سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون
هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ؛ ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة ، حتى ليصح أن يقال : إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها ؛ وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعاً لتلك الحقيقة الرئيسية فيها
هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية ، وتعرضها من جوانب متعددة ؛ كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها ؛ ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها . وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها . كما تلم بقضية الرزق : بسطه وقبضه ؛ وصفة الإنسان في السراء والضراء .
ولكن حقيقة الوحي والرسالة ، وما يتصل بها ، تظل - مع ذلك - هي الحقيقة البارزة في محيط السورة ، والتي تطبعها وتظللها . وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها .
ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة ، وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة . فهي تعرض من جوانب متعددة . يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق . أو وحدانية الرازق . أو وحدانية المتصرف في القلوب . أو وحدانية المتصرف في المصير . . ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحي - سبحانه - ووحدة الوحي . ووحدة العقيدة . ووحدة المنهج والطريق . وأخيراً وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة .
ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزاً واضحاً ، بشتى معانيه وشتى ظلاله وشتى إيحاءاته ، من وراء موضوعات السورة جميعاً . . ونضرب بعض الأمثلة من السورة إجمالاً ، قبل أن نأخذ في التفصيل :
تبدأ بالأحرف المقطعة : حا . ميم . عين . سين . قاف . . يليها : ( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) . . مقرراً وحدة مصدر الوحي في الأولين والآخرين : ( إليك وإلى الذين من قبلك ) . .
ثم يستطرد السياق في صفة الله العزيز الحكيم : ( له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم ) . . مقرراً وحدانية المالك لما في السماوات والأرض واستعلاءه وعظمته على وجه الانفراد .
ثم يستطرد استطراداً آخر في وصف حال الكون تجاه قضية الإيمان بالمالك الواحد ، وتجاه الشرك الذي يشذ به بعض الناس : ( تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن ، والملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لمن في الأرض ، ألا إن الله هو الغفور الرحيم ، والذين اتخذوا من دونه أولياء ، الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل ) . . فإذا الكون كله مشغول بقضية الإيمان والشرك حتى إن السماوات ليكدن يتفطرن من شذوذ بعض أهل الأرض ، بينما الملائكة يستغفرون لمن في الأرض جميعاً من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين !
وبعد هذه الجولة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى : ( وكذلك أوحينا إليك ، قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها ، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير ) . .
ثم يستطرد مع ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) . . فيقرر أن لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة . ولكن مشيئته اقتضت - بما له من علم وحكمة - أن يدخل من يشاء في رحمته ( والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ) . . ويقرر أن الله وحده هو الولي ( وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ) . .
ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، حقيقة الوحي والرسالة ، فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو الله الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلاف : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت ، وإليه أنيب ) . .
ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق ، وتفرد ذاته . ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض ، وفي بسط الرزق وقبضه . وفي علمه بكل شيء : ( فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ، ومن الأنعام أزواجاً ، يذرؤكم فيه ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه بكل شيء عليم ) . .
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب . وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب . فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب . . . الخ . .
وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة ؛ محوطة بمثل هذا الجو ، وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى ، المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي .
وهذا النسق واضح وضوحا كاملاً في هذا الدرس الأول من السورة . فالقارئ يلتقي بعد كل بضع آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها .
فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة ، فيبدأ باستعراض بعض آيات الله في بسط الرزق وقبضه وفي تنزيل الغيث برحمته( وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام . ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم . فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب : ( يقولون هل إلى مرد من سبيل ، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي ) . . واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين :
( وقال الذين آمنوا : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ) . . وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان : ( استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ، ما لكم من ملجأ يومئذ ، وما لكم من نكير ) . .
ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة . حقيقة الوحي والرسالة . في جانب من جوانبها : ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ . . . ) .
ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة ، مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة ، حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ، إنه عليّ حكيم . وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ؛ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) . .
وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع .
هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة ، ورسولها ، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم .
وتبدأ أول إشارة مع مطلع السورة( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) . . لتقرر أن الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل ، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم .
وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل : ( وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها ) . . لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد .
وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) . .
وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع ، مخالفاً لهذه التوصية ، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم . وقع بغيا وظلما وحسدا : ( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) . .
ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا : ( وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ) . .
وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب ، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم . . فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها . والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة .
ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها [ صلى الله عليه وسلم ] لهذه القيادة : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم . وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ، وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم . . . الخ . . ومن ثم تجيء صفة الجماعة المؤمنة المميزة لها طبيعية في سياق هذه السورة - في الدرس الثاني - بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية على ذلك النهج الثابت القويم .
وعلى ضوء هذه الحقيقة يصبح سياق السورة وموضوعها الرئيسي والموضوعات الأخرى فيه واضحة القصد والاتجاه . وتتبع هذا السياق بالتفصيل يزيد هذا الأمر وضوحا . .
( حم . عسق . كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم . له ما في السماوات وما في الأرض ، وهو العلي العظيم . تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن ، والملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لمن في الأرض . ألا إن الله هو الغفور الرحيم . والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل ) . .
سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور بما فيه الكفاية . وهي تذكر هنا في مطلع السورة ، ويليها قوله تعالى :
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة . وقد روى ابن جرير هاهنا أثرا غريبا عجيبا منكرا ، فقال : حدثنا أحمد بن زُهَير ، حدثنا عبد الوهاب بن نَجْدَةَ الحَوْطي ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، عن أرطاة بن المنذر{[25757]} قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له - وعنده حُذيفة بن اليمان - : أخبرني عن تفسير قول الله : { حم عسق } قال : فأطرق ثم أعرض عنه ، ثم كرر مقالته فأعرض عنه ، فلم يجبه بشيء وكره مقالته ، ثم كررها الثالثة فلم يُحِرْ إليه شيئا . فقال حذيفة{[25758]} : أنا أنبئك بها ، قد عرفت لم كرهها ؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له " عبد الإله " - أو : عبد الله - ينزل على نهر من أنهار المشرق تُبْنَى عليه مدينتان{[25759]} ، يشق النهر بينهما شقا ، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم ، بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت ، كأنها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها متعجبة : كيف أفلتت ؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك ، حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا ، فذلك قوله : { حم عسق } يعني : عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حُمّ : { حم } عين : يعني عدلا منه ، سين : يعني سيكون ، ق : يعني واقع بهاتين المدينتين{[25760]} .
وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس ، وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولكن إسناده ضعيف جدا ومنقطع ، فإنه قال :
حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم ، حدثنا أبو عبد الملك الحسن بن يحيى الخُشَني الدمشقي ، عن أبي معاوية قال : صعد عمر بن الخطاب المنبر فقال : أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر { حم عسق } ؟ فوثب ابن عباس فقال : أنا : قال : " { حم } اسم من أسماء الله تعالى " قال : فعين ؟ قال : " عاين المولون عذاب يوم بدر " قال : فسين ؟ قال : " سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " قال : فقاف ؟ فسكت فقام أبو ذر ، ففسر كما قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وقال : قاف : قارعة من السماء تغشى الناس {[25761]} .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشورى . هذه السورة مكية بإجماع من أكثر المفسرين{[1]} وقال قتادة فيها مدني [ قوله تعالى : ]{[2]} ' ذلك الذي يبشر الله عباده ' الشورى23 إلى ' الصدور '{[3]} الشورى 24 وقوله ' والذين إذا أصابهم البغي ' الشورى39 إلى قوله ' من سبيل '{[4]} الشورى 41 وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي إن ' حم عسق ' هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله تعالى المنزلة على كل نبي أنزل عليه الكتاب ولذلك قال تعالى ' كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك '
فصلت : { حم } من : { عسق } ، ولم يفعل ذلك ب { كهيعص } [ مريم : 1 ] لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها .
وقرأ الجمهور : «حم عسق » . وقرأ ابن مسعود وابن عباس : «حم سق » بسقوط عين ، والأقوال في هذه كالأقوال في أوائل السور . وروى حذيفة في هذا حديثاً مضمنه : أنه سيكون في هذه الأمة مدينتان يشقهما نهر بالمشرق ، تهلك إحداهما ليلاً ثم تصبح الأخرى سالمة ، فيجتمع فيها جبابرة المدينتين متعجبين من سلامتها ، فتهلك من الليلة القابلة ، وأن { حم } معناه : حم هذه الأمر . وعين : معناه عدلاً من الله . وسين : سيكون ذلك . وقاف : معناه يقع ذلك بهم{[10105]} . وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يستفيد علم الفتن والحروب من هذه الأحرف التي في أوائل السور .