{ أُولَئِكَ } أي : الموصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } أي : على هدى عظيم ، لأن التنكير للتعظيم ، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة ، وهل الهداية [ الحقيقية ] إلا هدايتهم ، وما سواها [ مما خالفها ]{[36]} ، فهو ضلالة .
وأتى ب " على " في هذا الموضع ، الدالة على الاستعلاء ، وفي الضلالة يأتي ب " في " كما في قوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى ، مرتفع به ، وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر .
{ أُوْلََئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله : أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهِمْ فقال بعضهم : عَنَى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين ، أعني المؤمنين بالغيب من العرب والمؤمنين وبما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل ، وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه وأنهم هم المفلحون . ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما الذين يؤمنون بالغيب ، فهم المؤمنون من العرب ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك : المؤمنون من أهل الكتاب . ثم جمع الفريقين فقال : أُولَئِكَ على هدَىً مِنْ رَبّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
وقال بعضهم : بل عَنَى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب وهم الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد ، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل .
وقال آخرون : بل عَنَى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل إلى من قبله ، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وكانوا مؤمنين من قبلُ بسائر الأنبياء والكتب .
وعلى هذا التأويل الاَخر ، يحتمل أن يكون : الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ في محل خفض ، ومحل رفع فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين : أحدهما من قبل العطف على ما في يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ من ذكر «الذين » . والثاني : أن يكون خبر مبتدأ ، ويكون : أُولَئِكَ على هُدىً مِنْ رَبّهِمْ رافعها . وأما الخفض فعلى العطف على الْمُتّقِينَ . وإذا كانت معطوفة على «الذين » اتجه لها وجهان من المعنى ، أحدهما : أن تكون هي «والذين » الأولى من صفة المتقين ، وذلك على تأويل من رأى أن الاَيات الأربع بعد الم نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين . والوجه الثاني : أن تكون «الذين » الثانية معطوفة في الإعراب على «المتقين » بمعنى الخفض ، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول . وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الاَيتان الأوّلتان من المؤمنين بعد قوله الم غير الذين نزلت فيهم الاَيتان الاَخرتان اللتان تليان الأوّلتين . وقد يحتمل أن تكون «الذين » الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الاستئناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة . وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الاستئناف إذ كانت في مبتدأ آية وإن كانت من صفة المتقين . فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه ، والخفض من وجهين .
وأولى التأويلات عندي بقوله : أُولَئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبّهِمْ ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس ، وأن تكون «أولئك » إشارة إلى الفريقين ، أعني المتقين وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وتكون «أولئك » مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله : على هُدًى مِن رَبّهِمْ وأن تكون «الذين » الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام على ما قد بيناه .
وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ثم أثنى عليهم فلم يكن عزّ وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات ، كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال فيخص أحدهما بالجزاء دون الاَخر ويحرم الاَخر جزاء عمله ، فكذلك سبيل الثناء بالأعمال لأن الثناء أحد أقسام الجزاء . وأما معنى قوله : أُولَئِكَ على هُدًى مِنْ رَبّهِمْ فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أُولَئِكَ على هُدىً مِنْ رَبّهِمْ أي على نور من ربهم ، واستقامة على ما جاءهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
وتأويل قوله : وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أي أولئك هم المُنْجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنان ، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة . قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أي الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شرّ ما منه هربوا . ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح إدراك الطلبة والظفر بالحاجة ، قول لبيد بن ربيعة :
اعْقِلِي إنْ كُنْتِ لَمّا تَعْقِلِي*** ولَقَدْ أفْلَحَ مَنْ كانَ عَقَلْ
يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرا . ومنه قول الراجز :
عَدِمْتُ أُمّا وَلَدَتْ رَباحا *** جاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحا فِرْكَاحَا
تَحْسَبُ أنْ قَدْ وَلَدَتْ نَجاحا*** أشْهَدُ لاَ يَزِيدُهَا فَلاحا
يعني خيرا وقربا من حاجتها . والفلاح : مصدر من قولك : أفلح فلان يُفلح إفلاحا ، وفلاحا ، وفَلَحا . والفلاح أيضا البقاء ، ومنه قول لبيد :
نحُلّ بلادا كُلّها حُلّ قَبْلَنَا *** وَنَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عادٍ وحِمْيَرِ
يريد البقاء . ومنه أيضا قول عَبيد :
أفْلِحْ بما شِئْتَ فَقَدْ يَبْلُعُ بالضّ *** عْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ أَلارِيبُ
يريد : عش وابق بما شئت . وكذلك قول نابغة بني ذبيان :
وكُلّ فَتًى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌ *** وَإنْ أثْرَى وَإنْ لاقى فَلاحا
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 )
وقوله تعالى : { أولئك } إشارة إلى المذكورين ، و «أولاء » جمع «ذا » ، وهو مبني على الكسرة لأنه ضَعُفَ لإبهامه عن قوة الأسماء ، وكان أصل البناء السكون فحرك( {[175]} ) لالتقاء الساكنين ، والكاف للخطاب ، و «الهدى » هنا( {[176]} ) الإرشاد . و { أولئك } الثاني ابتداء ، و { المفلحون } خبره ، و { هم } فصل ، لأنه وقع بين معرفتين ويصح أن يكون { هم } ابتداء ، و { المفلحون } خبره ، والجملة خبر { أولئك } .
والفلح( {[177]} ) الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد( {[178]} ) : [ الرمل ] .
اعقلي إن كنت لمّا تعقلي . . . ولقد أفلح من كان عقلْ
وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء ، كقوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونرجو الفلاحَ بَعْدَ عادٍ وحمْيَرِ ( {[179]} )
لِكُلّ همٍّ من الهموم سَعَهْ . . . والصُّبْحُ والمسى لا فلاح معه( {[180]} )
والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية ، إذ هو رأس ذلك وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين .