{ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، أي : يدعو الناس إليه ، ويرغبهم فيه ، في أصوله وفروعه .
{ فآمنا } أي : أجبناه مبادرة ، وسارعنا إليه ، وفي هذا إخبار منهم بمنة الله عليهم ، وتبجح بنعمته ، وتوسل إليه بذلك ، أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ، والذي من عليهم بالإيمان ، سيمن عليهم بالأمان التام .
{ وتوفنا مع الأبرار } يتضمن هذا الدعاء التوفيق لفعل الخير ، وترك الشر ، الذي به يكون العبد من الأبرار ، والاستمرار عليه ، والثبات إلى الممات .
ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل :
( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان : أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ) . .
فهي قلوب مفتوحة ؛ ما إن تتلقى حتى تستجيب . وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة ، فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها ، فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات ، والوفاة مع الأبرار .
ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها ، في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية ، في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة . المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان ، مع أعداء الله وأعداء الإيمان . . والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال .
{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ } أي : داعيا يدعو إلى الإيمان ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم { أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي يقول : { آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي : فاستجبنا له واتبعناه { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي : بإيماننا واتباعنا نبيك فاغفر لنا ذنوبنا ، أي : استرها { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } أي : فيما بيننا وبينك { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ } أي : ألحقنا بالصالحين .
{ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه ، وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه ، والمراد به الرسول عليه الصلاة والسلام وقيل القرآن ، والنداء والدعاء ونحوهما يعدى بإلى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص . { أن آمنوا بربكم فآمنا } أي بأن آمنوا فامتثلنا . { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } كبائرنا فإنها ذات تبعة . { وكفر عنا سيئاتنا } صغائرنا فإنها مستقبحة ، ولكن مكفرة عن مجتنب الكبائر . { وتوفنا مع الأبرار } مخصوصين بصحبتهم معدودين في زمرتهم ، وفيه تنبيه على أنهم محبون لقاء الله ، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه . والأبرار جمع بر أو بار كأرباب وأصحاب .
هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون : { ربنا } قال أبو الدرداء : يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون : «ربنا ربنا » حتى استجيب لهم{[3797]} ، واختلف المتأولون في المنادي ، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما : المنادي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال محمد بن كعب القرظي : المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه ، ولما كانت { ينادي } بمنزلة يدعو ، حسن وصولها باللام بمعنى «إلى الإيمان » ، وقوله : { أن آمنوا } «أن » مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، وغفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض ، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر ، وإزالة حكم الذنب بعد حصوله ، و { الأبرار } جمع بر ، أصله برر على وزن فعل ، أدغمت الراء في الراء ، وقيل : هو جمع بار كصاحب وأصحاب ، والمعنى : توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم .
قوله تعالى : { ربنا إننا سمعنا منادياً } أرادوا به النبي محمداً صلى الله عليه وسلم والمنادي ، الذي يرفع صوته بالكلام . والنداء : رفع الصوت بالكلام رفعاً قوياً لأجل الإسماع وهو مشتقّ من النداء بكسر النون وبضمّها وهو الصوت المرتفع . يقال : هو أندى صوتاً أي أرفعُ ، فأصل النداء الجهر بالصوت والصياح به ، ومنه سمّي دعاء الشخص شخصاً ليقبل إليه نداء ، لأنّ من شأنه أن يرفع الصوت به ؛ ولذلك جعلوا له حروفاً ممدودة مثل ( يا ) و ( آ ) و ( أيا ) و ( هيا ) . ومنه سمّي الأذان نداء ، وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت ، ويطلق النداء على طلب الإقبال بالذات أو بالفَهم بحروف معلومة كقوله تعالى : { وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } [ فصلت : 104 ، 105 ] ويجوز أن يكون هو المراد هنا لأنّ النبي يدعو الناس بنحو : يأيّها الناس ويا بَني فلان ويا أمّة محمد ونحو ذلك ، وسيأتي تفسير معاني النداء عند قوله تعالى : { ونودوا أن تلكم الجنة } في سورة [ الأعراف : 43 ] . واللام لام العلّة ، أي لأجل الإيمان بالله .
و ( أن ) في { أن آمنوا } تفسيرية لما في فعل ( يُنادي ) من معنى القول دون حروفه .
وجاءوا بفاء التعقيب في ( فآمنّا ) : للدلالة على المبادرة والسبق إلى الإيمان ، وذلك دليل سلامة فطرتهم من الخطأ والمكابرة ، وقد توسّموا أن تكون مُبادرتهم لإجابة دعوة الإسلام مشكورة عند الله تعالى ، فلذلك فرّعوا عليه قولهم : { فاغفر لنا ذنوبنا } لأنّهم لمّا بذلوا كلّ ما في وسعهم من اتّباع الدين كانوا حقيقين بترجّي المغفرة .
والغَفْر والتكفير متقاربان في المادة المشتقيْن منها إلاّ أنّه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب والتكفير في تعويض الذنب بعوض ، فكأنّ العوض كفّر الذنب أي ستره ، ومنه سمّيت كفّارة الإفطار في رمضان . وكفّارة الحنث في اليمين إلاّ أنهم أرادوا بالذنوب ما كان قاصراً على ذواتهم ، ولذلك طلبوا مغفرته ، وأرادوا من السيّئات ما كان فيه حقّ الناس ، فلذلك سألوا تكفيرها عنهم .
وقيل هو مجرّد تأكيد ، وهو حسن ، وقيل أرادوا من الذنوب الكبائر ومن السيّئات الصغائر لأنّ اجتناب الكبائر يكفّر الصغائر ، بناء على أنّ الذنب أدلّ على الإثم من السيئة .
وسألوا الوفاة مع الأبرار ، أي أن يموتوا على حالة البِرّ ، بأن يلازمهم البرّ إلى الممات وأن لا يرتدّوا على أدبارهم ، فإذا ماتوا كذلك ماتوا من جملة الأبرار . فالمعية هنا معية اعتبارية ، وهي المشاركة في الحالة الكاملة ، والمعية مع الأبرار أبلغ في الاتّصاف بالدلالة ، لأنّه برّ يرجى دوامه وتزايدُه لِكون صاحبه ضمن جمع يزيدونه إقبالاً على البرّ بلسان المقال ولسان الحال .