البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (43)

{ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } : قال ابن عطية : هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق .

واستأذنوا دون اعتذار منهم : عبد الله بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ورفاعة بن التابوت ، ومن اتبعهم .

فقال بعضهم : ائذن لي ولا تفتني .

وقال بعضهم : ائذن لنا في الإقامة ، فأذن لهم استبقاءً منه عليهم ، وأخذا بالأسهل من الأمور ، وتوكلا على الله .

قال مجاهد : قال بعضهم : نستأذنه ، فإن أذن في القعود قعدنا ، وإن لم يأذن فعدنا ، فنزلت الآية في ذلك انتهى .

وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه : ذهب ناس إلى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية ، وحاشاه من ذلك ، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي كما قال : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة » لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل .

وقد قال الله تعالى : { تُرجي من تشاء منهن وتؤوي إِليك من تشاء } لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي .

واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا ، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه صلى الله عليه وسلم ، فأبان الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم ، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة ، فعفا الله عنك عنده افتتاح كلام أعلمه الله به ، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن ، وليس هو عفواً عن ذنب ، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال صلى الله عليه وسلم : « عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق » وما وجبتا قط ومعناه : ترك أن يلزمكم ذلك انتهى .

ووافقه عليه قوم فقالوا : ذكر العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب ، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره ، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون : أصلح الله الأمير كان كذا وكذا ، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الدعاء انتهى .

ولم ولهم متعلقان بأذنت ، لكنه اختلف مدلول اللامين ، إذ لام لم للتعليل ، ولام لهم للتبليغ ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما .

ومتعلق الإذن غير مذكور ، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي : لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له .

وقيل : متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو ، لما ترتب على خروجهم من المفاسد ، لأنهم كانوا عيناً للكفار على المسلمين .

ويدل عليه قوله : { وفيكم سماعون لهم } وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أن تكون الدائرة عليهم فقيل : لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة ؟ وبيّن أنّ خروجهم معه ليس مصلحة بقوله : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي : ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر ، هكذا قدره الحوفي .

وقال أبو البقاء : حتى يتبين متعلق بمحذوف دل عليه الكلام تقديره : هلاّ أخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين .

وقوله : لم أذنت لهم يدل على المحذوف .

ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت ، لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التبيين ، وهذا لا يعاتب عليه انتهى .

وكلام الزمخشري في تفسير قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم ، مما يجب اطراحه ، فضلاً عن أن يذكر فيردّ عليه .

وقوله : الذين صدقوا أي : في استئذانك .

وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك .

وتعلم الكاذبين : تريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة ، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن .

وقال الطبري : حتى نعلم الصادقين في أنّ لهم عذراً ، ونعلم الكاذبين في أنْ الأعذار لهم .

وقال قتادة : نزلت بعد هذه الآية آية النور ، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذنْ لمن شئت منهم .

وهذا غلط ، لأنّ النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين الرسول في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات ، فأباح الله أن يأذن ، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى .