اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (43)

قوله تعالى : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } الآية .

لمَّا بيَّن تعالى بقوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ } أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو ، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا ؟ فلمَّا قال بعده : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } دلَّ هذا ، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه .

قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } " لِمَ " ، و " لَهُمْ " كلاهما متعلقٌ ب " أذِنْتَ " ، وجاز ذلك ؛ لأنَّ معنى اللاَّمين مختلف ؛ فالأولى للتعليل ، والثانية للتبليغ . وحذفت ألفُ " ما " الاستفهامية لانجرارها ، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام ، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ ، يجوزُ أن يكون القُعود ، أي : لِمَ أذنت لهم في القعود ، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام . ويجوزُ أن يكون الخروج ، أي : لِمَ أذنت لهم في الخروج ، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل ، وغيره ، يدلُّ عليه : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] .

قوله : { حتى يَتَبَيَّنَ } يجوزُ في " حتى " أن تكون للغاية ، ويجوز أن تكون للتعليل ، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ ، إمَّا بمعنى " إلى " ، وإمَّا بمعنى اللام ، و " أنْ " مضمرةٌ بعدها ، ناصبة للفعل ، وهي متعلقة بمحذوفٍ .

قال أبُو البقاءِ : " تقديرهُ : هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ ، أو ليتبيَّن ، وقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } يدُلُّ على المحذوف ، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق " حتَّى " ب " أذِنْتَ " لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التَّبيين ، وذلك لا يُعاتبُ عليه " وقال الحوفيُّ : " حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ ، أي : ما كان له أن يأذن لهم ، حتى يتبيَّن له العُذْر " .

وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ .

فصل

احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع ، ولدخوله عليه الصلاة والسلام تحت قوله تعالى : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم ، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إمَّا أن يقال : إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن ، أو منعه عنه ، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ ، وإلاَّ امتنع أن يقول له : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ، والثاني باطل ؛ لأنه يلزم منه أن يقال : إنَّه حكم بغير ما أنزل الله ، فيدخل تحت قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 44-47 ] الآيات . وذلك باطل بصريح القول .

فلمْ يبق إلاَّ أنَّه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه ، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد ، أو لا ، والثاني باطل ؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات } [ مريم : 59 ] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد .

فإن قيل : الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد ؛ لأنه تعالى منعه بقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ؟ فالجوابُ : أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً ، لقوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } [ التوبة : 43 ] والحكم الممدود إلى غاية ب " حتّى " يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا .

فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي ؟ .

فالجواب : ما ذكرتموه محتمل ؛ إلاَّ أنه على تقديركم ، يصير تكليفه ، أن لا يحكم ألبتة ، حتى ينزل الوحي ، فلمَّا ترك ذلك ، كان كبيرة ، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه ، لقوله : " ومن اجتهد فأخطأ فله أجر " فكان حمل الكلامِ عليه أولى .

فصل

دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت ، وعدم العجلة ، والتَّأنِّي ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه .

فصل

قال قتادةُ : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال : { فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ }{[17838]} [ النور : 62 ] .

فصل

قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا ؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ ؛ فأذن له ، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ ؛ فأذن له ، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً ، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين ، وكانوا يثيرون الفتنَ ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة ، قال القاضي " هذا بعيدٌ ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين ، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم " .


[17838]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/381) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/442) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ.