ولإِثبات القبح الباطني للطرف المقابل تقول لصديقك: لم لا تركته يضربه على وجهه ويلطمه؟ وهدفك من هذا البيان إِنّما هو إِثبات قساوة قلب هذا الظالم ونفاقه، الذي ورد في ثوب عتاب الصديق وملامته من قِبَلِك؟ وهناك شبهة أُخرى في تفسير الآية، وهي أنّه: ألم يكن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف المنافقين حتى يقول له الله سبحانه: (لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)؟ والجواب على هذا السؤال، هو: أوّلا: أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يعرف المنافقين ويعلم حالهم عن طريق العلم الظاهري، ولا يكفي علم الغيب للحكم في الموضوعات، بل ينبغي أن ينكشف أمرهم عن طريق الأدلة المألوفة والمعتادة. ثانياً: لم يكن الهدف الوحيد أن يعلم النّبي حالهم فحسب، بل لعل الهدف كان أن يعلم المسلمون جميعاً حالهم، وإن كان الخطاب موجّهاً للنّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)...