ف { قَالَ } الله له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } الذين وعدتك بإنجائهم { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } أي : هذا الدعاء الذي دعوت{[430]} به ، لنجاة كافر ، لا يؤمن بالله ولا رسوله .
{ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : ما لا تعلم عاقبته ، ومآله ، وهل يكون خيرا ، أو غير خير .
{ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي : أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين ، وتنجو به من صفات الجاهلين .
وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها . فالأهل - عند الله وفي دينه وميزانه - ليسوا قرابة الدم ، إنما هم قرابة العقيدة . وهذا الولد لم يكن مؤمنا ، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن . . جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد ؛ وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد :
( قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) . .
إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين . حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا . عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد مالا يربطه النسب والقرابة :
( إنه ليس من أهلك . إنه عمل غير صالح ) . .
فهو منبت منك وأنت منبت منه ، ولو كان ابنك من صلبك ، فالعروة الأولى مقطوعة ، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة .
ولأن نوحا دعا دعاء من يستنجز وعدا لا يراه قد تحقق . . كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد :
( فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) . .
إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ، أو حقيقة وعد الله وتأويله ، فوعد الله قد أول وتحقق ، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق .
{ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الذين وعدت إنجاءهم{[14627]} ؛ لأني{[14628]} إنما وعدتك{[14629]} بنجاة من آمن من أهلك ؛ ولهذا قال : { وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } [ هود : 40 ] ، فكان هذا الولد ممن سَبَق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبيّ الله نوحا ، عليه السلام .
وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن زِنْية{[14630]} ، ويحكى القول بأنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد ، والحسن ، وعُبَيد بن عُمَير ، وأبي جعفر الباقر ، وابن جُرَيج ، واحتج بعضهم بقوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } وبقوله : { فَخَانَتَاهمُا } [ التحريم : 10 ] ، فممن قاله الحسن البصري ، احتج بهاتين الآيتين . وبعضهم يقول : كان ابن امرأته . وهذا يحتمل{[14631]} أن يكون أراد ما أراد الحسن ، أو أراد أنه نسب إليه مجازا ، لكونه كان ربيبًا عنده ، فالله أعلم .
وقال ابن عباس ، وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبي قط ، قال : وقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الذين وعدتك نجاتهم{[14632]} .
وقولُ ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه ، فإن الله سبحانه{[14633]} أغير من أن يمكن{[14634]} امرأة نبي من الفاحشة{[14635]} ولهذا غضب الله على الذين رمَوا أم المؤمنين عائشة بنتَ الصدّيق زوج النبي صلى الله عليه وسلم{[14636]} ، وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إلى قوله { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [ النور : 11 - 15 ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة وغيره ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية . قال عكرمة : في بعض الحروف : " إنه عَمِل عملا غير صالح " ، والخيانة تكون على غير باب .
وقد ورد في الحديث أن رسول الله قرأ بذلك ، فقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد قالت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : " إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِح " ، وسمعته يقول{[14637]} : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } ولا يبالي { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ]{[14638]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا وَكِيع ، حدثنا هارون النحوي ، عن ثابت البُنَاني ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أم سلمة أن رسول الله قرأها : " إنه عَمِل غَيْرَ صَالِح " {[14639]} أعاده أحمد أيضا في مسنده{[14640]} .
أم سلمة هي{[14641]} أم المؤمنين والظاهر - والله أعلم - أنها أسماء{[14642]} بنت يزيد ، فإنها تكنى بذلك أيضا{[14643]} .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سليمان بن قَتَّة قال : سمعت ابن عباس - سُئِل - وهو إلى جَنْب الكعبة - عن قول الله : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] ، قال : أما وإنه لم يكن بالزنا ، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل على الأضياف . ثم قرأ : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } قال ابن عيينة : وأخبرني عمار الدُهْبِي{[14644]} أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال : كان ابن نوح ، إن الله لا يكذب ! قال تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } قال : وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبي قط{[14645]} .
وكذا روي عن مجاهد أيضًا ، وعكرمة ، والضحاك ، وميمون بن مِهْران وثابت بن الحجاج ، وهو اختيار أبي جعفر بن جرير ، وهو الصواب [ الذي ]{[14646]} لا شك فيه .
{ قال يا نوح انه ليس من أهلك } لقطع الولاية بين المؤمن والكافر وأشار إليه بقوله : { إنه عمل غير صالح } فإنه تعليل لنفي كونه من أهله ، وأصله إنه ذو عمل فاسد فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادْكّرتْ *** فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
ثم بدل الفاسد بغير الصالح تصريحا بالمناقضة بين وصفيها وانتفاء ما أوجب النجاة لمن نجا من أهله عنه . وقرأ الكسائي ويعقوب { إنه عمل غير صالح } أي عمل عملا غير صالح . { فلا تسألن ما ليس لك به علم } ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك ، وإنما سمي نداءه سؤالا لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه في شأن ولده أو استفسار المانع للإنجاز في حقه ، وإنما سماه جهلا وزجر عنه بقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال وأغناه عن السؤال ، لكن أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه عليه الأمر . وقرأ ابن كثير بفتح اللام والنون الشديدة وكذلك نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة وعن نافع برواية رويس إثباتها في الوصل .