ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى ، انحط من مرتبته العالية إلى أسفل السافلين .
فقال اللّه له : { فَاهْبِطْ مِنْهَا } أي : من الجنة { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } لأنها دار الطيبين الطاهرين ، فلا تليق بأخبث خلق اللّه وأشرهم .
{ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } أي : المهانين الأذلين ، جزاء على كبره وعجبه بالإهانة والذل .
فكان الجزاء العاجل الذي تلقاه لتوه :
( قال : فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين ) . .
إن علمه بالله لم ينفعه ، واعتقاده بوجوده وصفاته لم ينفعه . . وكذلك كل من يتلقى أمر الله ؛ ثم يجعل لنفسه نظراً في هذا الأمر يترتب عليه قبوله أو رفضه ؛ وحاكمية في قضية قضى الله فيها من قبل ؛ يرد بها قضاء الله في هذه القضية . . إنه الكفر إذن مع العلم ومع الاعتقاد . فإبليس لم يكن ينقصه العلم ؛ ولم يكن ينقصه الاعتقاد !
لقد طرد من الجنة ، وطرد من رحمة الله ، وحقت عليه اللعنة ، وكتب عليه الصغار .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قال الله لإبليس عند ذلك : فاهْبِطْ مِنْها وقد بيّنا معنى الهبوط فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته . فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِيها يقول تعالى ذكره : فقال الله له : اهبط منها يعني : من الجنة فما يكون لك ، يقول : فليس لك أن تستكبر في الجنة عن طاعتي وأمري .
فإن قال قائل : هل لأحد أن يتكبر في الجنة ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ ، وإنما معنى ذلك : فاهبط من الجنة ، فإنه لا يسكن الجنة متكبر عن أمر الله ، فأما غيرها فإنه قد يسكنها المستكبر عن أمر الله والمستكين لطاعته .
وقوله : فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ يقول : فاخرج من الجنة إنك من الذين قد نالهم من الله الصغار والذلّ والمهانة ، يقال منه : صَغِرَ يَصْغَرا وصَغْرانا وقد قيل : صَغُر يَصْغُر صَغَارا وصَغَارَةً . وبنحو الذي قلنا قال السديّ .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ والصغار : هو الذلّ .
وقوله تعالى : { فاهبط منها } الآية ، أمر من الله عز وجل لإبليس بالهبوط في وقت عصيانه في السجود ، فيظهر من هذا أنه إنما ُأهبط أولاً وُأخرج من الجنة وصار في السماء ، لأن الأخبار تظاهرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم ُأمر آخراً بالهبوط من السماء مع آدم وحواء والحية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله بحسب ألفاظ القصة والله أعلم .
وقوله { فما يكون لك } معناه فما يصح لك ولا يتم ، وليس يقتضي هذا اللفظ أن التكبر له في غيرها على ما ذهب إليه بعض المعترضين ، تضمنت الآية أن الله أخبر إبليس أن الكبرياء لا يتم له ولا يصح في الجنة مع نهيه له ولغيره عن الكبرياء في كل موضع وأما لو أخذنا { فما يكون } على معنى فما يحسن وما يجمل كما تقول للرجل : ما كان لك أَّلا تصل قرابتك لفتر معنى الإغلاظ على إبليس ، وقوله : { إنك من الصاغرين } حكم عليه بضد المعصية التي عصى بها وهي الكبرياء فعوقب بالحمل عليه بخلاف شهوته وأمله ، والصغار الذل ، قاله السدي .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...قال الله لإبليس عند ذلك:"فاهْبِطْ مِنْها" وقد بيّنا معنى الهبوط فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. "فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِيها "يقول تعالى ذكره: فقال الله له: اهبط منها يعني: من الجنة، "فما يكون لك"، يقول: فليس لك أن تستكبر في الجنة عن طاعتي وأمري.
فإن قال قائل: هل لأحد أن يتكبر في الجنة؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: فاهبط من الجنة، فإنه لا يسكن الجنة متكبر عن أمر الله، فأما غيرها فإنه قد يسكنها المستكبر عن أمر الله والمستكين لطاعته.
وقوله: "فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ" يقول: فاخرج من الجنة إنك من الذين قد نالهم من الله الصغار والذلّ والمهانة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال فاهبط منها} يعني من السماء؛ لأنه، لعنه الله، كان في السماء، فأمر بالهبوط منها لما جعل السماء معدنا ومكانا للخاضعين المتواضعين، فأمر بالهبوط منها إلى مكان؛ جعل ذلك المكان مكان الخاضعين والمتكبرين جميعا، وهي الأرض؛ إذ الأرض معدن الفريقين جميعا.
{فاخرج إنك من الصاغرين} وجه صغاره أنه ما من أحد ذكره إلا وقد لعنه، ودعا عليه باللعن، فذلك صغاره. وأمكن أن يكون صغاره لما صيّره بحال يغيب عن الأبصار، ولا يقع عليه البصر، أو لما طرده عن رحمة الله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أنه أهبط من المنزلة الرفيعة التي استحقها بطاعة الله إلى المنزلة الدِنيةِ التي استوجبها لمعصيته،
{إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: بالمعصية في الدنيا لأن العاصي ذليل عند من عصاه. والثاني: بالعذاب في الآخرة لأن المعذب ذليل بالعذاب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الهبوط والنزول واحد، وفرق بينهما بأن النزول يقتضي تنزله إلى جهة السفل بمنزلة بعد منزلة، وليس كذلك الهبوط، لأنه كالانحدار في المرور إلى جهة السفل، وكأن الانحدار دفعة واحدة،...
وقوله "فما يكون لك أن تتكبر فيها "معناه ليس لك أن تتكبر فيها، والتكبر: إظهار كبر النفس على جميع الاشياء، فهو في صفة العباد ذم، وفي صفة الله مدح، كما قال تعالى "الجبار المتكبر"، فالجبار القاهر لجميع الاشياء، والمتكبر: الدال بذاته على أنه أكبر من جميع الاشياء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}: وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبِس الصغار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {فما يكون لك} معناه: فما يصح لك ولا يتم، وليس يقتضي هذا اللفظ أن التكبر له في غيرها على ما ذهب إليه بعض المعترضين، تضمنت الآية أن الله أخبر إبليس أن الكبرياء لا يتم له ولا يصح في الجنة مع نهيه له ولغيره عن الكبرياء في كل موضع...
وقوله: {إنك من الصاغرين} حكم عليه بضد المعصية التي عصى بها وهي الكبرياء فعوقب بالحمل عليه بخلاف شهوته وأمله، والصغار الذل، قاله السدي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا أمراً ظاهراً، وكان مجرد التكبر على الله كفراً على أيّ وجه كان، أعرض عن جوابه بغير الطرد الذي معناه نزوله المنزلة الذي موضع ما طلب من علوها فاستأنف قوله {قال} مسبباً عن إبائه قوله: {فاهبط منها} مضمراً للدار التي كان فيها وهي الجنة. فإنها لا تقبل عاصياً، وعبر بالهبوط الذي يلزم منه سقوط المنزلة دون الخروج، لأن مقصود هذه السورة الإنذار وهو أدل عليه، وسبب عن أمره بالهبوط الذي معناه النزول والحدور والانحطاط والنقصان والوقوع في شيء منه... {فما يكون} أي يصح ويتوجه بوجه من الوجوه {لك أن تتكبر} أي تتعمد الكبر وهو الرفعة في الشرف والعظمة والتجبر، ولا مفهوم لقوله {لك} ولا لقوله {فيها} لوجود الصرائح بالمنع من الكبر مطلقاً {إنه لا يحب المستكبرين}، {كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر}، {قال الذين استكبروا إنا كل فيها}، وإنما قيد بذلك تهويلاً للأمر، فكأنه قيل: لا ينبغي التكبر إلا لنا، وكلما قرب الشخص من محل القدس الذي هو مكان المطيعين المتواضعين، جل تحريم الكبر عليه "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر "رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} الهبوط الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، أو من مكانة ومنزلة إلى ما دونها، فهو حسي ومعنوي، والفاء لترتيب هذا الجزاء على ما ذكر من الذنب قبله...
{فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي فما ينبغي لك وليس مما تعطاه من التصرف أن تتكبر في هذا المكان المعد للكرامة، أو في هذه المكانة التي هي منزلة الملائكة لأنها مكانة الامتثال والطاعة. والكبر اسم للتكبر وهو مصدر تكبر أي تكلف أن يجعل نفسه أكبر مما عليه أو أكبر ممن هي في ذاتها أصغر منه، وقد ورد في الحديث الصحيح تفسير الكبر بأنه غمط الحق، أو بطر الحق واحتقار الناس. وهو تفسير له بمظهره العملي الذي يترتب عليه الجزاء وهو أن لا يذعن للحق إذ ظهر له بل يدفعه أو ينكره تجبرا وترفعا، وأن يحتقر غيره بقول أو عمل يدل على عدم الاعتراف له بمزيته وفضله، أو بتنقيص تلك المزية بادعاء أن ما دونها هو فوقها سواء ادعى ذلك لنفسه فرفعها على غيرها بالباطل أو ادعاه لغيره بأن يفضل بعض الناس على بعض بقصد احتقار المفضل عليه وتنقيص قدره.
{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين} هذا تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه. أي فاخرج من هذا المكان أو المكانة. وعلل ذلك بقوله على طريق الاستئناف البياني: {إنك من الصاغرين} أي أولي الذلة والصغار أظهر حقيقتك الامتحان والاختبار الذي يميز بين الأخيار والأشرار، بإظهاره لما كان كامنا في نفسك من عصيان الاستكبار. {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} (آل عمران 179) وقال بعضهم إنه تعالى جازاه بضد مراده إذ أراد أن يرفع نفسه عن منزلتها التي كانت فيها، فجوزي بهبوطها منها إلى ما دونها، كما ورد في بعض الأخبار من أن الله تعالى يحشر المتكبرين يوم القيامة بصورة حقيرة يطأهم فيها الناس بأرجلهم، كما أنه يبغضهم إلى الناس في الدنيا فيحتقرونهم ولو في أنفسهم وهذا التوجيه أليق بقول من جعل الأمر للتكليف...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن علمه بالله لم ينفعه، واعتقاده بوجوده وصفاته لم ينفعه.. وكذلك كل من يتلقى أمر الله؛ ثم يجعل لنفسه نظراً في هذا الأمر يترتب عليه قبوله أو رفضه؛ وحاكمية في قضية قضى الله فيها من قبل؛ يرد بها قضاء الله في هذه القضية.. إنه الكفر إذن مع العلم ومع الاعتقاد. فإبليس لم يكن ينقصه العلم؛ ولم يكن ينقصه الاعتقاد!
والهبوط يستدعي الانتقال من منزلة عالية إلى منزلة أقل... {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا}: وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلا لأن يكون في محضر الملائكة؛ فقد كان في محضر الملائكة؛ لأنه ألزم نفسه بالطاعة، وهو مخلوق على أن يكون مختارا أن يطيع أو أن يعصى، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلا لأن يكون في هذا المقام، وذلك أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ.. 13} [سورة الأعراف]: أي ينبغي لك أن تتكبر فيها.
إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على الآمر، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فما دمت أنت أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلا لها، فكأن العمل هو الذي أهّله أن يكون في العلو، فلما زايله وفارقه كان أهلا لأن يكون في الدنو، وهكذا لم يكن الأمر متعلقا بالذاتية، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في أنه من نار وآدم من طين؛ لأن المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل... إذن فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر: إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم، إنني أقدر بطلاقة قدرتي أن أجعل الأدنى يتحكم في الأعلى؛ لأنها إرادة من عَنْصر العناصر. {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ 13} (سورة الأعراف): وكلمة {فاهبط} تشير وتدل على أن الهبوط أمر معنوي، أي أنك لست أهلا لهذه المنزلة ولا لتلك المكانة. هذا ما تدل عليه كلمة {فاهبط}، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالخروج من المكان.
والصّغَار هو الذل والهوان؛ لأنه قابل الأمر باستكبار، فلابد أن يجازي بالصّغَار. وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده، والمعاملة بضد المقصد لون من التأديب والتهذيب والتعليم...