فلما أغرقهم الله ونجى نوحا ومن معه { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ } الذي خرج منك ، والذي نزل إليك ، أي : ابلعي الماء الذي على وجهك { وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي } فامتثلتا لأمر الله ، فابتلعت الأرض ماءها ، وأقلعت السماء ، فنضب الماء من الأرض ، { وَقُضِيَ الْأَمْرُ } بهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين .
{ وَاسْتَوَتْ } السفينة { عَلَى الْجُودِيِّ } أي : أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل .
{ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : أتبعوا بعد هلاكهم لعنة وبعدا ، وسحقا لا يزال معهم .
وتهدأ العاصفة ، ويخيم السكون ، ويقضى الأمر ، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في النفس والأذن :
( وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي ، وغيض الماء ، وقضي الأمر ، واستوت على الجودي ، وقيل بعدا للقوم الظالمين ) . .
ويوجه الخطاب إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل ، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض ، وتكف السماء :
( وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ) .
ابتلعته الأرض في جوفها وغار من سطحها .
ورست رسو استقرار على جبل الجودي . .
( وقيل بعدا للقوم الظالمين ) . .
وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير . . ( قيل )على صيغة المجهول فلا يذكر من قال ، من قبيل لف موضوعهم ومواراته :
( وقيل بعدا للقوم الظالمين ) . .
بعدا لهم من الحياة فقد ذهبوا ، وبعدا لهم من رحمة الله فقد لعنوا ، وبعدا لهم من الذاكرة فقد انتهوا . . وما عادوا يستحقون ذكرا ولا ذكرى !
يخبر تعالى أنه لما غرق{[14605]} أهل الأرض إلا أصحاب السفينة ، أمر{[14606]} الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها ، وأمر السماء أن تُقلعَ عن المطر ، { وَغِيضَ الْمَاءُ } أي : شرع في النقص ، { وَقُضِيَ الأمْرُ } أي : فُرغَ من أهل الأرض قاطبة ، ممن كفر بالله ، لم يبق منهم دَيّار ، { وَاسْتَوَتْ } السفينة بمن فيها { عَلَى الْجُودِيِّ } قال مجاهد : وهو جبل بالجزيرة ، تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت ، وتواضع هو لله عز وجل ، فلم يغرق ، وأرست عليه سفينة نوح عليه السلام .
وقال قتادة : استوت عليه شهرا حتى نزلوا منها ، قال قتادة : قد أبقى{[14607]} الله سفينة نوح ، عليه السلام ، على الجُودي من أرض الجزيرة عِبرة وآية حتى رآها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة قد
كانت بعدها فهلكت ، وصارت رمادًا{[14608]} .
وقال الضحاك : الجُوديّ : جبل بالموصل : وقال بعضهم : هو الطور .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، حدثنا محمد بن عبيد ، عن توبة{[14609]} بن سالم قال : رأيت زِرّ بن حُبَيش يصلي في الزاوية حين يُدخل من أبواب كِندة على يمينك فسألته إنك لكثير{[14610]} الصلاة هاهنا يوم الجمعة : ! قال : بلغني أن سفينة نوح أرْسَتْ من هاهنا .
وقال عِلْباء بن أحمد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم ، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما ، وإن الله وجّه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما ، ثم وجهها الله إلى الجُودِيّ فاستقرت عليه ، فبعث نوح الغرابَ ليأتيه بخبر الأرض ، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ، ولطخت رجليها بالطين ، فعرف نوح ، عليه السلام ، أن الماء قد نضب ، فهبط إلى أسفل الجُودِيّ ، فابتنى قرية وسماها ثمانين ، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها اللسان{[14611]} العربي . فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، وكان نوح عليه السلام يُعبّر عنهم .
وقال كعب الأحبار : إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على الجوديّ .
وقال قتادة وغيره : ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين واستقرت بهم على الجودي شهرًا ، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم . وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه ابن جرير{[14612]} وأنهم صاموا يومهم ذاك{[14613]} ، فالله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو جعفر ، حدثنا عبد الصمد بن حَبِيب الأزدي ، عن أبيه حبيب بن عبد الله ، عن شُبَيل ، عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود ، وقد صاموا يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا الصوم ؟ قالوا : هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون ، وهذا يوم استوت{[14614]} فيه السفينة على الجُودِيّ ، فصامه{[14615]} نوح وموسى ، عليهما السلام ، شكرًا لله عز وجل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أحق بموسى ، وأحق بصوم هذا اليوم " . فصام ، وقال لأصحابه : " من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه ، ومن كان أصاب من غَذاء أهله ، فليتم بقية يومه " {[14616]} وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه ، ولبعضه شاهدٌ في الصحيح{[14617]} .
وقوله : { وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : هلاكًا وخسارًا{[14618]} لهم وبعدا{[14619]} من رحمة الله ، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم ، فلم يبق لهم بقية .
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير والحبر أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما{[14620]} من حديث موسى بن يعقوب{[14621]} الزمعي ، عن قائد - مولى عبيد الله بن أبي رافع - أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو رحم الله من قوم نوح أحدًا لرحم أم الصبي " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان نوح ، عليه السلام ، مكث في قومه ألف سنة [ إلا خمسين عاما ]{[14622]} يعني وغرس مائة سنة الشجر ، فعظمت وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ، ثم جعلها سفينة ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون : تعمل{[14623]} سفينة في البَرّ ، فكيف تجري ؟ قال : سوف تعلمون . فلما فرغ ونَبَع الماء ، وصار في السكك خشِيت أمّ الصبي عليه ، وكانت تحبه حبا شديدًا ، فخرجت إلى الجبل ، حتى بلغت ثلثه{[14624]} فلما بلغها الماء [ ارتفعت حتى بلغت ثلثيه ، فلما بلغها الماء ]{[14625]} خرجت به حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ رقبتها رفعته بيديها فغرقا فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي " {[14626]} .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وقد روي عن كعب الأحبار ، ومجاهد بن جبر قصةُ هذا الصبي وأمه بنحو من هذا .
{ وقيل يا أرض ابلعِي ماءك ويا سماء أقلِعي } نوديا بما ينادى به أولو العلم وأمرا بما يؤمرون به ، تمثيلا لكمال قدرته وانقيادهما لما يشاء تكونيه فيهما بالأمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه المبادر إلى امتثال أمره ، مهابة من عظمته وخشية من أليم عقابه ، والبلع النشف والإقلاع والإمساك . { وغيض الماء } نقص . وقُضي الأمر } وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين . { واستوت } واستقرت السفينة . { على الجودي } جبل بالموصل وقيل بالشام وقيل بآمل . روي أنه ركب السفينة عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار ذلك سنة . { وقيل بُعداً للقوم الظالمين } هلاكا لهم يقال بعد بعداً وبعداً إذا أبعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ، والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال ، وفي إيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل ، وأنه متعين في نفسه مستغن عن ذكره ، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم بأن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار .