{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهو آدم عليه السلام . أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي ؛ الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو ، الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه ، وأوصافه تفاوتا لا يمكن ضبطه ، ولا يدرك وصفه ، وجعل الله لهم مستقرا ، أي منتهى ينتهون إليه ، وغاية يساقون إليها ، وهي دار القرار ، التي لا مستقر وراءها ، ولا نهاية فوقها ، فهذه الدار ، هي التي خلق الخلق لسكناها ، وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها ، التي تنشأ عليها وتعمر بها ، وأودعهم الله في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم ، ثم في دار الدنيا ، ثم في البرزخ ، كل ذلك ، على وجه الوديعة ، التي لا تستقر ولا تثبت ، بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي المستقر ، وأما هذه الدار ، فإنها مستودع وممر { قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } عن الله آياته ، ويفهمون عنه حججه ، وبيناته .
( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ، فمستقر ومستودع . قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون )
إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة . . اللمسة في ذات النفس البشرية . النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنة والحقيقة في الذكر والأنثى . تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة . فنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل ، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى . . ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار . فإذا أجناس وألوان ؛ وإذا شيات ولغات ؛ وإذا شعوب وقبائل ؛ وإذا النماذج التي لا تحصى ، والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة .
( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) . .
فالفقة هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة ، التي تنبثق منها النماذج والأنماط . ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائما من الذكور والإناث - في عالم الإنسان - لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار . ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ " إنسانيتهم " وتجعلهم أكفاء للحياة " الإنسانية " !
ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات - فهي في حاجةإلى بحث متخصص - ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكرا أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الأنات دائما لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها . .
ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . . أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكرا أو أنثى ، هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس ، وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله . لا سلطان لأحد عليه إلا الله . .
هذا القدر الذي يجريه الله في كل مرة ، فيهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ، يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثا ، وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكورا . فلا يقع اختلال - على مستوى البشرية كلها - في هذا التوازن . الذي عن طريقة يتم الإخصاب والإكثار ، وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته . . ذلك أن الأخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور . . ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى ؛ إنما الغاية - التي تميز الإنسان من الحيوان - هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى . . لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به . وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة ، ليتم إعداد هذه الذرية لدورها " الإنساني " الخاص - فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان - والدور " الإنساني " الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جدا مما تحتاج إليه طفولة الحيوان !
وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره . . ولكن لقوم يفقهون : ( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) . .
أما المطموسون المحجوبون . . وفي أولهم أصحاب " العلمية " الذين يسخرون من " الغيبية " . فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين : " وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " .
يقول تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني : آدم عليه السلام ، كما قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } [ النساء : 1 ] .
وقوله : { فَمُسْتَقَرٌ } اختلفوا في معنى ذلك ، فعن ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وقيس بن أبي حازم ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك وقتادة والسُّدِّي ، وعطاء الخراساني : { فَمُسْتَقَرٌ } أي : في الأرحام قالوا - أو : أكثرهم - : { وَمُسْتَوْدَعٌ } أي : في الأصلاب .
وعن ابن مسعود وطائفة عكس ذلك . وعن ابن مسعود أيضا وطائفة : فمستقر في الدنيا ، ومستودع حيث يموت . وقال سعيد بن جُبَيْر : { فَمُسْتَقَرٌ } في الأرحام وعلى ظهر الأرض ، وحيث يموت . وقال الحسن البصري : المستقر الذي [ قد ]{[10987]} مات فاستقر به عمله . وعن ابن مسعود : ومستودع في الدار الآخرة .
والقول الأول هو الأظهر ، والله أعلم .
وقوله : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } أي : يفهمون ويَعُون كلام الله ومعناه .
وقوله { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع } الآية ، الإنشاء فعل الشيء ، و { من نفس واحدة } يريد آدم عليه السلام ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «فمستقَر » بفتح القاف على أنه موضع استقرار ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقِر » بكسر القاف على أنه اسم فاعل ، وأجمعوا على فتح الدال من «مستودَع » بأن يقدر موضع استيداع ، وأن يقدر أيضاً مفعولاً ولا يصح ذلك في مستقر لأن استقر لا يتعدى فيبنى منه مفعول أما أنه روى هارون الأعور عن أبي عمرو «ومستودِع » بكسر الدال ، فمن قرأ «فمستقَر ومستودِع » على أنها موضع استقرار وموضع استيداع علقها بمجرور تقديره فلكم مستقر ومستودع ، ومن قرأ «فمستقِر ومستودع » على اسم الفاعل في «مستقِر » واسم المفعول في «مستودَع » علقها بمجرور تقديره فمنكم مستقر ومستودع واضطرب المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع ، فقال الجمهور مستقر في الرحم ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي الله بخروجهم ، وقال ابن عون : مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض فقالوا : قد توفي فأخبرني بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله عن «مستقر ومستودع » فقال : مستقر في الرحم ومستودع في الصلب ، وقال الحسن بن أبي الحسن : مستقر في القبور ومستودع في الدنيا ، وقال ابن عباس : المستقر الأرض والمستودع عند الرحم ، وقال ابن جبير : المستودع في الصلب والمستقر في الآخرة والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقراراً مطلقاً لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى المحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار فيستقر في أحدهما استقراراً مطلقاً ، وليس فيها مستودع لأنه لا نقلة له بعد وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الظرفين «مستقر » بالإضافة إلى التي قبلها و «مستودع » بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة ولا بد ، و { يفقهون } معناه يفهمون{[5030]} ، وقد تقدم تفسير مثل هذا آنفاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة}: خلقكم من نفس واحدة، يعني آدم وحده، {فمستقر} في أرحام النساء،
{ومستودع} في أصلاب الرجال مما لم يخلقه وهو خالقه.
{قد فصلنا الآيات}: قد بينا الآيات، {لقوم يفقهون} عن الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإلهكم أيها العادلون بالله غيره "الّذي أنْشأكُمْ "يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئاً "مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة" يعني: من آدم عليه السلام...
وأما قوله: "مُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ" فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمنكم مستقرّ في الرحم ومنكم مستودع في القبر، حتى يبعثه الله لنشر القيامة... وقال آخرون: المستودع: ما كان في أصلاب الآباء، والمستقرّ: ما كان في بطون النساء وبطون الأرض أو على ظهورها...عن سعيد بن جبير، في قوله: "فَمُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ" قال: مستودَعون ما كانوا في أصلاب الرجال، فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض أو في بطنها، فقد استقرّوا...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمستقرّ في الأرض على ظهورها ومستوع عند الله... عن ابن عباس: «المستقرّ»: الأرض، و «المستودع» عند الرحمن.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمستقرّ في الرحم ومستودع في الصلب... وقال آخرون: المستقر: في القبر، والمستودع: في الدنيا...
وأولى التأويلات في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: "فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع" كلّ خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة مستقرّاً ومستودعاً، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أن من بني آدم مستقراً في الرحم ومستودعاً في الصلب، ومنهم من هو مستقرّ على ظهر الأرض أو بطنها ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم مستقرّ في القبر مستودع على ظهر الأرض، فكلّ مستقرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني فداخل في عموم قوله: "فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ" ومراد به: إلا أن يأتي خبر يجب التسليم له بأنه معنى به معنى دون معنى وخاصّ دون عامّ...
"قَدْ فَصّلْنَا الآيات لقَوْمٍ يَفْقَهُونَ": قد بيّنا الحجج وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها لقوم يفقهون مواقع الحجج ومواضع العبر ويفهمون الآيات والذكر، فإنهم إذا اعتبروا بما نبهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور، علموا أن ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شريك فيشركوه في عبادتهم إياه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} فيه دلالة أنه {يبدئ ويعيد} [البروج: 13] من غير شيء لأنه أخبر أنه خلق البشر كله من نفس واحدة. والخلائق كلهم لو اجتمعوا ما قدروا على ذلك، ولم تكن الخلائق بأجمعهم في تلك النفس الواحدة. دل أنه قادر على الابتداء والإعادة لا من شيء؛ إذ لم يكن لتلك النفس التي خلق الخلائق منها تقدمة شيء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: لم قيل {يَعْلَمُونَ} مع ذكر النجوم و {يَفْقَهُونَ} مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
اضطرب المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع... والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقراراً مطلقاً، لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى المحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار فيستقر في أحدهما استقراراً مطلقاً، وليس فيها مستودع لأنه لا نقلة له بعد، وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الظرفين «مستقر» بالإضافة إلى التي قبلها و «مستودع» بالإضافة إلى التي بعدها، لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة ولا بد.
