سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 211 ) . يقول تعالى : ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ) تدل على الحق ، وعلى صدق الرسل ، فتيقنوها وعرفوها ، فلم يقوموا بشكر هذه النعمة ، التي تقتضي القيام بها .
بل كفروا بها وبدلوا نعمة الله كفرا ، فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم عقابه ويحرمهم من ثوابه ، وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديلا لها ، لأن من أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية ، فلم يشكرها ، ولم يقم بواجبها ، اضمحلت عنه وذهبت ، وتبدلت بالكفر والمعاصي ، فصار الكفر بدل النعمة ، وأما من شكر الله تعالى ، وقام بحقها ، فإنها تثبت وتستمر ، ويزيده الله منها .
هنا يلتفت السياق لفتة أخرى . فيخاطب النبي [ ص ] يكلفه أن يسأل بني إسرائيل - وهم نموذج التلكؤ في الاستجابة كما وصفتهم هذه السورة من قبل - : كم آتاهم الله من آية بينة ثم لم يستجيبوا ! وكيف بدلوا نعمة الله ، نعمة الإيمان والسلم ، من بعد ما جاءتهم :
( سل بني إسرائيل : كم آتيناهم من آية بينة ، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ) . .
والعودة هنا إلى بني إسرائيل عودة طبيعية ، فهنا تحذير من موقف بنو إسرائيل فيه أصلاء ! موقف التلكؤ دون الاستجابة ؛ وموقف النشوز وعدم الدخول في السلم كافة ؛ وموقف التعنت وسؤال الخوارق ، ثم الاستمرار في العناد والجحود . . وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها ، كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة .
( سل بني إسرائيل : كم آتيناهم من آية بينة ) . .
والسؤال هنا قد لا يكون مقصورا على حقيقته . إنما هو أسلوب من أساليب البيان ، للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل ، والخوارق التي أجراها لهم . . إما بسؤال منهم وتعنت ، وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة . . ثم ما كان منهم - على الرغم من كثرة الخوارق - من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان .
( ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ) . .
ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم . أو نعمة الإيمان . فهما مترادفان . والتحذير من تبديلها يجد مصداقه أولا في حال بني إسرائيل ، وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار ، منذ أن بدلوا نعمة الله ، وأبوا الطاعة الراضية ، والاستسلام لتوجيه الله . وكانوا دائما في موقف الشاك المتردد ، الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة ؛ ثم لا يؤمن بالمعجزة ، ولا يطمئن لنور الله وهداه ، والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولا في حال بني إسرائيل ، ويجد مصداقه أخيرا فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان .
وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة . وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد ؛ وتجد الشقوة النكدة ؛ وتعاني القلق والحيرة ؛ ويأكل بعضها بعضا ؛ ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه ، ويطارها وتطارده بالأشباح المطلقة ، وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدرات ، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح !
ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها : من مائلة برأسها ، إلى كاشفة عن صدرها ، إلى رافعة ذيلها ، إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان ! إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل ! إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب !
ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة ، وأغانيهم المحمومة ، وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات ؛ ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح . .
ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل ، لا بل بين الصباح والمساء !
كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام . ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها ، وعن حالة " الهروب " من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة ، كالذي تطارده الجنة والأشباح .
وإن هو إلا عقاب الله ، لمن يحيد عن منهجه ، ولا يستمع لدعوته : ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) . .
وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده ، لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب . . والعياذ بالله .
{ سل بني إسرائيل } أمر للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد والمراد بهذا السؤال تقريعهم . { كم آتيناهم من آية بينة } معجزة ظاهرة ، أو آية في الكتب شاهدة على الحق والصواب على أيدي الأنبياء ، و{ كم } خبرية أو استفهامية مقررة ومحلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخير إلى المبتدأ . وآية مميزها . ومن للفصل . { ومن يبدل نعمة الله } أي آيات الله فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم ، يجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس ، أو بالتحريف والتأويل الزائغ . { من بعد ما جاءته } من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها ، وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ولذلك قيل تقديره فبدلوها { ومن يبدل } . { فإن الله شديد العقاب } فيعاقبه أشد عقوبة لأنه ارتكب أشد جريمة .
تتنزل هاته الآية من التي قبلها منزلةَ البرهان على معنى الجملة السابقة ، فإن قوله : { هل ينظرون } [ البقرة : 210 ] سواء كان خبراً أو وعيداً أو وعداً أم تهكماً ، وأيّاً ما كان معاد الضمير فيه على الأوجه السابقة قد دل بكل احتمال على تعريض بِفرَقٍ ذَوي غُرور وتماد في الكفر وقلةِ انتفاع بالآيات البينات ، فناسب أن يعقب ذلك بإلفاتهم إلى ما بلَغهم من قلة انتفاع بني إسرائيل بما أُوتوه من آيات الاهتداء مع قلة غَناء الآيات لديهم على كثرتها ، فإنهم عاندوا رسولهم ثم آمنوا به إيماناً ضعيفاً ثم بدلوا الدين بعد ذلك تبديلاً .
وعلى احتمال أن يكون الضمير في { ينظرون } [ البقرة : 210 ] لأهل الكتاب : أي بني إسرائيل فالعدول عن الإضمار هنا إلى الإظهار بقوله : { بني إسرائيل } لزيادة النداء على فضيحة حالهم ويكون الاستدلال عليهم حينئذٍ أشد ، أي هم قد رأوا آيات كثيرة فكان المناسب لهم أن يبادوا بالإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أعلم الناس بأحوال الرسل ، وعلى كل فهذه الآية وما بعدها معترضات بين أغراض التشريع المتتابعة في هذه السورة .
و { سَلْ } أمر من سأل يسأل أصله اسأل فحذفت الهمزة تخفيفاً بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها إلحاقاً لها بنقل حركة حرف العلة لشبه الهمزة بحرف العلة فلما تحرك أول المضارع استغنى عن اجْتلاب همزة الوصل ، وقيل : سل أمر من سَألَ الذي جعلت همزته ألفاً مثل الأمر من خَاف يَخاف خَف ، والعرب يكثرون من هذا التخفيف في سأل ماضياً وأمراً ؛ إلاّ أن الأمر إذا وقع بعد الواو والفاء تركوا هذا التخفيف غالباً .
والمأمور بالسؤال هو الرسول ؛ لأنه الذي يترقب أن يجيبه بنو إسرائيل عن سؤاله ؛ إذ لا يعبأون بسؤال غيره ؛ لأن المراد بالسؤال سؤال التقرير للتقريع ، ولفظ السؤال يجيء لما تجيء له أدوات الاستفهام . والمقصود من التقرير إظهار إقرارهم لمخالفتهم لمقتضى الآيات فيجيء من هذا التقرير التقريعُ فليس المقصود تصريحهم بالإقرار ؛ بل مجرد كونهم لا يسعهم الإنكار .
والمراد ب ( بني إسرائيل ) الحاضرون من اليهود . والضمير في { آتيناهم } لهم ، والمقصود إيتاء سلفهم ؛ لأن الخصال الثابتة لأسلاف القبائل والأمم ، يصح إثباتها للخلف لترتب الآثار للجميع كما هو شائع في مصطلح الأمم الماضية من العرب وغيرهم . ويجوز أن يكون معنى إيتائهم الآيات أنهم لما تناقلوا آياتتِ رسلهم في كتبهم وأيقنوا بها فكأنهم أوتوها مباشرة .
و ( كم ) اسم للعدد المبهم فيكون للاستفهام ويكون للإخبار ، وإذا كانت للإخبار دلت على عدد كثير مبهم ؛ ولذلك تحتاج إلى مميز في الاستفهام وفي الإخبار ، وهي هنا استفهامية كما يدل عليه وقوعها في حيز السؤال ، فالمسؤول عنه هو عدد الآيات .
وحق سأل أن يتعدى إلى مفعولين من باب كَسَا أي ليس أصلُ مفعوليه مبتدأً وخبراً ، وجملة { كم آتيناهم } لا تكون مفعوله الثاني ؛ إذ ليس الاستفهام مطلوباً بل هو عين الطلب ، ففعل { سَلْ } معلَّق عن المفعول الثاني لأجل الاستفهام ، وجملة { كم آتيناهم } في موقع المفعول الثاني سادة مسده .
والتعليق يكثر في الكلام في أفعال العلم والظن إذا جاء بعد الأفعال استفهام أو نفي أو لام ابتداء أو لام قسم ، وألحق بأفعال العلم والظن ما قارب معناها من الأفعال ، قال في « التسهيل » « ويشاركهن فيه ( أي في التعليق ) مع الاستفهام ، نَظَر وتَفَكَّر وأَبصر وسأل » ، وذلك كقوله تعالى : { يسألون أيان يوم الدين } [ الذاريات : 12 ] ولما أخذ سأل هنا مفعوله الأول فقد علق عن المفعول الثاني ، فإن سبب التعليق هو أن مضمون الكلام الواقع بعد الحرف الموجب للتعليق ليس حالة من حالات المفعول الأول فلا يصلح لأن يكون مفعولاً ثانياً للفعل الطالب مفعولين ، قال سيبويه « لأنه كلام قد عمل بعضه في بعض فلا يكون إلاّ مبتدأ لا يعمل فيه شيء قبله » اهـ وذلك سبب لفظي مانع من تسلط العامل على معموله لفظاً ، وإن كان لم يزل عاملاً فيه معنى وتقديراً ، فكانت الجملة باقية في محل المعمول ، وأداة الاستفهام من بين بقية موجبات التعليق أقوى في إبعادها معنى ما بعدها عن العامل الذي يطلبه ، لأن الكلام معها استفهام ليس من الخبر في شيء ، إلاّ أن ما تحدثه أداة الاستفهام من معنى الاستعلام هو معنى طارىء في الكلام غير مقصود بالذات بل هو قد ضعف بوقوعه بعد عامل خبري فصار الاستفهام صورياً ، فلذلك لم يبطل عمل العامل إلاّ لفظاً ، فقولك : علمتُ هل قام زيد قد دل عَلِمَ على أن ما بعده محقق فصار الاستفهام صورياً وصار التعليق دليلاً على ذلك ، ولو كان الاستفهام باقياً على أصله لما صح كون جملته معمولة للعامل المعلّق .
قال الرضي : « إن أداة الاستفهام بعد العلم ليست مفيدة لاستفهام المتكلم بها للزوم التناقض بين علمتُ وأزيد قائم بل هي لمجرد الاستفهام والمعنى علمت الذي يستفهم الناس عنه » اهـ ، فيجيء من كلامه أن قولك علمت أزيد قائم يقوله : من عَلم شيئاً يجهله الناس أو يعتنون بعلمه ، بخلاف قولك علمتُ زيداً قائماً ، وقد يكون الاستفهام الوارد بعد السؤال حكاية للفظ السؤال فتكون جملة الاستفهام بياناً لجملة السؤال قال صدر الأفاضل في قول الحريري « سألناه أنَّى اهتديتَ إلينا » أي سألناه هذا السؤال اهـ . وهو يتأتى في هذه الآية .
ويجوز أن يضمن سل معنى القول ، أي فيكون مفعوله الثاني كلاماً فقد أعطي سل مفعولين : أحدهما مناسب لمعنى لفظه والآخر مناسب لمعنى المضمَّن .
وجَوّز التفتازاني في « شرح الكشاف » أن جملة { كم آتيناهم } بيان للمقصود من السؤال ، أي سلهم جواب هذا السؤال ، قال السلكوتي في « حاشية المطول » : فتكون الجملة واقعة موقع المفعول ، أي ولا تعليق في الفعل .
وجوز صاحب « الكشاف » أن تكون ( كم ) خبرية ، أي فتكون ابتداء كلام وقد قطع فعل السؤال عن متعلِّقه اختصاراً لما دل عليه ما بعده ، أي سلهم عن حالهم في شكر نعمة الله ، فبذلك حصل التقريع . ويكون { كم آتيناهم } تدرجاً في التقريع بقرينة { ومن يبدل نعمة الله } ، ولبعد كونها خبرية أنكره أبو حيان على صاحب « الكشاف » وقال إنه يفضي إلى اقتطاع الجملة التي فيها { كم } عن جملة السؤال مع أن المقصود السؤال عن النعم .
و { من ءاية بينة } تمييز ( كم ) دخلت عليه مِنْ التي ينتصب تمييز كم الاستفهاميّة على معناها والتي يجر تمييز كم الخبرية بتقديرها ظهرت في بعض المواضع تصريحاً بالمقدَّر ، لأن كل حرف ينصب مضمراً يجوز ظهوره إلاّ في مواضع مثل إضمار أنْ بعد حتى ، قال الرضي : إذا فصل بين كم الخبرية والاستفهامية وبين مميزهما بفعل متعد وجب جر التمييز بمن ( أي ظاهرة ) لئلا يلتبس التمييز بالمفعول نحو قوله تعالى : { كم تركوا من جنات وعيون } [ الدخان : 25 ] و { وكم أهلكنا من قرية } [ القصص : 58 ] اه أي لئلا يلتبس بمفعول ذلك الفعل الفاصل ، أو هو للتنبيه من أول الأمر على أنه تمييز لا مفعولٌ إغاثةً لفهم السامع وذلك من بلاغة العرب ، وعندي أن موجب ظهور من في حالة الفصل هو بُعد المميِّز عن المميَّز لا غير ، وقيل : ظهور ( مِنْ ) واجب مع الفصل بالفعل المتعدي ، وجائز مع الفصل بغيره ، كما تقل عبد الحكيم عن اليَمني والتفتازانيِّ في « شرحي الكشاف » .
وفي « الكافية » أن ظهور ( من ) في مميز ( كم ) الخبرية والاستفهامية جائز هكذا أطلقه ابن الحاجب ، لكن الرضي قال إنه لم يعثر على شاهد عليه في ( كم ) الاستفهامية إلاّ مع الفصل بالفعل وأما في كم الخبرية فظهور ( من ) موجود بكثرة بدون الفصل ، والظاهر أن ابن الحاجب لم يعبأ بخصوص الأمثلة التي ذكرها الرضي ، وإنما اعتد بظهور ( من ) في المميز وهو الظاهر .
و ( الآية ) هنا المعجزة ودليل صدق الرسل ، أو الكلمات الدالة على مجيء محمد صلى الله عليه وسلم فإنها آية لموسى ؛ إذ أخبر بها قبل قرون ، وآيةٌ لمحمد عليه الصلاة والسلام ، إذ كان التبشير به قبل وجوده بقرون ، ووصفها بالبينة على الاحتمالين مبالغة في الصفة من فعل بَانَ أي ظهر ، فيكون الظهور ظهور العيان على الوجه الأول ، وظهور الدلالة على الوجه الثاني ، وفي هذا السؤال وصيغته حذف دل عليه قوله : { ومَن يبدِّل نعمة الله } تقديره فبدَّلوها ولم يعملوا بها .
وقوله : { ومن يبدل نعمة الله } تذييل لجملة { سل بني إسرائيل كم آتيناهم } الخ ، أفاد أن المقصود أولاً من هذا الوعيدِ هم بنو إسرائيل المتحدث عنهم بقوله : { سل بني إسرائيل } ، وأفاد أن بني إسرائيل قد بدَّلوا نعمة الله تعالى فدل ذلك على أن الآيات التي أوتيها بنو إسرائيل هي نعم عليهم وإلاَّ لما كان لتذييل خبرهم بحكم من يبدِّل نعم الله مناسبة وهذا مما يقصده البلغاء ، فيغني مثلُه في الكلام عن ذكر جمل كثيرة إيجازاً بديعاً من إيجاز الحذف وإيجاز القصر معاً ؛ لأنه يفيد مفاد أن يقال كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها ، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب ، لأن من يبدِّل نعمة الله فالله معاقبه ، ولأنه يفيد بهذا العموم حكماً جامعاً يشمل المقصودين وغيرَهم ممن يشبههم ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضاً يشبه التصريح ، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلاّ لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع .
وإنما أثبت للآيات أنها نعم لأنها إن كانت دلائل صدق الرسول فكونها نعماً لأن دلائل الصدق هي التي تهدي الناس إلى قبول دعوة الرسول عن بصيرة لمن لم يكن اتبعه ، وتزيد اللذين اتبعوه رسوخ إيمان قال تعالى : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً } [ التوبة : 124 ] وبذلك التصديق يحصل تلقى الشرع الذي فيه صلاح الدنيا والآخرة وتلك نعمة عاجلة وآجلة ، وإن كانت الآيات الكلامَ الدال على البشارة بالرسول فهي نعمة عليهم ، لأنها قصد بها تنوير سبيل الهداية لهم عند بعثة الرسول لئلا يترددوا في صدقه بعد انطباق العلامات التي ائتمنوا على حفظها .
والتبديل على الوجه الأول تبديل الوصف بأن أعرضوا عن تلك الآيات فتبدل المقصود منها ، إذ صارت بالإعراض سببَ شقاوتهم في الدنيا والآخرة ، لأنها لو لم تؤت لهم لكان خيراً لهم في الدنيا ؛ إذ يكونون على سذاجة هم بها أقرب إلى فعل الخير منهم بعد قصد المكابرة والإعراض ؛ لأنهما يزيدانهم تعمداً لارتكاب الشرور ، وفي الآخرة أيضاً لأن العقاب على الكفر يتوقف على الدعوة وظهورِ المعجزة ، وقد أشبههم في هذا التبديل المشركون بإعراضهم عن القرآن والتدبر في هديه أو التبديل بأن استعملوا تلك الآيات في غير المراد منها بأن جعلوها أسباب غرور فإن الله ما آتى رسولهم تلك الآيات إلاّ لتفضيل أمته فتوكأوا على ذلك وتهاونوا على الدين فقالوا { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] .
والتبديل جعل شيء بدلاً عن آخر ، أي تعويضه به فيكون تعويض ذات بذات وتعويض وصف بوصف كقول أبي الشيص :
بُدِّلتُ من بُرْدِ الشباب مُلاءةً *** خَلَقَاً وبئسَ مثُوبَةُ المُقْتَاضِ
فإنه أراد تبدل حالة الشباب بحالة الشيب ، وكقول النابغة :
عَهِدْتُ بها حَيّاً كِراماً فبُدِّلَتْ *** حَنَاظِيلَ آجَالِ النِّعَاج الجَوافل
وليس قوله : { نعمة الله } من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير بأن يكون الأصل ومن يبدلها أي الآيات فإن الله شديد العقاب لظهور أن في لفظ ( نعمة الله ) معنى جامعاً للآيات وغيرها من النعم .
وقوله : { من بعد ما جاءته } المجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن ، لأنها من لوازم المجيء عرفاً .
وإنما جعل العقاب مترتباً على التبديل الواقع بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط كقوله تعالى فيما تقدم : { ثم يحرقونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } [ البقرة : 75 ] . وحذف ما بدل به النعمة ليشمل جميع أحوال التبديل من كتم بعضها والإعراض عن بعض وسوء التأويل . والعقاب ناشىء عن تبديل تلك النعم في أوصافها أو في ذواتها ، ولا يكون تبديلها إلاّ لقصد مخالفتها ، وإلاّ لكان غير تبديل بل تأييداً وتأويلاً ، بخلاف قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً } [ إبراهيم : 28 ] لأن تلك الآية لم يتقدم فيها ما يؤذن بأن النعمة ما هي ولا تؤذن بالمستبدل به هنالك فتعين التصريح بالمستبدل به ، والمبدلون في تلك الآية غير المراد من المبدلين في هذه ، لأن تلك في كفار قريش بدليل قوله بعدها : { وجعلوا لله أنداداً } [ إبراهيم : 30 ] .
وقوله : { فإن الله شديد العقاب } دليل جواب الشرط وهو علته ، لأن جعل هذا الحكم العام جواباً للشرط يعلم منه أن من ثبت له فعل الشرط يدخل في عموم هذا الجواب ، فكون الله شديد العقاب أمر محقق معلوم فذِكره لم يقصد منه الفائدة لأنها معلومة بل التهديد ، فعلم أن المقصود تهديد المبدِّل فدل على معنى : فالله يعاقبه ، لأن الله شديد العقاب ، ومعنى شدة عقابه : أنه لا يفلت الجاني وذلك لأنه القادر على العقاب ، وقد جُوّز أن يكون فإن الله شديد العقاب نفسَ جواب الشرط بجعل أل في العقاب عوضاً عن الضمير المضاف إليه أي شديدُ معاقبِته .
وإظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : فإنه شديد العقاب ، لإدخال الرَّوْع في ضمير السامع وتربية المهابة ، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلاً بنفسه ، لأنها بمنزلة المثل أمر قد علمه الناس من قبل ، والعقاب هو الجزاء المؤلم عن جناية وجرم ، سمي عقاباً لأنه يعقب الجناية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سل بني إسرائيل}: يهود المدينة. {كم آتيناهم من آية بينة}: كم أعطيناهم من آية بينة، يعني حين فرق بهم البحر، وأهلك عدوهم، وأنزل عليهم المن والسلوى والغمام والحجر، فكفروا برب هذه النعم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم... فخوفهم عقوبته بقوله: {فإن الله شديد العقاب}: إذا عاقب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
سل يا محمد بني إسرائيل الذين لا ينتظرون بالإنابة إلى طاعتي، والتوبة إلي بالإقرار بنبوّتك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي، إلا أن آتيهم في ظلل من الغمام وملائكتي، فأفصل القضاء بينك وبين من آمن بك وصدّقك بما أنزلتُ إليك من كتبي، وفرضت عليك وعليهم من شرائع ديني وبينهم كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة، على ما فرضت عليهم من فرائضي، فأمرتهم به من طاعتي، وتابعت عليهم من حججي على أيدي أنبيائي ورسلي من قبلك مريدة لهم على صدقهم بينة أنها من عندي، واضحة أنها من أدلتي على صدق نُذري ورسلي فيما افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حججي، وكذبوا رسلي، وغيروا نعمي قبلهم، وبدّلوا عهدي ووصيتي إليهم...
وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الآيات، فأمره بالصبر على من كذبه، واستكبر على ربه، وأخبره أن ذلك فعل من قبله من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم، مع مظاهرته عليهم الحجج، وأن من هو بين أظهرهم من اليهود إنما هم من بقايا من جرت عادتهم ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل.
"وَمَنْ يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِنْ بعَدِ ما جاءَتْهُ فَإنّ اللّهَ شَديدُ العِقابِ":
يعني بالنعم جل ثناؤه الإسلام وما فرض من شرائع دينه. ويعني بقوله: "وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ اللّهِ "ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام من العمل والدخول فيه فيكفر به، فإنه معاقبه بما أوعد على الكفر به من العقوبة، والله شديد عقابه، أليم عذابه.
فتأويل الآية إذا: يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصدّقوا بها، ادخلوا في الإسلام جميعا، ودعوا الكفر، وما دعاكم إليه الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد، وما أظهرت على يديه لكم من الحجج والعبر، فلا تبدلوا عهدي إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبيي ورسولي، فإنه من يبدّل ذلك منكم فيغيره فإني له معاقب بالأليم من العقوبة... عن مجاهد في قوله: "وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ "قال: يكفر بها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} يحتمل وجوها:
يحتمل أن يكون أمر عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤاله إياهم عما آتاهم من الآيات على إثر سؤالهم منهم بطلب الآيات، فقال: سل يا محمد كم آتيناهم وأجدادهم من الآيات على يدي موسى؟ فكفروا به، ولم يؤمنوا. فأنتم، وإن آتيناكم آيات لا تؤمنون أيضا. يخبر نبيه عليه السلام أن سؤالهم كان سؤال تعنت لا سؤال قبول و تصديق، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون لا على أثر سؤال كان منهم، ولكن على الابتداء: أن سل علماء بني إسرائيل: الآية.
ويحتمل {سل} لا على الأمر به في التحقيق والتبيين، لأنك لو سألتهم لأخبروك، أو يكون المراد من ذلك في الذين تضيق صدورهم عند الإخبار أنهم لو جاءتهم الآيات التي سألوا عنها لا يؤمنون ليخبروا بذلك، فتطمئن بذلك قلوبهم، فتزول عنها الخطرات وأنواع الوساوس، والله أعلم...
وقوله: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته}...
ويكون تبديل {نعمة الله} بتوجيه الشكر إلى غيره، وهو أن يعبد غيره، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ليس السؤال على وجه الاستخبار، ولكنه على وجه التوبيخ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فائدة السؤال ليقرر عليهم بالسؤال الحجة، لا ليُقرِر للرسول صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ما أشكل عليهم من واضح المحبة.
{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} بزوال تلك النعمة. وعند ذلك يعرفون قدرها، ثم يَنْدُبُونَها ولا يصلون إليها قط،...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله تعالى: {سل بني إسرائيل} هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: سل الذين أسلموا منهم {كم آتيناهم من آية بينة} أي: من دلالة واضحة على نبوة موسى. وقيل: معناه: الدلالات التي آتاهم في التوراة والإنجيل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
{ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب} في معناه قولان: أحدهما: ومن يغير عهد الله. والثاني معناه: ومن ينكر الدلالة التي على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سَلْ} أمر للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد، وهذا السؤال سؤال تقريع كما تسأل الكفرة يوم القيامة.
{كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ} على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم، أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام،
و {نِعْمَةَ اللَّهِ} آياته، وهي أجل نعمة من الله، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. وتبديلهم إياها: أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم، فجعلوها أسباب ضلالتهم، كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كم استفهامية أم خبرية؟ قلت: تحتمل الأمرين. ومعنى الاستفهام فيها للتقرير...
فإن قلت: ما معنى {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ}؛ قلت: معناه من بعد ما تمكن من معرفتها أو عرفها، كقوله: {ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه} [البقرة: 75]؟ لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها، فكأنها غائبة عنه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمراد بالآية: كم جاءهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم من آية معرفة به دالة عليه، و {نعمة الله} لفظ عام لجميع أنعامه، ولكن يقوي من حال النبي معهم أن المشار إليه هنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله، ثم جاء اللفظ منسحباً على كل مبدل نعمة لله تعالى. والتوراة أيضاً نعمة على بني إسرائيل أرشدتهم وهدتهم، فبدلوها بالتحريف لها وجحد أمر محمد صلى الله عليه وسلم،
وقوله تعالى: {فإن الله شديد العقاب} خبر يقتضي ويتضمن الوعيد، و {العقاب} مأخوذ من العقب، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر.
اعلم أنه ليس المقصود: سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عالما بتلك الأحوال بإعلام الله تعالى إياه، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى، وبيان هذا الكلام أنه تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان} فأمر بالإسلام ونهى عن الكفر، ثم قال: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد بقوله:
{فاعلموا أن الله عزيز حكيم} ثم بين ذلك التهديد بقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} ثم ثلث ذلك التهديد بقوله: {سل بنى إسرائيل} يعني سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه، والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم، كما قال تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} وقال:
{لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب} فهذا بيان وجه النظم.
والقول الثاني: المراد بنعمة الله ما آتاهم الله من أسباب الصحة والأمن والكفاية والله تعالى هو الذي أبدل النعمة بالنقمة لما كفروا، ولكن أضاف التبديل إليهم لأنه سبب من جهتهم وهو ترك القيام بما وجب عليهم من العمل بتلك الآيات البينات.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما تقدّم: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل} وكان المعنى في ذلك استبطاء حق لهم في الإسلام، وأنهم لا ينتظرون إلاَّ آية عظيمة تلجئهم إلى الدخول في الإسلام، جاء هذا الأمر بسؤالهم عما جاءتهم من الآيات العظيمة، ولم تنفعهم تلك الآيات، فعدم إسلامهم مرتب على عنادهم واستصحاب لجاجهم، فالخطاب في اللفظ له صلى الله عليه وسلم، والمراد: أمّته، أو إعلام أهل الكتاب أن هذا القول من عند الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقومه لم يكونوا يعرفون شيئاً من قصص بني إسرائيل، ولا ما كان فيهم من الآيات قبل أن ينزل الله ذلك في كتابه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر وفي جبل الطور وقبة الزمان وما في ذلك على ما نقل إليهم من وفور الهيبة وتعاظم الجلال قال تعالى: جواباً لمن كأنه قال: كيف يكون هذا؟ {سل} بنقل حركة العين إلى الفاء فاستغنى عن همزة الوصل {بني إسرائيل} أي الذين هم أحسد الناس للعرب ثم استفهم أو استأنف الإخبار {كم آتيناهم} من ذلك ومن غيره {من آية بينة} بواسطة أنبيائهم فإنهم لا يقدرون على إنكار ذلك، وسكوتهم على سماعه منك إقرار منهم.
قال الحرالي: ولما كان هذا الذي أنذروا به أمراً مجملاً، أحيلوا في تفاصيل الوقائع وتخصيص الملاحم ووقوع الأشباه والنظائر على ما تقدم ووقع مثاله في بني إسرائيل لتكرار ما وقع فيهم في هذه الأمة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة فقال: {سل}، استنطاقاً لحالهم لا لإنبائهم وإخبارهم، فالتفات النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يشهده الله من أحوال بني إسرائيل وأحوال ملوكهم وأحبارهم وأيامهم وتفرقهم واختلافهم وصنوف بلاياهم هو سؤاله واستبصاره لا أن يسأل واحداً فيخبره...
والظاهر أنه إباحة لسؤالهم فإنه صلى الله عليه وسلم ما سألهم عن شيء وكذبوا في جوابه فبين كذبهم إلا عرفوا بالكذب، كقصة حد الزنا وقضية سؤالهم عن أبيهم وقضية سم الشاة ونحو هذا، وفي ذلك زيادة لإيمان من يشاهده وإقامة للحجة عليهم وغير هذا من الفوائد.
ولما كان التقدير: فكانوا إذا بدلوا شيئاً من آياتنا واستهانوا به عاقبناهم فشددنا عقابهم، كما دل عليه ما سقته من التوراة في هذا الديوان لمن تدبر عطف عليه قوله: {ومن يبدل} من التبديل وهو تصيير الشيء على غير ما كان {نعمة الله} أي الذي لا نعمة إلا منه التي هي سبب الهدى فيجعلها سبباً لضلال أو سبباً لشكر فيجعلها سبب الكفر كائناً من كان.
قال الحرالي: وأصل هذا التبديل رد علم العالم عليه ورد صلاح الصالح إليه وعدم الاقتداء بعلم العالم والاهتداء بصلاح الصالح وذلك المشاركة التي تقع بين العامة وبين العلماء والصلحاء وهو كفر نعمة الله وتبديلها...
ولما كان الفطن من الناس يستجلب النعم قبل إتيانها إليه و الجامد الغبي يغتبط بها بعد سبوغها عليه وكان المحذور تبديلها في وقت ما لا في كل وقت قال تعالى: {من بعد ما جآءته} أي وتمكن من الرسوخ في علمها تنبيهاً على أن من بدلها في تلك الحال فقد سفل عن أدنى الإنسان والتحق بما لا يعقل من الحيوان.
