ولما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور {[9228]}مجد الله{[9229]} في الغمام لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر وفي جبل الطور {[9230]}وقبة الزمان{[9231]} وما في ذلك {[9232]}على ما{[9233]} نقل إليهم من وفور الهيبة وتعاظم الجلال قال تعالى : جواباً لمن كأنه{[9234]} قال : كيف يكون{[9235]} هذا ؟ { سل } {[9236]}بنقل حركة العين إلى{[9237]} الفاء فاستغنى عن همزة الوصل { بني إسرائيل } أي الذين هم أحسد {[9238]}الناس للعرب{[9239]} ثم استفهم أو استأنف الإخبار{[9240]} { كم آتيناهم } من ذلك ومن غيره { من آية بينة } {[9241]}بواسطة أنبيائهم{[9242]} فإنهم لا يقدرون على إنكار ذلك ، وسكوتهم على سماعه منك إقرار{[9243]} منهم . وقال الحرالي : ولما كان هذا الذي أنذروا به أمراً مجملاً أحيلوا في تفاصيل الوقائع وتخصيص الملاحم ووقوع الأشباه{[9244]} والنظائر على ما تقدم ووقع{[9245]} مثاله في بني إسرائيل لتكرار ما وقع فيهم في هذه الأمة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة{[9246]} فقال{[9247]} : { سل } ، استنطاقاً لحالهم{[9248]} لا {[9249]}لإنبائهم وإخبارهم{[9250]} ، فالتفات النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يشهده الله من أحوال بني إسرائيل وأحوال ملوكهم وأحبارهم{[9251]} وأيامهم وتفرقهم واختلافهم وصنوف بلاياهم هو سؤاله واستبصاره لا{[9252]} أن يسأل واحداً فيخبره{[9253]} ؛ انتهى - كذا قال ، والظاهر أنه إباحة لسؤالهم{[9254]} فإنه صلى الله عليه وسلم ما سألهم عن شيء وكذبوا في جوابه فبين كذبهم{[9255]} إلا عرفوا{[9256]} بالكذب ، كقصة{[9257]} حد الزنا وقضية سؤالهم{[9258]} عن أبيهم وقضية سم الشاة ونحو هذا ، وفي ذلك زيادة لإيمان من يشاهده وإقامة للحجة{[9259]} عليهم وغير هذا{[9260]} من الفوائد .
ولما كان التقدير : فكانوا إذا بدلوا شيئاً من آياتنا واستهانوا به عاقبناهم فشددنا{[9261]} عقابهم ، كما دل عليه ما سقته من التوراة في هذا الديوان لمن تدبر عطف عليه{[9262]} قوله : { ومن يبدل }{[9263]} من التبديل وهو تصيير{[9264]} الشيء على غير ما كان { نعمة الله } {[9265]}أي الذي لا نعمة إلا منه{[9266]} التي هي سبب الهدى فيجعلها{[9267]} سبباً لضلال أو سبباً لشكر{[9268]} فيجعلها سبب الكفر{[9269]} كائناً من كان . قال الحرالي{[9270]} : وأصل هذا التبديل رد علم العالم عليه ورد صلاح الصالح إليه وعدم الاقتداء بعلم العالم والاهتداء بصلاح الصالح وذلك المشاركة{[9271]} التي تقع بين العامة وبين العلماء والصلحاء وهو كفر نعمة الله وتبديلها - انتهى .
ولما كان الفطن{[9272]} من الناس يستجلب النعم قبل إتيانها إليه و{[9273]}الجامد الغبي{[9274]} يغتبط بها بعد سبوغها عليه {[9275]}وكان المحذور تبديلها في وقت ما لا في كل وقت{[9276]} قال تعالى : { من بعد{[9277]} ما جآءته } أي وتمكن{[9278]} من الرسوخ في علمها{[9279]} تنبيهاً على أن من بدلها في تلك الحال فقد{[9280]} سفل{[9281]} عن أدنى الإنسان والتحق بما لا يعقل من الحيوان . ولما كان التقدير : يهلكه الله ، علله{[9282]} بقوله : { فإن الله } أي العظيم الشأن { شديد العقاب * } وهو عذاب يعقب{[9283]} الجرم{[9284]} ، و{[9285]}ذكر بعض ما يدل على صدق الدعوى{[9286]} في معرفة بني إسرائيل بما في ظهور المجد في الغمام من الرعب وما آتاهم من الآيات البينات ، قال في أوائل السفر الخامس{[9287]} من التوراة : فاسمعوا الآن يا بني إسرائيل السنن والأحكام التي أعلمكم لتعملوا{[9288]} بها وتعيشوا وتدخلوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله رب آبائكم ، لا تزيدوا{[9289]} على الوصية التي أوصيكم بها{[9290]} ، قد رأيتم ما صنع {[9291]}الله ببعلصفون{[9292]} من أجل أن كل رجل اتبع بعلصفون أهلكه الله ربكم من بينكم وأنتم الذين تبعتم الله ربكم أنتم{[9293]} أحياء -{[9294]} سالمون إلى اليوم ، انظروا أني قد علمتكم السنن والأحكام كما أمرني الله لتعملوا{[9295]} بها في الأرض التي تدخلونها وتحفظوها{[9296]} وتعملوا بها ، لأنها حكمتكم وفهمكم تجاه الشعوب التي تسمع منكم هذه السنن كلها ويقولون إذا سمعوها : ما أحكم هذا الشعب العظيم ! وما أحسن فهمه ! أي شعب عظيم إلهه{[9297]} قريب منه مثل الله ربنا فيما دعوناه ! وأي شعب عظيم{[9298]} له سنن وأحكام معتدلة مثل هذه السنة التي أتلو عليكم اليوم ! ولكن احتفظوا{[9299]} واحترسوا بأنفسكم ولا تنسوا جميع الآيات التي رأيتم ولا تزل عن قلوبكم كل{[9300]} أيام حياتكم بل علموها بنيكم{[9301]} وبني بنيكم{[9302]} وأخبروهم بما رأيتم يوم وقفتم أمام الله ربكم في حوريب{[9303]} يوم قال{[9304]} الرب : اجمع هذا الشعب أمامي لأسمعهم آياتي و{[9305]}يتعلموا أن يتقوني{[9306]} كل أيام حياتهم على الأرض ويعلموا بنيهم أيضاً وتقدمتم وقمتم في سفح الجبل والجبل يشتعل ناراً يرتفع لهيبها إلى جو السماء ورأيتم الظلة والضباب والسحاب فكلمكم الرب في الجبل{[9307]} من النار ، كنتم تسمعون{[9308]} صوت الكلام ولم تكونوا{[9309]} ترون شبهاً ، فأظهر لكم عهده وأمركم أن تعلموا العشر آيات{[9310]} .
وكتبها على لوحين{[9311]} من حجارة ، احترسوا واحتفظوا بأنفسكم جداً لأنكم لم تروا{[9312]} شبهاً في اليوم الذي كلمكم الله{[9313]} ربكم من الجبل من النار ، احتفظوا{[9314]} ، لا تفسدوا ولا تتخذوا أصناماً وأشباهها من كل جنس شبه ذكر أو أنثى أو شبه{[9315]} بهيمة في الأرض أو شبه كل طير في الهواء أو شبه كل هوام الأرض ، ولا ترفعوا أعينكم إلى السماء وتنظروا إلى الشمس والقمر والكواكب وإلى كل أجناد السماء {[9316]}وتضلوا بها وتسجدوا لها وتعبدوها ، التي اتخذها جميع{[9317]} الشعوب الذين{[9318]} تحت السماء ؛ فأما أنتم فقربكم الله وأخرجكم من كور الحديد من أرض مصر لتصيروا له ميراثاً كاليوم - هذا نصه وقد تقدم ذلك مستوفى من السفر الثاني من التوراة عند قوله تعالى :{ وإذ استسقى موسى لقومه{[9319]} }[ البقرة : 60 ] فكان الرجوع إلى قص ما يريد الله{[9320]} سبحانه وتعالى من أحوال بني إسرائيل للأغراض الماضية على غاية ما{[9321]} يكون من الأحكام وفي الذروة{[9322]} العليا من حسن الانتظام وتجلي الملائكة في ظلل{[9323]} الغمام أمر مألوف منه ما في الصحيح عن البراء{[9324]} رضي الله تعالى عنه قال :
" كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر ؛ فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرذلك له ، فقال : تلك السكينة تنزلت بالقرآن " وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه " أنه بينما هو يقرأ سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس ، فسكت وسكنت ، ثم قرأ فجالت ، فانصرف ؛ فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم وقال : فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فرفعت{[9325]} حتى لا أراها ، قال : وتدري ما ذاك ؟ قال : لا ، قال : تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت {[9326]}ينظر الناس{[9327]} إليها لا تتوارى منهم " .