هذا نوع رابع من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه، وهو الاستدلال بأحوال الإنسان؛ فنقول لا شبهة في أن النفس الواحدة هي آدم عليه السلام وهي نفس واحدة. وحواء مخلوقة من ضلع من أضلاعه. فصار كل الناس من نفس واحدة وهي آدم...
{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} والمراد من هذا التفصيل أنه بين هذه الدلائل على وجه الفصل للبعض عن البعض. ألا ترى أنه تعالى تمسك أولا بتكوين النبات والشجر من الحب والنوى، ثم ذكر بعده التمسك بالدلائل الفلكية من ثلاثة وجوه، ثم ذكر بعده التمسك بأحوال تكوين الإنسان فقد ميز تعالى بعض هذه الدلائل عن بعض، وفصل بعضها عن بعض لقوم يفقهون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه بعض هذا الملكوت الأرضي والسماوي، أتبعه -كما مضى في أول السورة- الخلق المفرد الجامع لجميع الملكوت، وهو الإنسان، دالاً على كمال القدرة على كل ما يريد، مبطلاً بمفاوتة أول الإبداع وآخر الآجال ما اعتقدوا في النور والظلمة والشمس والقمر وغيرهما، لأن واحداً منها لا اختيار له في شيء يصدر عنه، بل هو مسخر ومقهور كما هو محسوس ومشهور، فقال: {وهو} أي لا غيره {الذي أنشأكم} أي وأنتم في غاية التفاوت في الطول والقد واللون والشكل وغير ذلك من الأعراض التي دبرها سبحانه على ما اقتضته حكمته {من نفس واحدة} ثم اقتطع منها زوجها ثم فرّعكم منهما.
ولما كان أغلب الناس في الحياة الدنيا يعمل عمل من لا يحول ولا يزول، لا يكون على شرف الزوال ما دامت فيه بقية من حياة، قال: {فمستقر} أي فسبب عن ذلك أنه منكم مستقر على الأرض -هذا على قراءة ابن كثير وابن عمر، وبكسر القاف اسم فاعل، والمعنى في قراءة الباقين بفتحه اسم مكان.
{ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة: 26].
ولما كان من في البرزخ قد كشف عنهم الغطاء فهم موقنون بالساعة غير عاملين على ضد ذلك، وكذا من في الصلب والرحم، عبر بما يدل على عدم الاستقرار فقال: {ومستودع} أي في الأصلاب أو الأرحام أو في بطن الأرض، فدلت المفاوتة من كل منهما- مع أن الكل من نفس واحدة -على القادر المختار، لا يقدر غيره أن يعكس شيئاً من ذلك، وكل ذلك مضمون الآيتين في أول السورة، وقدم الإصباح والليل ومتعلقهما لتقدمهما في الخلق، ثم تلاه بخلق الإنسان على حسب ما مرّ أول السورة، وذكر هنا أنه جعل ذلك الطين نفساً واحدة فرّع الإنس كلهم منها مع تفاوتهم فيما هناك وفي غيره.
ولما ذكر هذا المفرد الجامع، وفصّله على هذه الوجوه المعجبة، كان محلاً لتوقع التنبيه عليه فقال: {قد فصلنا} أي بعظمتنا {الآيات} أي أكثرنا بيانها في هذا المفرد الجامع في أطوار الخلقة وأدوار الصنعة، تارة بأن يكون من التراب بشر، وأخرى بأن يخرج الأنثى من الذكر، وتارة بأن يفرّع من الذكر والأنثى ما لا يحيط به العد ولا يجمعه الخبر من النطفة إلى الولادة إلى الكبر.
ولما كان إنشاء الناس من نفس واحدة وتصريفهم على تلك الوجوه المختلفة جداً ألطف وأدق صنعة، فكان ذلك محتاجاً إلى تدبر واستعمال فطنة وتدقيق نظر، قال: {لقوم يفقهون} أي لهم أهلية الفقه والفطنة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع} بعد أن ذكرنا الله تعالى ببعض آياته الكونية في الأرض وفي السماء ذكرنا في هذه الآية ببعض آياته في أنفسنا.
الإنشاء: إيجاد الشيء وتربيته أو إحداثه بالتدريج. وقد استعمل في التنزيل في خلق الإنسان بجملته وخلق أعضائه ومشاعره، وإيجاد الأقوام والقرون من أممه بعضها في أثر بعض، وفي البعث، وفي خلق الشجر والجنات، وفي إحداث السحاب. قال في حقيقة الأساس: وأنشأ حديثا وشعرا وعمارة. اه. والنفس: ما يحيا به الإنسان وذاته فيطلق على الروح وعلى المرء المركب من روح وبدن. والمستقَر (بفتح القاف): حيث يكون القرار والإقامة قال تعالى: {ولكم في الأرض مستقَر} [البقرة: 36] كما قال: {جعل الأرض قرارا} [النمل: 61] قال الراغب: قر في مكانه يقر قرارا إذا ثبت ثبوتا جامدا، وأصله من القر وهو البرد وهو يقتضي السكون، والحر يقتضي الحركة. اه.
والمستودع: موضع الوديعة، وهي ما يتركه المرء عند غيره مؤقتا ليأخذه بعد، فهي فعلية من ودع الشيء إذا تركه بمعنى مفعولة. ويكون كل من المستقر والمستودع مصدرا ميميا بمعنى الاستقرار والاستيداع، ويكون الثاني اسم مفعول بمعنى الوديعة، ولا يكون الأول كذلك لأن فعله لازم إلا ما جاء على طريقة الحذف كقولهم ظرف مستقر، أي مستقر فيه.
والمعنى أنه تعالى هو الذي أنشأكم من نفس واحدة، وهي إما الروح التي هي الخلق الآخر في قوله تعالى بعد ذكر أطوار خلق الجسد {ثم أنشأناه خلقا آخر} [المؤمنون: 14] وإما الذات المركبة من الروح والجسد، والمراد بها الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد بين الأزواج، وهو عندنا وعند أهل الكتاب آدم عليه السلام وتقدم مثل هذا في أول سورة النساء مع بحث طويل في تفسيره وسيجيئ شبهه في سورة الأعراف. وفي إنشاء جميع البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته، وفي التذكير به إرشاد إلى ما يجب من شكر نعمته، ومن وجوب التعارف والتآلف والتعاون بين البشر، وعدم جعل تفرقهم إلى شعوب وقبائل، مدعاة للتعادي والتقاتل، وقد فصلنا القول في هذا المعنى في أول تفسير آية سورة النساء... قرأ ابن كثير وأبو عمرو المستقر بكسر القاف والباقون بفتحها. واختلف في المراد بالمستقر والمستودع...
وأقول ليس في الكتاب العزيز ما نستعين به على تفسير هذه العبارة كدأبنا في تفسير القرآن بالقرآن إلا قوله تعالى في سورة الحج: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم} [الحج: 5]. وقوله تعالى في سورة هود: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} [هود: 6] قال ابن عباس: مستقرها حيث تأوي ومستودعها حيث تموت. وقال مستقرها في الأرحام ومستودعها حيث تموت. فهذا يرجح أن المراد بالمستقَر (بفتح القاف): الرحم، والمستودع القبر. وأما المستقِر (بكسر القاف) فالظاهر أنه من يطول عمره في الدنيا كأنه قال: فمنكم مستقر في الدنيا يعمر عمرا طويلا ومنكم مستودع لا استقرار له فيها بل تخترمه المنية طفلا أو يافعا، ويمكن تفسير قراءة الفتح بهذا أي فمنها ذو استقرار وذو استيداع. وآخر ما خطر لي بعد تلخيص أقوال المفسرين أن المستقر الروح- وهو يذكر ويؤنث- والمستودع البدن. والجملة مما يتسع المجال فيه للتفسير والتقدير، والإيجاز ومقصود به.
{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} أي قد جعلنا الآيات المبينة لسنننا في خلق البشر مفصلة. كل فصل ونوع منها يدل على قدرة الخالق وإرادته، وعمله وحكمته، وفضله ورحمته، فصلناها كذلك لقوم يفقهون ما يتلى عليهم أي يفهمون المراد منه ومرماه، ويفطنون لدقائقه وخفاياه، فالفقه- وإن فسر بالعلم وبالفهم- أخص منهما. قال الراغب: الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم. وقال ابن الأثير في النهاية إن اشتقاقه من الفتح والشق، وأحسن منه قول الحكيم الترمذي أن فقه وفقأ واحد فإن الإبدال بين الهمزة والهاء كثير. وفقأ البثرة شقها وسبر غورها، فالفقء مستعمل في الحسيات والفقه في المعنويات، والجامع بينهما النظر في أعماق الشيء وباطنه. فمن لا يفهم إلا ظواهر الكلام ولا يفطن إلا لمظاهر الأشياء لا يقال أنه فقه ذلك، وإنما سمي علم الشرع فقها لما فيه من الاستنباط.
ولما كان استخراج الحكم والعبر من خلق البشر يتوقف على غوص في أعماق الآيات، وفطنة في استخراج دقائق الحكم والبينات، عبر عنها بالفقه، وأما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر، ولا غوص الفكر، وكذلك أكثر مظاهر علم الفلك، فلذلك اكتفى في الآية السابقة لهذه بالتعبير بالعلم الشامل لما لا يشترط فيه دقة الاستنباط كظواهره ولغيره كدقائقه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وهو آدم عليه السلام. أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي؛ الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو، الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه، وأوصافه تفاوتا لا يمكن ضبطه، ولا يدرك وصفه، وجعل الله لهم مستقرا، أي منتهى ينتهون إليه، وغاية يساقون إليها، وهي دار القرار، التي لا مستقر وراءها، ولا نهاية فوقها، فهذه الدار، هي التي خلق الخلق لسكناها، وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها، التي تنشأ عليها وتعمر بها، وأودعهم الله في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم في دار الدنيا، ثم في البرزخ، كل ذلك، على وجه الوديعة، التي لا تستقر ولا تثبت، بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي المستقر، وأما هذه الدار، فإنها مستودع وممر {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} عن الله آياته، ويفهمون عنه حججه، وبيناته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفْس واحدة كما هو معلوم لهم، فالّذي أنشأ النّاس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره ممّا أشركوا به، والنّظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات. قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21].
والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غيرَ من خلقهم على نحو ما قررتُه في الآية قبل هذه...
والاستيداع: طلب التّرك، وأصله مشتقّ من الوَدْع، وهو التّرك على أن يُسترجع المستوْدَعُ. يقال: استودعه مالاً إذا جعله عنده وديعة، فالاستيداع مؤذن بوضع موقّت، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل...
والأظهر أن لا يقيّد الاستيداع بالقبور، بل هو استيداع من وقت الإنشاء، لأنّ المقصود التّذكير بالحياة الثّانية، ولأنّ الأظهر أنّ الواو ليست للتّقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع، فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودِعها. وإيثار التّعبير بهذين المصدرين ما كان إلاّ لإرادة توفير هذه الجملة.
وعلى قراءة كسر القاف هو اسم فاعل. {ومستودع} اسم مفعول، والمعنى هو هو.
وقوله: {قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون} تقرير لنظيره المتقدّم مقصود به التّذكير والإعذار.
وعدل عن (يعلمون) إلى {يفقهون} لأنّ دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة تحتاج إلى تدبّر، فإنّ المخاطبين كانوا معرضين عنها فعبّر عن علمها بأنّه فِقه، بخلاف دلالة النّجوم على حكمة الاهتداء بها فهي دلالة متكرّرة، وتعريضاً بأنّ المشركين لا يعلمون ولا يفقهون، فإنّ العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة، والفقه هو إدراك الأشياء الدّقيقة. فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين وانتفى الانتفاع به للمشركين، ولذلك قال بعدَ هذا {إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} [الأنعام: 99].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... جدير بالملاحظة أنّ هذه الآية تعبر عن خلق الإِنسان بالإِنشاء، والكلمة لغوياً تعني الإِيجاد والإِبداع مع التربية، أي أنّ الله قد خلقكم وتعهد بتربيتكم، ومن الواضح أنّ الخالق الذي يخلق شيئاً ثمّ يهمله لا يكون قد أبدى قدرة فائقة، ولكنّه إِذا استمر في العناية بمخلوقاته وحمايتها، ولم يغفل عن تربيتها لحظة واحدة، عندئذ يكون قد أظهر حقّاً عظمته وسعة رحمته... وفي ختام الآية يعود فيقول: (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون). عند الرجوع إِلى كتب اللغة يتبيّن لنا أنّ «الفقه» ليس كل معرفة أو فهم، بل هو التوصل إِلى علم غائب بعلم حاضر، وبناء على ذلك فالهدف من التمعن في خلق الإِنسان واختلاف أشكاله وألوانه، هو أن يتوصل المرء المدقق من معرفة الخلق إِلى معرفة الخالق.