ولما كان التقدير: يهلكه الله، علله بقوله: {فإن الله} أي العظيم الشأن {شديد العقاب} وهو عذاب يعقب الجرم، و ذكر بعض ما يدل على صدق الدعوى في معرفة بني إسرائيل بما في ظهور المجد في الغمام من الرعب وما آتاهم من الآيات البينات.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ} أي وصلته وتمكن من معرفتها، وفائدة هذه الزيادة وإن كان تبديل الآيات مطلقاً مذموماً التعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، وفيه تقبيح عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجيء فما الفائدة في ذكره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تقدم أن في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} وجهين أحدهما أن المراد بالذين آمنوا أهل الكتاب وثانيهما أن المخاطب بها المؤمنين من المسلمين. وقوله عز وجل {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} ظاهرة على كلا الوجهين؛ فهو على الأول بيان لحقيقة حالهم، وأن الآيات والنذر لا ترجعهم عن ضلالهم، فإذا استمروا على الجحود والخصام، وأعرضوا عن الدعوة إلى الدخول في السلام، فليس ذلك بدعا منهم، ولا دليلا على أن الإسلام غير بين لهم، فكم جاءهم أنبياؤهم بالآيات البينات، وكم بلاهم الله تعالى بالحسنات والسيئات، ولم يغن ذلك عنهم، ولا صدهم عن خلافهم وشقاقهم، بل بدل الذين كفروا منهم قولا غير الذي قيل لهم، وبدلوا نعمة الله كفرا. {ومن يبدل نعمة الله} عليه بالآيات الدالة على حق، والوحدة الداعية إلى الشكر {من بعد ما جاءته} بالبيان، وأبهرت بالبرهان، بجعلها مثارا للتفريق والاختلاف وجعل الأمة الواحدة شيعا وأحزابا ومذاهب وفرقا بسوء التأويل وعصبيات الرياسة والسياسة {فإن الله شديد العقاب} لمن تنكب سنته، وخالف شرعته، وهؤلاء المبدلون منهم، فالعقاب الشديد نازل لا محالة بهم، ولم يقل فإن الله يعاقبهم ليشعرنا بأن هذا من سننه العامة فحذرنا أن نكون من المخالفين المبدلين، توهما أن العقاب خاص ببعض الغابرين، كما يلغو كثير من الجاهلين، فأنت ترى أن هذه الجملة في معنى قوله {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} (البقرة: 209) والتقييد بمجيء البينات والآيات دليل على أن من لم تبلغه الدعوة الصحيحة بالبينة والدليل لا يخاطب بهذا الوعيد، فحسبه حرمانه من هداية الأنبياء عليهم السلام، فكيف يطالب مع ذلك بما لا يعلم، ويجعل مع من عاند الحق من بعد ظهوره له في قرن.
وفي هذه من الهداية بيان أمر عظيم يغفل عنه العلماء والأذكياء، وهو أن الآيات والبينات إنما تفيد النفوس الخيرة المستعدة لقبول الحق المتوجهة إلى طلبه، وأما النفوس الخبيثة التي يفضحها الحق ويظهر باطلها الذي تحب ستره، والاسترسال فيما هي فيه من اللذة الحسية والجاه الباطل، فإن الآيات والبينات لا تزيدها إلا مماراة وجدلا في القول وجحودا وعنادا بالفعل، هذه سنة الله تعالى في البشر عامة، لا في بني إسرائيل خاصة كذلك كان وكذلك يكون وسيكون وسوف يكون إلى ما شاء الله...
وأما تفسير الآية على الوجه الآخر المختار في المخاطبين في السلم فهو أنها هادية إلى الاعتبار بسنة الله تعالى في الأمم الماضية على ما بينا آنفا، كأنه يقول يا أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم عليكم بالدخول في السلم والاتفاق، والاعتصام بالإسلام في جملته، لا تفرقوه ولا تتفرقوا فيه وتكونوا شيعا، كيلا يصيبكم ما أصاب أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات من قبلكم، وهؤلاء بنو إسرائيل بين أيديكم، وحالهم لا تخفى عليكم، فسلوهم حالهم، واستنطقوا آثارهم، واقرؤوا تاريخهم، تروا أنهم أوتوا نحوا مما أوتيتم من البينات، وأمروا كما أمرتم بالاتحاد والاجتماع، فتفرقوا إلى مذاهب وشيع، وزلوا عن صراط الله فتفرقت بهم السبل فأخذهم الله بعزته ونفذ فيهم حكم سنته، وزال سلطانهم، ولفظتهم أوطانهم وضربت عليهم الذلة والمسكنة ومزقوا في الأرض كل ممزق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا يلتفت السياق لفتة أخرى. فيخاطب النبي [ص] يكلفه أن يسأل بني إسرائيل -وهم نموذج التلكؤ في الاستجابة كما وصفتهم هذه السورة من قبل -: كم آتاهم الله من آية بينة ثم لم يستجيبوا! وكيف بدلوا نعمة الله، نعمة الإيمان والسلم، من بعد ما جاءتهم: {سل بني إسرائيل: كم آتيناهم من آية بينة، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب}.. والعودة هنا إلى بني إسرائيل عودة طبيعية، فهنا تحذير من موقف بنو إسرائيل فيه أصلاء! موقف التلكؤ دون الاستجابة؛ وموقف النشوز وعدم الدخول في السلم كافة؛ وموقف التعنت وسؤال الخوارق، ثم الاستمرار في العناد والجحود.. وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها، كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة.
{سل بني إسرائيل: كم آتيناهم من آية بينة}.. والسؤال هنا قد لا يكون مقصورا على حقيقته. إنما هو أسلوب من أساليب البيان، للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل، والخوارق التي أجراها لهم.. إما بسؤال منهم وتعنت، وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة.. ثم ما كان منهم- على الرغم من كثرة الخوارق -من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان.
ثم يجيء التعقيب عاما: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب}.. ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم. أو نعمة الإيمان. فهما مترادفان. والتحذير من تبديلها يجد مصداقه
أولا في حال بني إسرائيل، وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار، منذ أن بدلوا نعمة الله، وأبوا الطاعة الراضية، والاستسلام لتوجيه الله. وكانوا دائما في موقف الشاك المتردد، الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة؛ ثم لا يؤمن بالمعجزة، ولا يطمئن لنور الله وهداه، والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولا في حال بني إسرائيل،
ويجد مصداقه أخيرا فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان. وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة. وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد؛ وتجد الشقوة النكدة؛ وتعاني القلق والحيرة؛ ويأكل بعضها بعضا؛ ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه...وإن هو إلا عقاب الله، لمن يحيد عن منهجه، ولا يستمع لدعوته: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}.. وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده، لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب.. والعياذ بالله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تتنزل هاته الآية من التي قبلها منزلةَ البرهان على معنى الجملة السابقة، فإن قوله: {هل ينظرون} [البقرة: 210] سواء [أكان] خبراً [أم] وعيداً أو وعداً أم تهكماً، وأيّاً ما كان معاد الضمير فيه على الأوجه السابقة [ف] قد دل بكل احتمال على تعريض بِفرَقٍ ذَوي غُرور وتماد في الكفر وقلةِ انتفاع بالآيات البينات، فناسب أن يعقب ذلك بإلفاتهم إلى ما بلَغهم من قلة انتفاع بني إسرائيل بما أُوتوه من آيات الاهتداء مع قلة غَناء الآيات لديهم على كثرتها، فإنهم عاندوا رسولهم ثم آمنوا به إيماناً ضعيفاً ثم بدلوا الدين بعد ذلك تبديلاً.
