{ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } أي : صليت بهم صلاة تقيمها وتتم ما يجب فيها ويلزم ، فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله .
ثم فسَّر ذلك بقوله : { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } أي : وطائفة قائمة بإزاء العدو كما يدل على ذلك ما يأتي : { فَإِذَا سَجَدُوا } أي : الذين معك أي : أكملوا صلاتهم وعبر عن الصلاة بالسجود ليدل على فضل السجود ، وأنه ركن من أركانها ، بل هو أعظم أركانها .
{ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا } وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } ودل ذلك على أن الإمام يبقى بعد انصراف الطائفة الأولى منتظرا للطائفة الثانية ، فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلاته ثم جلس ينتظرهم حتى يكملوا صلاتهم ، ثم يسلم بهم وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف .
فإنها صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها جائزة ، وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين :
أحدهما : أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة ، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم ، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى .
والثاني : أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم ، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها ، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة ، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب ، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها .
وتدل الآية الكريمة على أن الأولى والأفضل أن يصلوا بإمام واحد . ولو تضمن ذلك الإخلال بشيء لا يخل به لو صلوها بعدة أئمة ، وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين واتفاقهم وعدم تفرق كلمتهم ، وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم ، وأمر تعالى بأخذ السلاح والحذر في صلاة الخوف ، وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن بعض أحوال الصلاة فإن فيه مصلحة راجحة وهو الجمع بين الصلاة والجهاد ، والحذر من الأعداء الحريصين غاية الحرص على الإيقاع بالمسلمين والميل عليهم وعلى أمتعتهم ، ولهذا قال تعالى : { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً }
ثم إن الله عذر من له عذر من مرض أو مطر أن يضع سلاحه ، ولكن مع أخذ الحذر فقال : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
ومن العذاب المهين ما أمر الله به حزبه المؤمنين وأنصار دينه الموحدين من قتلهم وقتالهم حيثما ثقفوهم ، ويأخذوهم ويحصروهم ، ويقعدوا لهم كل مرصد ، ويحذروهم في جميع الأحوال ، ولا يغفلوا عنهم ، خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم .
فلله أعظم حمد وثناء على ما مَنَّ به على المؤمنين ، وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها على وجه الكمال لم تهزم لهم راية ، ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الأوقات .
وفي قوله : { فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } يدل على أن هذه الطائفة تكمل جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين . وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يثبت منتظرا للطائفة الأخرى قبل السلام ، لأنه أولا ذكر أن الطائفة تقوم معه ، فأخبر عن مصاحبتهم له . ثم أضاف الفعل بعْدُ إليهم دون الرسول ، فدل ذلك على ما ذكرناه .
وفي قوله : { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } دليل على أن الطائفة الأولى قد صلوا ، وأن جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع الإمام حقيقة في ركعتهم الأولى ، وحكما في ركعتهم الأخيرة ، فيستلزم ذلك انتظار الإمام إياهم حتى يكملوا صلاتهم ، ثم يسلم بهم ، وهذا ظاهر للمتأمل .
وبمناسبة الحديث عن صلاة الضارب في الأرض ، الخائف من فتنة الذين كفروا ، يجيء حكم صلاة الخوف في أرض المعركة ؛ وتحتشد جنبات هذا الحكم الفقهي بلمسات نفسية وتربوية شتى :
( وإذا كنت فيهم ، فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم ؛ فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ؛ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة . ولا جناح عليكم - إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى - أن تضعوا أسلحتكم . وخذوا حذركم ، إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) . ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم . فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتًا ) . .
إن المتأمل في أسرار هذا القرآن ؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية ، المتمثل فيه ، يطلع على عجب من اللفتات النفسية ، النافذة إلى أعماق الروح البشرية . ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة . .
إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم " الفقهي " في صفة صلاة الخوف . ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة .
وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة ! ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني . إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة . بل أنها السلاح ! فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح ، بما يتناسب مع طبيعة المعركة ، وجو المعركة !
ولقد كان أولئك الرجال - الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني - يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح . لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة ؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة . متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله ؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعا . متفوقين أيضا في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني ، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشى ء من تفوق منهجهم الرباني . . وكانت الصلاة رمزا لهذا كله ، وتذكير بهذا كله . ومن ثم كانت سلاحا في المعركة . بل كانت هي السلاح !
والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو . وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ، ليميل عليهم ميلة واحدة ! ومع هذا التحذير والتخويف ، التطمين والتثبيت ؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوما كتب الله عليهم الهوان : ( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا ) . . وهذا التقابل بين التحذير والتطمين ؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة ؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم ، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم !
أما كيفية صلاة الخوف ؛ فتختلف فيها آراء الفقهاء ، أخذا من هذا النص ، ولكننا نكتفي بالصفة العامة ، دون دخول في تفصيل الكيفيات المتنوعة .
( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك . وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) . .
والمعنى : إذا كنت فيهم فأممتهم في الصلاة ، فلتقم طائفة منهم تصلي معك الركعة الأولى . على حين تقف طائفة أخرى بأسلحتها من ورائكم لحمايتكم . فإذا أتمت الطائفة الأولى الركعة الأولى رجعت فأخذت مكان الحراسة ، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة ولم تصل . فلتصل معك ركعة كذلك . [ وهنا يسلم الإمام إذ يكون قد أتم صلاته ركعتين ] .
عندئذ تجيء الطائفة الأولى فتقضي الركعة الثانية التي فاتتها مع الإمام . وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الثانية - ثم تجيء الثانية فتقضي الركعة الأولى التي فاتتها وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الأولى . .
وبذلك تكون الطائفتان قد صلتا بإمامة الرسول [ ص ] وكذلك مع خلفائه وأمرائه ، وأمراء المسلمين [ منهم ] في كل معركة .
( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة ) . .
وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة . والسنون تتوالى ، والقرون تمر ، فتؤكد هذه الحقيقة ، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى . وهو يضع لها الخطط العامة للمعركة . كما يضع لها الخطة الحركية أحيانا . على هذا النحو الذي رأينا في صلاة الخوف .
على أن هذا الحذر ، وهذه التعبئة النفسية ، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر ، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة . فهم يأخذون منه بقدر الطاقة :
( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى ، أن تضعوا أسلحتكم ) فحمل السلاح في هذه الحالة يشق ، ولا يفيد . ويكفي أخذ الحذر ؛ وتوقع عون الله ونصره : ( وخذوا حذركم . إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا ) . .
ولعل هذا الاحتياط ، وهذه اليقظة ، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين . فيكون المؤمنون هم ستار قدرته ؛ وأداة مشيئته . . وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر ؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذابا مهينا . .
الضمير في { سجدوا } للطائفة المصلية والمعنى : فإذا سجدوا معك الركعة الأولى فلينصرفوا ، هذا على بعض الهيئات المروية والمعنى : فإذا سجدوا ركعة القضاء وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة ، والضمير في قوله : { فليكونوا } يحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولاً بإزاء العدو ويجيء الكلام وصاة في حال الحذر والحرب ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «فلِتقم » بكسر اللام ، وقرأ الجمهور { ولتأت طائفة } بالتاء ، وقرأ أبو حيوة «وليأت » بالياء ، وقوله تعالى : { ود الذين كفروا } الآية إخبار عن معتقد القوم وتحذير من الغفلة ، لئلا ينال العدو أمله . وأسلحة جمع سلاح ، وفي قوله تعالى : { ميلة واحدة } بناء مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية ، وقوله تعالى : { ولا جناح عليكم } الآية ترخيص ، قال ابن عباس : نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف ، كان مريضاً فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب ، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين ، وينقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت ، ثم قوى الله تعالى نفوس المؤمنين بقوله { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } .