189-193 هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ .
أي : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها الرجال والنساء ، المنتشرون في الأرض على كثرتكم وتفرقكم . مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وهو آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم .
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي : خلق من آدم زوجته حواء لأجل أن يسكن إليها لأنها إذا كانت منه حصل بينهما من المناسبة والموافقة ما يقتضي سكون أحدهما إلى الآخر ، فانقاد كل منهما إلى صاحبه بزمام الشهوة .
فَلَمَّا تَغَشَّاهَا أي : تجللها مجامعا لها قدَّر الباري أن يوجد من تلك الشهوة وذلك الجماع النسل ، [ وحينئذ ]{[333]} حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا ، وذلك في ابتداء الحمل ، لا تحس به الأنثى ، ولا يثقلها .
فَلَمَّا استمرت به و أَثْقَلَتْ به حين كبر في بطنها ، فحينئذ صار في قلوبهما الشفقة على الولد ، وعلى خروجه حيا ، صحيحا ، سالما لا آفة فيه [ كذلك ]{[334]} فدعوا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا ولدا صَالِحًا أي : صالح الخلقة تامها ، لا نقص فيه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
ثم جولة جديدة في قضية التوحيد . تأخذ في أولها صورة القصة ، لتصوير خطوات الإنحراف من التوحيد إلى الشرك في النفس . وكأنما هي قصة انحراف هؤلاء المشركين عن دين أبيهم إبراهيم . . ثم تنتهي إلى مواجهتهم بالسخف الذي يزاولونه في عبادة آلهتهم التي كانوا يشركون بها ، وهي ظاهرة البطلان لأول نظرة ولأول تفكير . وتختم بتوجيه الرسول [ ص ] إلى تحديهم هم وهؤلاء الآلهة التي يعبدونها من دون الله ، وأن يعلن التجاءه إلى الله وحده ، وليه وناصره :
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به ، فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين . فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون ! أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ؟ )
( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها ؟ أم لهم أيد يبطشون بها ؟ أم لهم أعين يبصرون بها ؟ أم لهم آذان يسمعون بها ؟ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) . .
إنها جولة مع الجاهلية في تصوراتها التي متى انحرفت عن العبودية لله الواحد لم تقف عند حد من السخف والضلال ؛ ولم ترجع إلى تدبر ولا تفكير ! وتصوير لخطوات الانحراف في مدارجه الأولى ؛ وكيف ينتهي إلى ذلك الضلال البعيد !
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها . فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به ، فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ) . .
إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها . . أن يتوجهوا إلى الله ربهم ، معترفين له بالربوبية الخالصة ، عند الخوف وعند الطمع . . والمثل المضروب هنا للفطرة يبدأ من أصل الخليقة ، وتركيب الزوجية وطبيعتها :
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) . .
فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها ، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى . وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه ويستريح إليها . . وهذه هي نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان . ووظيفة الزوجية في تكوينه . وهي نظرة كاملة وصادقة جاء بها هذا الدين منذ أربعة عشر قرناً . يوم أن كانت الديانات المحرفة تعد المرأة أصل البلاء الإنساني ، وتعتبرها لعنة ونجساً وفخاً للغواية تحذر منه تحذيراً شديداً ، ويوم أن كانت الوثنيات - ولا تزال - تعدها من سقط المتاع أو على الأكثر خادماً أدنى مرتبة من الرجل ولا حساب له في ذاته على الإطلاق .
والأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار . ليظلل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب ، وينتج فيه المحصول البشري الثمين ، ويؤهل فيه الجيل الناشئ لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه . ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة . كما أنه لم يجعله شقاقاً ونزاعاً ، وتعارضاً بين الاختصاصات والوظائف ، أو تكراراً للاختصاصات والوظائف ؛ كما تخبط الجاهليات في القديم والحديث سواء
وبعد ذلك تبدأ القصة . . تبدأ من المرحلة الأولى . .
فلما تغشاها حملت حملاًخفيفا فمرت به . .
والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشف عند تصوير العلاقة الأولية بين الزوجين . . ( فلما تغشاها ) . . تنسيقاً لصورة المباشرة مع جو السكن ؛ وترقيقاً لحاشية الفعل حتى ليبدو امتزاج طائفين لا التقاء جسدين . إيحاء " للإنسان " بالصورة " الإنسانية " في المباشرة . وافتراقها عن الصورة الحيوانية الغليظة ! . . كذلك تصوير الحمل في أول أمره ( خفيفاً ) . . تمر به الأم بلا ثقلة كأنها لا تحسه .
( فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ) . .
لقد تبين الحمل ، وتعلقت به قلوب الزوجين ، وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليماً صحيحاً صبوحاً . . إلى آخر ما يطمع الآباء والأمهات أن تكون عليه ذريتهم ، وهي أجنة في ظلام البطون وظلام الغيوب . . وعند الطمع تستيقظ الفطرة ، فتتوجه إلى الله ، تعترف له بالربوبية وحده ، وتطمع في فضله وحده ، لإحساسها اللدني بمصدر القوة والنعمة والإفضال الوحيد في هذا الوجود . لذلك ( دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ) . .
ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم ، عليه السلام ، وأنه خلق منه زوجه{[12502]} حواء ، ثم انتشر الناس منهما ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً ]{[12503]} } الآية [ النساء : 1 ] .
وقال في هذه الآية الكريمة : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } أي : ليألفها ويسكن بها ، كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } [ الروم : 21 ] فلا ألفة بين زَوْجين أعظم مما بين الزوجين ؛ ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه .
{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي : وطئها { حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا } وذلك أول الحمل ، لا تجد المرأة له ألما ، إنما هي النُّطفة ، ثم العَلَقة ، ثم المُضغة .
وقوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } قال مجاهد : استمرت بحمله . وروي عن الحسن ، وإبراهيم النَّخَعَي ، والسُّدِّي ، نحوه .
وقال ميمون بن مهران : عن أبيه استخفته .
وقال أيوب : سألت الحسن عن قوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } قال : لو كنت رجلا عربيًا لعرفت ما هي . إنما هي : فاستمرت به .
وقال قتادة : { فَمَرَّتْ بِهِ } واستبان حملها .
وقال ابن جرير : [ معناه ]{[12504]} استمرت بالماء ، قامت به وقعدت .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : استمرت به ، فشكت : أحملت{[12505]} أم لا .
{ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ } أي : صارت ذات ثقل{[12506]} بحملها .
وقال السدي : كبر الولد في بطنها .
{ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا } أي : بشرا سويا ، كما قال الضحاك ، عن ابن عباس : أشفقا أن يكون بهيمة .
وكذلك{[12507]} قال أبو البَخْتري وأبو مالك : أشفقا ألا يكون إنسانًا .
وقال الحسن البصري : لئن آتيتنا غلامًا .
وقوله تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } الآية ، قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام بقوله : { وجعل منها زوجها } حواء وقوله { منها } يريد ما تقدم ذكره من أن آدم نام فاستخرجت قصرى أضلاعه وخلقت منها حواء وقوله : { ليسكن إليها } أي ليأنس ويطمئن ، وكان هذا كله في الجنة ، ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطها ، فقال : { فلما تغشاها } أي غشيها وهي كناية عن الجماع ، و«الحمل الخفيف » هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها ، وقرأ جمهور الناس «حَملاً » بفتح الحاء ، وقرأ حماد بن سلمة عن ابن كثير «حِملاً » بكسر الحاء ، وقوله { فمرت به } أي استمرت به ، قال أيوب : سألت الحسن عن قوله : { فمرت به } فقال : لو كنت امرأً عربياً لعرفت ما هي إنما المعنى فاستمرت به .
قال القاضي أبو محمد : وقدره قوم على القلب كأن المراد فاستمر بها كما تقول أدخلت القلنسوة في رأسي ، وقرأ يحيى بن يعمر وابن عباس فيما ذكر النقاش «فمرَت به » بتخفيف الراء ، ومعناه فشكت فيما أصابها هل هو حمل أو مرض ونحو هذا ، وقرأ ابن عباس «فاستمرت به » وقرأ ابن مسعود «فاستمرت بحملها » وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاصي «فمارت به » معناه أي جاءت به وذهبت وتصرفت ، كما تقول مارت الريح موراً ، و { أثقلت } دخلت في الثقل كما تقول : أصبح وأمسى أي صارت ذات ثقل كما تقول أتمر الرجل وألبن إذا صار ذا تمر ولبن ، والضمير في { دعوا } على آدم وحواء .
وروي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدرِ ما هو ، وهذا يقوي قراءة من قرأ «فمرَت به » بتخفيف الراء ، فجزعت لذلك فوجد إبليس إليها السبيل ، فقال لها ما يدريك ما في جوفك ، ولعله خنزير أو حية أو بهيمة في الجملة وما يدريك من أين يخرج أينشق له بطنك فتموتين أو على فمك أو أنفك ؟ ولكن إن أطعتني وسميته عبد الحارث .
قال القاضي أبو محمد : والحارث اسم إبليس ، فسأخلصه لك وأجعله بشراً مثلك ، وإن أنت لم تفعلي قتلته لك ، قال فأخبرت حواء آدم فقال لها ذلك صاحبنا الذي أغوانا في الجنة ، لا نطيعه ، فلما ولدت سمياه عبد الله ، فمات الغلام ، ويروى أن الله سلط إبليس على قتله فحملت بآخر ففعل بها مثل ذلك فحملت بالثالث فلما ولدته أطاعا إبليس فسمياه عبد الحارث حرصاً على حياته ، فهذا هو الشرك الذي جعلا لله أي في التسمية فقط .
و { صالحاً } قال الحسن معناه غلاماً ، قال ابن عباس : وهو الأظهر بشراً سوياً سلياً ، ونصبه على المفعول الثاني وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر أي أتيا صالحاً ، وقال قوم إن المعنى في هذه الآية التبيين عن حال الكافرين فعدد النعم التي تعم الكافرين وغيرهم من الناس ، ثم قرر ذلك بفعل المشركين السيّىء فقامت عليهم الحجة ووجب العقاب ، وذلك أنه قال مخاطباً لجميع الناس { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } يريد آدم وحواء أي واستمرت حالكم واحداً كذلك ، فهذه نعمة تخص كل أحد بجزء منها ، ثم جاء قوله : { فلما تغشاها } إلى آخر الآية وصفاً لحال الناس واحداً واحداً أي هكذا يفعلون فإذا آتاهم الله الولد صالحاً سليماً كما أراده ، صرفاه عن الفطرة إلى الشرك ، فهذا فعل المشركين الذي قامت الحجة فيه باقترانه مع النعمة العامة ، وقال الحسن بن أبي الحسن فيما حكى عنه الطبري : معنى هذه الآية : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } إشارة إلى الروح الذي ينفخ في كل أحد .
قال القاضي أبو محمد : أي خلقكم من جنس واحد وجعل الإناث منه ، ثم جاء قوله : { فلما تغشاها } إلى آخر الآية وصفاً لحال الناس واحداً واحداً على ما تقدم من الترتيب في القول الذي قبله .
جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظُهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] الآية ، وليست من القول المأمور به في قوله : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } [ الأعراف : 188 ] لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلْم الرسول بالغيب ، وقد تم ذلك ، فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاماً موجهاً من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم .
ومناسبة الانتقالَ جريان ذكر اسم الله في قوله : { إلاّ ما شاء الله } [ الأعراف : 188 ] وضمير الخطاب في { خلقكم } للمشركين من العرب ، لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير ، وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر ، وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ بخلق أصله وهو ءادم وزوجه حواء تمهيداً للمقصود .
وتعليق الفعل باسم الجمع ، في مثله ، في الاستعمال يقع على وجهين : أحدهما : أن يكون المراد الكل المجموعي ، أي جملة ما يصدق عليه الضمير ، أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفسَ آدم الذي تولد منه جميع البشر .
وثانيهما : أن يكون المراد الكل الجميعي أي خَلق كل أحد منكم من نفس واحدة ، فتكون النفس هي الأب ، أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالى : { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [ الحجرات : 13 ] وقوله : { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] .
ولفظ { نفس واحدة } وحْدَه يحتمل المعنيين ، لأن في كلا الخلقين امتناناً ، وفي كليهما اعتباراً واتعاضاً .
وقد جعل كثير من المفسرين النفسَ الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد ، وهو المأثور عن الحسن ، وقتادة ، ومشى عليه الفخر ، والبيضاوي وابنُ كثير ، والأصم ، وابن المنير ، والجبائي .
ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة ، لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمّة ، ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالاً كثيراً ونساء ، وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء .
والذي يظهر لي أن في الكلام استخداماً في ضميري { تغشاها } وما بعده إلى قوله : { فيما آتاهما } وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين .
و ( من ) في قوله : { من نفس واحدة } ابتدائية .
وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل ، لأن المقصود جعل الأنثى زوجاً للذكر ، لا الإخبارُ عن كون الله خلقها ، لأن ذلك قد علم من قوله : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } .
و ( من ) في قوله : { وجعل منها } للتبعيض ، والمراد : من نوعها ، وقوله : { منها } صفة ل { زوجها } قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بأن جعل الزوج وهو الأنثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان .
وقوله : { ليسكن إليها } تعليل لما أفادته ( من ) التبعيضية .
والسكون مجاز في الاطمئنان والتأنس أي : جعل من نوع الرجل زوجه ليألفها ولا يجفو قربها ، ففي ذلك منة الإيناس بها ، وكثرة ممارستها لينساق إلى غشيانها ، فلو جعل الله التناسل حاصلاً بغير داعي الشهوة لكانت نفس الرجل غير حريصة على الاستكثار من نسله ، ولو جعله حاصلاً بحالة ألم لكانت نفس الرجل مقلة منه ، بحيث لا تنصرف إليه إلاّ للاضطرار بعد التأمل والتردد ، كما ينصرف إلى شرب الدواء ونحوه المعقبة منافع ، وفُرع عنه بفاء التعقيب ما يحدث عن بعض سكون الزوج إلى زوجه وهو الغشيان .
وصيغت هذه الكنابة بالفعل الدال على التكلف لإفادة قوة التمكن من ذلك لأن التكلف يقتضي الرغبة .
وذُكِّر الضمير المرفوع في فعلي { يَسْكُنَ } و ( تغشى ) : باعتبار كون ما صْدق المعاد ، وهو النفس الواحدة ، ذكراً ، وأنّث الضمير المنصوب في { تغشاها } ، والمرفوع في { حَملتْ } . و ( مرتْ ) : باعتبار كون ما صْدق المعاد وهو زوجها أنثى ، وهو عكس بديع في نقل ترتيب الضمائر .
ووُصف الحمل ب { خفيفاً } إدماج ثان ، وهو حكاية للواقع ، فإن الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألماً ، وليس المراد هنا حملاً خاصّاً ، ولكنه الخبر عن كل حمل في أوله ، لأن المراد بالزوجين جنسهما ، فهذه حكاية حالة تحصل منها عبرة أخرى ، وهي عبرة تطور الحمل كيف يبتدىء خفيفاً كالعدم ، ثم يتزايد رويداً رويداً حتى يثقل ، وفي « الموطأ » « قال : مالك وكذلك ( أي كالمريض غير المخوف والمريض المخوف » ) : الحامل في أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف ، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه { فبشرّناها بإسحاق } [ هود : 71 ] وقال : { حَملت حمْلاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتينا صالحاً لنكونن من الشاكرين } .
وحقيقة المرور : الاجتياز ، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء كقوله تعالى : { فلما كشفْنا عنه ضُره مر كأنْ لم يَدْعُنا إلى ضرَ مسّه } [ يونس : 72 ] أي : نسى دعاءنا ، وأعرض عن شكرنا لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله ، وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 72 ] .
وقال تعالى : { وكأيّنْ من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها مُعرضون } [ يوسف : 105 ] .
فمعنى { فمرت به } لم تتفطن له ، ولم تفكر في شأنه ، وكل هذا حكاية للواقع ، وهو إدماج .
والإثْقالِ ثَقل الحمل وكلفته ، يقال أثقلت الحامل فهي مُثقل وأثقل المريض فهو مُثقل ، والهمزة للصيرورة مثل أوْرَقَ الشجر ، فهو كما يقال أقْرَبت الحامل فهي مُقْرب إذا أقرب أبان وضعها .
وقد سلك في وصف تكوين النسل مسلك الإطناب : لما فيه من التذكير بتلك الأطوار ، الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته ، وبلطفه بالإنسان .
وظاهر قوله : { دَعَوَا الله ربهما } أن كل أبوين يَدعوان بذلك ، فإن حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبواب مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح ، سواء نطقاً بذلك أم أضمراه في نفوسهما ، فإن مدة الحمل طويلة ، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها ، وإنما يكون التمني منهم على الله ، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية ، وبأنه هو خالق المخلوقات ومُكونها ، ولا حظ للآلهة إلاّ في التصرفات في أحوال المخلوقات ، كما دلت علبه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى : { قل هل من شركائكم من يَبْدَؤا الخلق ثم يعيده } [ يونس : 34 ] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } في الأنعام ( 1 ) .
وإن حمل { دَعوا } على غير ظاهره فتأويله أنه مخصوص ببعض الأزواج الذين يخطر بيبالهم الدعاء .
وإجراء صفة { ربهما } المؤذنة بالرفق والإيجاد : للإشارة إلى استحضار الأبوين هذا الوصف عند دعائهما الله ، أي يَذكرَ أنه باللفظ أو ما يفيد مفاده ، ولعل العرب كانوا إذا دعوا بصلاح الحمل قالوا : ربنا آتنا صالحاً .
وجملة : { لئن آتيتنا صالحاً } مبيّنة لجملة { دَعَوَا الله } .
و { صالحاً } وصف جرى على موصوف محذوف ، وظاهر التذكير أن المحذوف تقديره : ( ذكراً ) وكان العرب يرغبون في ولادة الذكور وقال تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } [ النحل : 57 ] أي الذكور .
فالدعاء بأن يؤتَيا ذكراً ، وأن يكون صالحاً ، أي نافعاً : لأنهم لا يعرفون الصلاح الحق ، ويَنذران : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ". يعني بالنفس الواحدة: آدم... ويعني بقوله: "وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها": وجعل من النفس الواحدة، وهو آدم، زوجها حوّاء... ويعني بقوله: "لِيَسْكُنَ إلَيْها": ليأوي إليها لقضاء الحاجة ولذّته. ويعني بقوله: "فَلَمّا تَغَشّاها "فلما تدثرها لقضاء حاجته منها فقضى حاجته منها، "حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفا"... يعني بخفة الحمل: الماء الذي حملته حوّاء في رحمها من آدم أنه كان حملاً خفيفا، وكذلك هو حمل المرأة ماء الرجل خفيف عليها. وأما قوله: "فَمَرّتْ بِهِ "فإنه يعني: استمرّت بالماء: قامت به وقعدت، وأتمت الحمل... [عن] الحسن..."فَمَرّتْ بِهِ": فاستمرّت به... عن قتادة:.."فَمَرّتْ بِهِ" استبان حملها...
وقال آخرون: معنى ذلك: فشكّت فيه...عن ابن عباس، في قوله: "فَمَرّتْ بِهِ" قال: فشكت أحملت أم لا.
ويعني بقوله: "فَلَمّا أثْقَلَتْ": فلما صار ما في بطنها من الحمل الذي كان خفيفا ثقيلاً ودنت ولادتها... "دَعَوَا اللّهَ رَبّهُما"، يقول: نادى آدم وحوّاء ربهما وقالا: يا ربنا "لئن آتيتنا صالحا لنكوننّ من الشاكرين".
واختلف أهل التأويل في معنى الصلاح الذي أقسم آدم وحوّاء عليهما السلام أنه إن آتاهما صالحا في حمل حوّاء لنكوننّ من الشاكرين. فقال بعضهم: ذلك هو أن يكون الحمل غلاما...
وقال آخرون: بل هو أن يكون المولود بشرا سويّا مثلهما... والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن آدم وحوّاء أنهما دعوا الله ربهما بحمل حَوّاء، وأقسما لئن أعطاهما في بطن حوّاء صالحا ليكونان لله من الشاكرين. والصلاح قد يشمل معاني كثيرة: منها الصلاح في استواء الخلق، ومنها الصلاح في الدين، والصلاح في العقل والتدبير. وإذ كان ذلك كذلك، ولا خبر عن الرسول يوجب الحجة بأن ذلك على بعض معاني الصلاح دون بعض، ولا فيه من العقل دليل وجب أن يَعُمّ كما عمه الله، فيقال إنهما قالا لئن آتيتنا صالحا بجميع معاني الصلاح.
وأما معنى قوله: "لَنَكُونَنّ مِنَ الشاكِرِينَ" فإنه لنكوننّ ممن يشكرك على ما وهبت له من الولد صالحا.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمَعْنِيِّ بِهَا: وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ (حَوَّاءُ الْأُمُّ الْأُولَى، حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا، فَلَمْ تَجِدْ لَهُ ثِقَلًا، وَلَا قَطَعَ بِهَا عَنْ عَمَلٍ، فَكُلَّمَا اسْتَمَرَّ بِهَا ثَقُلَ عَلَيْهَا، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهَا: إنْ كُنْت تَعْلَمِينَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِك من أَيْنَ يَخْرُجُ من جِسْمِك؛ إنَّهُ لَيَخْرُجُ من أَنْفِك، أَوْ من عَيْنِك، أَوْ من فَمِك، وَرُبَّمَا كَانَ بَهِيمَةً؛ فَإِنْ خَرَجَ سَلِيمًا يُشْبِهُك تُطِيعِينَنِي فِيهِ؟ قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ، فَقَالَ لَهَا: هُوَ صَاحِبُك الَّذِي أَخْرَجَك من الْجَنَّةِ. فَلَمَّا وَلَدَتْ -فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ- سَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ بِإِشَارَةِ إبْلِيسَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا، وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}. وَذَلِكَ مَذْكُورٌ وَنَحْوُهُ فِي ضَعِيفِ الْحَدِيثِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ كَثِيرٌ لَيْسَ لَهَا ثَبَاتٌ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا مَنْ لَهُ قَلْبٌ؛ فَإِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِنْ كَانَ غَرَّهُمَا بِاَللَّهِ الْغَرُورُ فَلَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ من جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَمَا كَانَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيَقْبَلَا لَهُ نُصْحًا وَلَا يَسْمَعَا مِنْهُ قَوْلًا.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا جِنْسُ الْآدَمِيِّينَ؛ فَإِنَّ حَالَهُمْ فِي الْحَمْلِ وَخِفَّتِهِ وَثِقَلِهِ إلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذَا خَفَّ عَلَيْهِمْ الْحَمْلُ اسْتَمَرُّوا بِهِ؛ فَإِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ نَذَرُوا كُلَّ نَذْرٍ فِيهِ، فَإِذَا وُلِدَ لَهُمْ ذَلِكَ الْوَلَدُ جَعَلُوا فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شُرَكَاءَ فِي تَسْمِيَتِهِ وَعَمَلِهِ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى الْأَصْنَامِ، وَيَجْعَلُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَعُمُومُهَا الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ مُتَنَاوَلَاتِهَا، وَيَسْلَمُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ عَنْ النَّقْصِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِجُهَّالِ الْبَشَرِ، فَكَيْفَ بِسَادَتِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{هو الذي خلقكم من نفس واحدة} أي خلقكم من جنس واحد أو حقيقة واحدة صورها بشرا سويا، {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} سكونا زوجيا...
عبر التنزيل عن ميل الزوج الجنسي إلى زوجه هنا وفي سورة الروم بالسكون وذلك أن المرء إذا بلغ سن الحياة الزوجية يجد في نفسه اضطرابا خاصا لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحدا ذلك الاقتران والاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به، ولذلك قال بعده {فلما تغشّاها...} الغشاء: غطاء الشيء الذي يستره من فوقه، والغاشية: الظلة تظله من سحابة وغيرها {والليل إذا يغشى} [الليل: 1] أي يحجب الأشياء ويسترها بظلامه، وتغشاها أتاها كغشيها ويزيد ما تعطيه صيغة التفعل من جهد، وهو كناية نزيهة عن أداء وظيفة الزوجية تشير إلى أن مقتضى الفطرة وأدب الشريعة فيها الستر، ولفظ النفس مؤنث فأنث في أول الآية، ولفظ الزوج يطلق على الذكر والأنثى ولهذا ذكّر هنا فاعل التغشي وأنث مفعوله.
أي فلما تغشى الزوج الذي هو الذكر الزوج التي هي الأنثى {حملت حملا خفيفا} أي علقت منه وهو الحبل، والحمل بالفتح يطلق على المصدر وعلى المحمول والمشهور أنه خاص بما كان في بطن أو على شجرة وأن ما حمل على ظهر ونحوه يسمى حملا بكسر الحاء. والحمل هاهنا يحتمل المعنيين وهو يكون في أول العهد خفيفا لا تكاد المرأة تشعر به، وقد تستدل عليه بارتفاع حيضتها {فمرت به} أي فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق كما قاله الزمخشري أو استمرت في أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استئصال.
{فلما أثقلت} أي حان وقت ثقل حملها وقرب وضعها {دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين} أي توجها إلى الله تعالى ربهما يدعوانه فيما انحصر همها فيه بعد تمام الحمل على سلامة بأن يعطيهما ولدا صالحا أي سويا تام الخلق يصلح للقيام بالأعمال البشرية النافعة- ولا ينبغي أن يدعو العبد غير ربه، فيما لا يملك هو ولا غيره من العبيد أسبابه، دعواه مخلصين مقسمين له على ما وطنا عليه أنفسهما من الشكر له على هذه النعمة قائلين لئن أعطيتنا ولدا صالحا لنكونن من القائمين لك بحق الشكر قولا وعملا واعتقادا وإخلاصا، كما يدل عليه الوصف المعرّف.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها. فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به، فلما أثقلت دعوا الله ربهما: لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين).. إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. أن يتوجهوا إلى الله ربهم، معترفين له بالربوبية الخالصة، عند الخوف وعند الطمع.. والمثل المضروب هنا للفطرة يبدأ من أصل الخليقة، وتركيب الزوجية وطبيعتها: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها).. فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى. وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه ويستريح إليها... الأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار. ليظلل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب، وينتج فيه المحصول البشري الثمين، ويؤهل فيه الجيل الناشئ لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه. ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة. كما أنه لم يجعله شقاقاً ونزاعاً، وتعارضاً بين الاختصاصات والوظائف، أو تكراراً للاختصاصات والوظائف؛ كما تخبط الجاهليات في القديم والحديث سواء وبعد ذلك تبدأ القصة.. تبدأ من المرحلة الأولى.. فلما تغشاها حملت حملاً خفيفا فمرت به.. والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشف عند تصوير العلاقة الأولية بين الزوجين.. (فلما تغشاها).. تنسيقاً لصورة المباشرة مع جو السكن؛ وترقيقاً لحاشية الفعل حتى ليبدو امتزاج طائفين لا التقاء جسدين. إيحاء "للإنسان "بالصورة "الإنسانية" في المباشرة. وافتراقها عن الصورة الحيوانية الغليظة!.. كذلك تصوير الحمل في أول أمره (خفيفاً).. تمر به الأم بلا ثقلة كأنها لا تحسه. ثم تأتي المرحلة الثانية: (فلما أثقلت دعوا الله ربهما: لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين).. لقد تبين الحمل، وتعلقت به قلوب الزوجين، وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليماً صحيحاً صبوحاً.. إلى آخر ما يطمع الآباء والأمهات أن تكون عليه ذريتهم، وهي أجنة في ظلام البطون وظلام الغيوب.. وعند الطمع تستيقظ الفطرة، فتتوجه إلى الله، تعترف له بالربوبية وحده، وتطمع في فضله وحده، لإحساسها اللدني بمصدر القوة والنعمة والإفضال الوحيد في هذا الوجود. لذلك (دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وظاهر قوله: {دَعَوَا الله ربهما} أن كل أبوين يَدعوان بذلك، فإن حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبوان مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح، سواء نطقاً بذلك أم أضمراه في نفوسهما، فإن مدة الحمل طويلة، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها، وإنما يكون التمني منهم على الله، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية، وبأنه هو خالق المخلوقات ومُكونها، ولا حظ للآلهة إلاّ في التصرفات في أحوال المخلوقات، كما دلت عليه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى: {قل هل من شركائكم من يَبْدَؤا الخلق ثم يعيده} [يونس: 34] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} في الأنعام (1)...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وانتقل كتاب الله إلى وصف حالة يختلط فيها الإيمان بالشرك عند كثير من الناس، ذلك أن الله تعالى طبع الإنسان، ذكرا وأنثى، على حب الذرية والرغبة في إنجاب الأولاد، ومن أجل تحقيق هذه الرغبة يستعمل بعض الناس لجهلهم كل الوسائل الممكنة، حتى الوسائل غير المشروعة، لاسيما إذا طال على بعضهم الانتظار وامتد به الأمد، وهكذا يصبح الزوج والزوجة في قلق واضطراب، تارة يستجيبان لفطرة الله فيتوجهان بدعائهما ورجائهما في إنجاب الولد إلى الله، وتارة ينحرفان عن الفطرة فيعقدان الأمل والرجاء على غير الله، ويظهر أثر ذلك فيما يقدمه الأب أو الأم من نذر إلى غير الله، ومن اعتقاد بأن ذلك الغير كان له تأثير مباشر في تحقيق مناه، أيا كان ذلك الغير، صنما أو إنسانا، حيا أو ميتا...