وعلى احتمال أن يكون الضمير في {ينظرون} [البقرة: 210] لأهل الكتاب: أي بني إسرائيل فالعدول عن الإضمار هنا إلى الإظهار بقوله: {بني إسرائيل} لزيادة النداء على فضيحة حالهم ويكون الاستدلال عليهم حينئذٍ أشد، أي هم قد رأوا آيات كثيرة فكان المناسب لهم أن ينادوا بالإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أعلم الناس بأحوال الرسل، وعلى كل فهذه الآية وما بعدها معترضات بين أغراض التشريع المتتابعة في هذه السورة...
وقوله: {ومن يبدل نعمة الله} تذييل لجملة {سل بني إسرائيل كم آتيناهم} الخ، أفاد أن المقصود أولاً من هذا الوعيدِ هم بنو إسرائيل المتحدث عنهم بقوله: {سل بني إسرائيل}، وأفاد أن بني إسرائيل قد بدَّلوا نعمة الله تعالى فدل ذلك على أن الآيات التي أوتيها بنو إسرائيل هي نعم عليهم وإلاَّ لما كان لتذييل خبرهم بحكم من يبدِّل نعم الله مناسبة وهذا مما يقصده البلغاء، فيغني مثلُه في الكلام عن ذكر جمل كثيرة إيجازاً بديعاً من إيجاز الحذف وإيجاز القصر معاً؛ لأنه يفيد مفاد أن يقال كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب، لأن من يبدِّل نعمة الله فالله معاقبه، ولأنه يفيد بهذا العموم حكماً جامعاً يشمل المقصودين وغيرَهم ممن يشبههم ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضاً يشبه التصريح، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلاّ لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع.
وإنما أثبت للآيات أنها نعم لأنها إن كانت دلائل صدق الرسول فكونها نعماً لأن دلائل الصدق هي التي تهدي الناس إلى قبول دعوة الرسول عن بصيرة لمن لم يكن اتبعه، وتزيد اللذين اتبعوه رسوخ إيمان. قال تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً} [التوبة: 124] وبذلك التصديق يحصل تلقى الشرع الذي فيه صلاح الدنيا والآخرة وتلك نعمة عاجلة وآجلة، وإن كانت الآيات الكلامَ الدال على البشارة بالرسول فهي نعمة عليهم، لأنها قصد بها تنوير سبيل الهداية لهم عند بعثة الرسول لئلا يترددوا في صدقه بعد انطباق العلامات التي ائتمنوا على حفظها...
وقوله: {من بعد ما جاءته} المجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن، لأنها من لوازم المجيء عرفاً. وإنما جعل العقاب مترتباً على التبديل الواقع بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط كقوله تعالى فيما تقدم: {ثم يحرقونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75]. وحذف ما بدل به النعمة ليشمل جميع أحوال التبديل من كتم بعضها والإعراض عن بعض وسوء التأويل.
والعقاب ناشئ عن تبديل تلك النعم في أوصافها أو في ذواتها، ولا يكون تبديلها إلاّ لقصد مخالفتها، وإلاّ لكان غير تبديل بل تأييداً وتأويلاً، بخلاف قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً} [إبراهيم: 28] لأن تلك الآية لم يتقدم فيها ما يؤذن بأن النعمة ما هي ولا تؤذن بالمستبدل به هنالك فتعين التصريح بالمستبدل به، والمبدلون في تلك الآية غير المراد من المبدلين في هذه، لأن تلك في كفار قريش بدليل قوله بعدها: {وجعلوا لله أنداداً} [إبراهيم: 30]. وإظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: فإنه شديد العقاب، لإدخال الرَّوْع في ضمير السامع وتربية المهابة، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلاً بنفسه، لأنها بمنزلة المثل أمر قد علمه الناس من قبل.
فكأن الله لم يحمل على بني إسرائيل ويريد منهم أن يقرّوا على أنفسهم بما أكرمهم به الله من خير سابق؛ فساعة تقول: (اسأل فلاناً عما فعلته معه)، كأنك لا تأمر بالسؤال إلا عن ثقة، وأنه لن يجد جواباً إلا ما يؤيد قولك
والحق يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل بني إسرائيل عن الخير السابق الذي غمرهم به وهو سبحانه عليم أنهم لن يستطيعوا مع لددهم أن يتكلموا إلا بما يوافق القضية التي يقولها الحق وتصبح حجة عليهم. {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة}
إن الحق يريد أن يضرب لنا مثلاً كمثل إنسان يأكل خيرك وينكر معروفك، ويشكوك إلى إنسان، فترد أنت لم ينقل لك الشكوى: سله ماذا قدمت له من جميل، أنا لن أتكلم بل سأجعله هو يتكلم. وأنت لا تقول ذلك إلا وأنت على ثقة من أنه لا يستطيع أن يغير شيئاً. ألم يفلق لهم البحر؟. ألم يجعل عصا موسى حية؟ ألم يظلّلهم الله بالغمام؟ ألم يعطهم الله المن والسلوى؟ كل ذلك أعطاه الله لهم؛ فلم يشكروا نعمة الله، فحل عليهم غضبه؛ أخذهم بالسنين والجوع وأخذهم بالقمل والضفادع والدم، كل ذلك فعله الله معهم..
وحين يقول الحق لرسوله: {سل بني إسرائيل} فالقول منسحب على أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا جاءك واحد منهم فاسأله: كم آية أعطاها الله لكم فأنكرتموها، وتلكأتم وتعنّتّم. {كم آتيناهم من آية بيّنة} إن {كم} تدل على الكمية الكبيرة، و {من آية}: معناها الأمر العجيب. و {بيّنة} تعني الأمر الواضح الذي لا يمكن أن يغفل عنه أحد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
قد يكون الحديث عن المستقبل في واقع هؤلاء الذين يتحدّث اللّه عنهم بالزلل والانحراف، غير كافٍ في إبعادهم عن ضلالهم، فربما يكون للحديث عن الماضي كتجربة حيّة للآخرين من موقع التجربة نفسها التي يعيشها هؤلاء بعض الأثر. فقد كان تاريخ بني إسرائيل ماثلاً أمام النّاس في كلّ ما واجههم من قضايا الكفر والإيمان مع أنبيائهم، وفي كلّ ما فعلوه ضدّ مسيرة النبوّة في تاريخهم القلق الدامي؛ فلعلّ هذه الآية أرادت أن تطلب من هؤلاء النّاس، بأسلوب الطلب من النبيّ (ص) أن يجلسوا إلى بقاياهم ويسألوهم، هل كان هناك نقص في البيّنات التي أنزلها اللّه عليهم؟! وليس المراد به الاستفهام، بل المقصود هو تقرير الحقيقة من خلاله، فإنَّ اللّه قد أرسل إليهم رسلاً كثيرين بالحجج الواضحة، فكذّبوا واستكبروا وواجهوا عقاب اللّه. ثُمَّ تعطي الآية الإيحاء بأنَّ البينة التي توضح للإنسان طريق الحقّ، هي من نعم اللّه التي أنعمها على الإنسان، وأراد منه أن ينسجم معها، ويستجيب لها، ولا يبدلها بالضلال في القول والعمل، فإنه إذا بدّل الحقّ الذي توحي به الحجّة بالباطل الذي لا حجة عليه، فعليه أن ينتظر عقاب اللّه، فلا يستسلم للاسترخاء بالشعور برحمة اللّه، فإنَّ اللّه شديد العقاب في موضع النكال والنقمة، كما هو أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة.
وربما تكون الإشارة إلى بني إسرائيل وتاريخهم المتمرّد، لوناً من ألوان الحديث عن خطوات الشيطان في إضلاله وفي إغوائه...
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} هؤلاء الذين يمثّلون نموذجاً من الأمم التي تعيش التمزّق الروحي والاجتماعي والضلال الديني، {كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} من البيّنات التي توضح لهم الحقيقة وتقودهم إلى الإيمان؟! وتلك هي النعمة التي ينبغي لهم أن يشكروها، وينفتحوا على اللّه من خلالها، فلا يكفروها.
{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّه} في الإيمان مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ في وحي اللّه وفي حركة الرسل؛ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ، في الدنيا من خلال السنّة التاريخية التي تربط النتيجة بالمقدّمات. فالكفر بنعمة الإيمان يجتذب النتائج السلبية على واقع الإنسان، لأنه يبتعد به عن الخطّ المستقيم الذي يؤدي إلى الخير والسعادة والاطمئنان، وذلك من خلال ما أودعه اللّه في الحياة الإنسانية من سننه التاريخية التي لا بُدَّ للنّاس من أن يأخذوا بها ليتعرفوا منهج الحياة في ما يقبلون عليه من خير أو شرّ.
وهو شديد العقاب في الآخرة جزاءً على كفرهم بالحقّ لما جاءهم، وانحرافهم عمّا يفرضه عليهم في سلوكهم في أنفسهم وفي واقع النّاس ومع اللّه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير هذه الآية إلى أحد مصاديق الآيات السابقة، لأنّ الحديث في الآيات السابقة كان يدور حول المؤمنين والكافرين والمنافقين، وأنّ الكافرين كانوا يتجاهلون آيات الله وبراهينه الواضحة ويتذّرعون بمختلف الحجج والمعاذير، وبني إسرائيل مصداق واضح لهذا المعنى،
وتقول الآية: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة}. ولكنّهم تجاهلوا وتغافلوا عن هذه الآيات والعلائم الواضحة وأنفقوا المواهب الإلهيّة والنعم الربانية في أساليب مذمومة ومنحرفة، ثمّ تقول الآية {ومن يبدّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإنّ الله شديد العقاب}.
والمراد من (تبديل النعمة) هو استخدام الإمكانات والطّاقات والمصادر الماديّة والمعنويّة الموهوبة على طريق تخريبي انحرافي وممارسة الظلم والطغيان، فقد وهب الله سبحانه وتعالى مواهب كثيرة لبني إسرائيل من قبيل الأنبياء والقادة الشجعان والإمكانات الماديّة الكثيرة، ولكنّهم لم ينتفعوا من أنبياءهم الإلهيّين، ولا استفادوا من المواهب الماديّة استفادة صحيحة، وبهذا ارتكبوا معصية تبديل النّعمة ممّا سبّب لهم أنواع العذاب الدنيوي، كالتيه في الصحراء وكذلك العذاب الأخروي الأليم. وعبارة {سل بني إسرائيل} في الحقيقة تستهدف كسب الاعتراف منهم بشأن النعم الإلهيّة، ثمّ التفكير بالسّبب الّذي أدّى بهم إلى الهاوية والتمزّق مع كلّ هذه الإمكانات ليكونوا عبرة للمسلمين ولكلّ مَن لا ينتفع بالمواهب الإلهيّة بصورة سليمة.
ولا تنحصر مسألة تبديل النّعمة والمصير المؤلم لها ببني إسرائيل، بل أنّ جميع الأقوام والشّعوب إذا ارتكبت مثل هذه الخطيئة سوف تبتلي بالعذاب الإلهي الشديد في الدنيا وفي الآخرة.
فالعالم المتطوّر صناعيّاً يعاني اليوم من هذه المأساة الكبرى، فمع وفور النعم والطاقات لدى الإنسان المعاصر وفوراً لم يسبق له مثيل في التاريخ نجد صوراً شتّى من تبديل النعم وتسخيرها بشكل فضيع في طريق الإبادة والفناء بسبب ابتعادهم عن التعاليم الإلهيّة للأنبياء، حيث حوّروا هذه النعم إلى أسلحة مدمّرة من أجلّ بسط سيطرتهم الظالمة واستعمارهم للبلدان الأخرى، وبذلك جعلوا من الدنيا مكاناً غير آمن، وجعلوا الحياة الدنيا غير آمنة من كلّ ناحية.
[و] {نعمة الله} في هذه الآية قد تكون إشارة إلى الآيات الإلهيّة وتبديلها يعني تحريفها، أو يكون المعنى أوسع وأشمل من ذلك حيث يستوعب كلّ الإمكانات والمواهب الإلهيّة، والمعنى الثاني أرجح...