مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (43)

قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين }

اعلم أنه تعالى بين بقوله : { لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك } أنه تخلف قوم من ذلك الغزو ، وليس فيه بيان أن ذلك التخلف ، كان بإذن الرسول أم لا ؟ فلما قال بعده : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } دل هذا ، على أن فيهم من تخلف بإذنه وفيه مسائل :

المسألة الأولى : احتج بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين : الأول : أنه تعالى قال : { عفا الله عنك } والعفو يستدعي سابقة الذنب . والثاني : أنه تعالى قال : { لم أذنت لهم } وهذا استفهام بمعنى الإنكار ، فدل هذا على أن ذلك الإذن كان معصية وذنبا . قال قتادة وعمرو بن ميمون : اثنان فعلهما الرسول ، لم يؤمر بشيء فيهما ، إذنه للمنافقين ، وأخذه الفداء من الأسارى ، فعاتبه الله كما تسمعون .

والجواب عن الأول : لا نسلم أن قوله : { عفا الله عنك } يوجب الذنب ، ولم لا يجوز أن يقال : إن ذلك يدل على مبالغة الله في تعظيمه وتوقيره ، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما عنده ، عفا الله عنك ، ما صنعت في أمري ورضي الله عنك ، ما جوابك عن كلامي ؟ وعافاك الله ما عرفت حقي فلا يكون غرضه من هذا الكلام ، إلا مزيد التبجيل والتعظيم . وقال علي بن الجهم : فيما يخاطب به المتوكل وقد أمر بنفيه :

عفا الله عنك ألا حرمة *** تعود بعفوك إن أبعدا

ألم تر عبدا عدا طوره *** ومولى عفا ورشيدا هدى

أقلني أقالك من لم يزل *** يقيك ويصرف عنك الردى

والجواب عن الثاني أن نقول : لا يجوز أن يقال : المراد بقوله { لم أذنت لهم } الإنكار لأنا نقول : إما أن يكون صدر عن الرسول ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر عنه ذنب ، فإن قلنا : إنه ما صدر عنه ذنب ، امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله : { لم أذنت لهم } إنكار عليه ، وإن قلنا : إنه كان قد صدر عنه ذنب ، فقوله : { عفا الله عنك } يدل على حصول العفو عنه ، وبعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه ، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال : إن قوله : { لم أذنت لهم } يدل على كون الرسول مذنبا ، وهذا جواب شاف قاطع . وعند هذا ، يحمل قوله : { لم أذنت لهم } على ترك الأولى والأكمل ، لاسيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا .

المسألة الثانية : من الناس من قال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع . واحتج عليه بأن قوله : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } أمر لأولي الأبصار بالاعتبار والاجتهاد ، والرسول كان سيدا لهم ، فكان داخلا تحت هذا الأمر ، ثم أكدوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إما أن يقال إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن أو منعه عنه ، أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل ، وإلا امتنع أن يقول له لم أذنت لهم .

والثاني باطل أيضا ، لأن على هذا التقدير يلزم أن يقال إنه حكم بغير ما أنزل الله فيلزم دخوله تحت قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } و{ أولئك هم الظالمون } و{ أولئك هم الفاسقون } وذلك باطل بصريح القول . فلم يبق إلا القسم الثالث ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه ، فإما أن يكون ذلك مبنيا على الاجتهاد أو ما كان كذلك ، والثاني باطل ، لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل لقوله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } فلم يبق إلا أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة ، بناء على الاجتهاد ، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يحكم بمقتضى الاجتهاد .

فإن قيل : فهل هذا يدل على أنه لا يجوز له الحكم بالاجتهاد أولى ، لأنه تعالى منعه من هذا الحكم بقوله : { لم أذنت لهم } ؟

قلنا : إنه تعالى ما منعه من ذلك الإذن مطلقا لأنه قال : { حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } والحكم الممدود إلى غاية بكلمة حتى يجب انتهاؤه عند حصول تلك الغاية ، فهذا يدل على صحة قولنا .

فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي ؟

قلنا : ما ذكرتموه محتمل إلا أن على التقدير الذي ذكرتم ، يصير تكليفه ، أن لا يحكم البتة ، وأن يصبر حتى ينزل الوحي ويظهر النص ، فلما ترك ذلك ، كان ذلك كبيرة ، وعلى التقدير الذي ذكرنا كان ذلك الخطأ خطأ واقعا في الاجتهاد ، فدخل تحت قوله : «ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد » ، فكان حمل الكلام عليه أولى .

المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأني وترك الاغترار بظواهر الأمور والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد .

المسألة الرابعة : قال قتادة : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ، ثم رخص له في سورة النور فقال : { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم }

المسألة الخامسة : قال أبو مسلم الأصفهاني : قوله : { لم أذنت لهم } ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا ؟ ! فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له ، ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له ، مع أنه ما كان خروجهم معه صوابا ، لأجل أنهم كانوا عيونا للمنافقين على المسلمين ، فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل . فلهذا السبب ، ما كان في خروجهم مع الرسول مصلحة . قال القاضي : هذا بعيد لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين ، وأيضا ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم .