{ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا } أي : يظنون أن هؤلاء الأحزاب ، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأصحابه ، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم ، فخاب ظنهم ، وبطل حسبانهم .
{ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ } أي : لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة ، ودَّ هؤلاء المنافقون ، أنهم ليسوا في المدينة ، ولا في القرب منها ، وأنهم مع الأعراب في البادية ، يستخبرون عن أخباركم ، ويسألون عن أنبائكم ، ماذا حصل عليكم ؟
فتبًا لهم ، وبعدًا ، فليسوا ممن يبالى{[697]} بحضورهم { وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا } فلا تبالوهم ، ولا تأسوا عليهم .
فأما يوم الأحزاب فيمضي النص في تصويرهم صورة مضحكة زرية :
( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ) . .
فهم ما يزالون يرتعشون ، ويتخاذلون ، ويخذلون ! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت ، وأنه قد ذهب الخوف ، وجاء الأمان !
( وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ) . .
يا للسخرية ! ويا للتصوير الزري ! ويا للصورة المضحكة ! وإن يأت الأحزاب يود هؤلاء الجبناء لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة يوما من الأيام . ويتمنون أن لو كانوا من أعراب البادية ، لا يشاركون أهل المدينة في حياة ولا في مصير . ولا يعلمون - حتى - ما يجري عند أهلها . إنما هم يجهلونه ، ويسألون عنه سؤال الغريب عن الغريب ! مبالغة في البعد والانفصال ، والنجاة من الأهوال !
يتمنون هذه الأمنيات المضحكة ، مع أنهم قاعدون ، بعيدون عن المعركة ، لا يتعرضون لها مباشرة ؛ إنما هو الخوف من بعيد ! والفزع والهلع من بعيد ! ( ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ) . .
وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة . صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة ؛ والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل . بنفس الملامح ، وذات السمات . . ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج ، والسخرية منه ، والابتعاد عنه ، وهو انه على الله وعلى الناس .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّواْ لَوْ أَنّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مّا قَاتَلُوَاْ إِلاّ قَلِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : يحسب هؤلاء المنافقون الأحزاب ، وهم قريش وغطفان . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان يَحْسَبُونَ الأحْزَابُ لَمْ يَذْهَبُوا قريش وغطفان .
وقوله : لَمْ يَذْهَبُوا يقول : لم ينصرفوا ، وإن كانوا قد انصرفوا جبنا وهَلعا منهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا قال : يحسبونهم قريبا .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ قَدْ ذَهَبُوا ، فإذَا وَجَدُوهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا وَدّوا لَوْ أنّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ » .
وقوله : وَإنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّوا لَوْ أنهُمْ بادُونَ فِي الأعْرابِ يقول تعالى ذكره : وإن يأت المؤمنين الأحزاب وهم الجماعة : واحدهم حزب يَوَدّوا يقول : يتمنوا من الخوف والجبن أنهم غيب عنكم في البادية مع الأعراب خوفا من القتل . وذلك أن قوله : لَوْ أنّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ تقول : قد بدا فلان إذا صار في البدو فهو يبدو ، وهو باد وأما الأعراب : فإنهم جمع أعرابيّ ، وواحد العرب عربيّ ، وإنما قيل أعرابيّ لأهل البدو ، فرقا بين أهل البوادي والأمصار ، فجعل الأعراب لأهل البادية ، والعرب لأهل المصر .
وقوله : يَسأَلُونَ عَنْ أنْبائِكُمْ يقول : يستخبر هؤلاء المنافقون أيها المؤمنون الناس عن أنبائكم ، يعني عن أخباركم بالبادية ، هل هلك محمد وأصحابه ؟ نقول : يتمنون أن يسمعوا أخباركم بهلاككم ، أن لا يشهدوا معكم مشاهدكم . وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إلاّ قَلِيلاً يقول تعالى ذكره للمؤمنين : ولو كانوا أيضا فيكم ما نفعوكم ، وما قاتلوا المشركين إلاّ قليلاً . يقول : إلاّ تعذيرا ، لأنهم لا يقاتلونهم حسبة ولا رجاء ثواب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله يَسألَونَ عَنْ أنْبائِكُمْ قال : أخباركم . وقرأت قرّاء الأمصار جميعا سوى عاصم الجحدري : يَسأَلُونَ عَنْ أنْبائِكُمْ بمعنى : يسألون من قدم عليهم من الناس عن أنباء عسكركم وأخباركم ، وذكر عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ ذلك : «يَسّاءَلونَ » بتشديد السين ، بمعنى : يتساءلون : أي يسأل بعضهم بعضا عن ذلك .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
{ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } أي هؤلاء لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا ففروا إلى داخل المدينة . { وإن يأت الأحزاب } كره ثانية . { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب } تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب . { يسألون } كل قادم من جانب المدينة . { عن أنبائكم } عما جرى عليكم . { ولو كانوا فيكم } هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال . { ما قاتلوا إلا قليلا } رياء وخوفا من التعبير .
الضمير في { يحسبون } للمنافقين ، والمعنى أنهم من الجزع والفزع بحيث رحل { الأحزاب } وهزمهم الله تعالى وهؤلاء يظنون أنها من الخدع وأنهم { لم يذهبوا } بل يريدون الكرة إلى غلب المدينة ، ثم أخبر تعالى عن معتقد هؤلاء المنافقين أن ودهم لو أتى الأحزاب وحاصروا المدينة أن يكونوا هم قد خرجوا إلى البادية في جملة { الأعراب } وهم أهل العمود والرحيل من قطر إلى قطر ، ومن كان من العرب مقيماً بأرض مستوطناً فلا يمسون أعراباً وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف «لو أنهم بُدّى في الأعراب » شديدة الدال منونة وهو جمع باد كغاز وغزى ، وروي عن ابن عباس «لو أنهم بدوا » ، وقرأ أهل مكة ونافع وابن كثير والحسن «يسألون » أي من ورد عليهم ، وقرأ أبو عمرو وعاصم{[9479]} والأعمش «يسلون » خفيفة بغير همز على نحو قوله { سل بني إسرائيل }{[9480]} [ البقرة : 211 ] وقرأ الجحدري وقتادة والحسن بخلاف عنه «يساءلون » أي يسأل بعضهم بعضاً . قال{[9481]} الجحدري «يتساءلون » ، ثم سلى الله تعالى عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا لما أغنوا ولما { قاتلوا إلا قتالاً قليلاً } لا نفع له ، قال الثعلبي هو قليل من حيث هو رياء من غير حسبة ولو كان الله لكان كثيراً .
لما ذُكر حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض من فتنتهم في المسلمين وإذا هم حين مجيء جنود الأحزاب وحين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ثُني عنان الكلام الآن إلى حالهم حين أنعم الله على المسلمين بانكشاف جنود الأحزاب عنهم ، فأفاد بأن انكشاف الأحزاب حصل على حين غفلة من المنافقين فلذلك كانوا يشتدّون في ملام المسلمين ويسلِقُونَهم بألسنة حِدَادٍ على أن تَعرضوا للعدوّ الكثير ، وكان الله ساعتئذ قد هزم الأحزاب فانصرفوا وكفى الله المؤمنين شرهم ، وليس للمنافقين وساطة في ذلك . ولعلهم كانوا لا يودّون رجوع الأحزاب دون أن يأخذوا المدينة ، فتكون جملة { يحسبون } استئنافاً ابتدائياً مرتبطاً بقوله { اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً } [ الأحزاب : 9 ] الخ . . . جاء عوْداً على بدْءٍ بمناسبة ذكر أحوال المنافقين ، فإن قوله : { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم ، أي : وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون . ويجوز أن يكون المعنى : أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازاً بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة وكان المنافقون أخلاّء لليهود فكان سلقُهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفَّضوا من شدتهم على المسلمين ، فتكون جملة { يحسبون } حالاً من ضمير الرفع في { سلقوكم } [ الأحزاب : 19 ] أي : فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا .
وأما قوله { وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب } فهو وصف لِجبن المنافقين ، أي : لو جاء الأحزاب كَرَّة أخرى لأخذ المنافقون حيطتهم فخرجوا إلى البادية بين الأعراب القاطنين حول المدينة وهم غفار وأسلَمُ وغيرهم ، قال تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب } [ التوبة : 120 ] الآية .
والوُدّ هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للودّ .
والبادي : ساكن البادية . وتقدم عند قوله تعالى { سواءٌ العاكفُ فيه والبادِ } في سورة الحج ( 25 ) .
والأعراب : هم سكان البوادي بالأصالة ، أي : يودُّوا الالتحاق بمنازل الأعراب ما لم يعجزوا لما دل عليه قوله عقبه { ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً } ، أي : فلو لم يستطيعوا ذلك فكانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً .
و { لو } حرف يفيد التمني بعد فعل ودّ ونحوه . أنشد الجاحظ وعبد القاهر :
يَودُّون لو خاطوا عليك جلودهم *** ولا تَمنع الموت النفوسُ الشحائح
وتقدم عند قوله تعالى { يودّ أحدُهم لو يُعَمَّر ألف سنة } في سورة البقرة ( 96 ) .
والسؤال عن الأنباء لقصد التجسس على المسلمين للمشركين وليسرّهم ما عسى أن يلحق المسلمين من الهزيمة .
ومعنى { ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً } أنهم إذا فرض أن لا يتمكنوا من الخروج إلى البادية وبقُوا في المدينة مع المسلمين ما قاتلوا مع المسلمين إلا قتالاً قليلاً ، أي : ضعيفاً لا يُؤْبَه به ، وإنما هو تعلة ورياء ، وتقدم نظيره آنفاً .
والأنباء : جمع نبأ وهو : الخبر المهم ، وتقدم عند قوله تعالى { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } في سورة ( الأنعام 34 ) وقرأ الجمهور يسألون } بسكون السين فهمزة مضارع سأل . وقرأ رويس عن يعقوب { يَسَّاءلون } بفتح السين مشددة وألف بعدها الهمزة مضارع تساءل ، وأصله : يتساءلون أدغمت التاء في السين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المنافقين فقال عز وجل: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} وذلك أن الأحزاب الذي تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم، في الخندق فقذف الله عز وجل في قلبوهم الرعب، وأرسل عليهم ريحا وهي الصبا فجعلت تطفئ نيرانهم وتلقى أبنيتهم، وأنزل جنودا لم تروها من الملائكة فكبروا في عسكرهم فلما سمعوا التكبير، قذف الله تعالى الرعب في قلوبهم، وقالوا: قد بدأ محمد بالشر فانصرفوا إلى مكة راجعين عن الخندق والرعب الذي نزل بهم في الخندق.
{وإن يأت الأحزاب} وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال.
{يودوا} يعني يود المنافقون {لو أنهم بادون في الأعراب} ولم يشهدوا القتال.
{يسألون عن أنبائكم} يعني عن حديثكم وخبر ما فعل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {ولو كانوا فيكم} يشهدون القتال {ما قاتلوا} يعني المنافقين {إلا قليلا}: ما قاتلوا إلا رياء وسمعة من غير حسبة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يحسب هؤلاء المنافقون الأحزاب، وهم قريش وغطفان...
وقوله:"لَمْ يَذْهَبُوا" يقول: لم ينصرفوا، وإن كانوا قد انصرفوا جبنا وهَلعا منهم...
وقوله: "وَإنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّوا لَوْ أنهُمْ بادُونَ فِي الأعْرابِ "يقول تعالى ذكره: وإن يأت المؤمنين الأحزاب وهم الجماعة: واحدهم حزب "يَوَدّوا" يقول: يتمنوا من الخوف والجبن أنهم غيب عنكم في البادية مع الأعراب خوفا من القتل، وذلك أن قوله: "لَوْ أنّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ" تقول: قد بدا فلان إذا صار في البدو فهو يبدو، وهو باد، وأما الأعراب: فإنهم جمع أعرابيّ، وواحد العرب عربيّ، وإنما قيل أعرابيّ لأهل البدو، فرقا بين أهل البوادي والأمصار، فجعل الأعراب لأهل البادية، والعرب لأهل المصر.
وقوله: "يَسأَلُونَ عَنْ أنْبائِكُمْ" يقول: يستخبر هؤلاء المنافقون أيها المؤمنون الناس عن أنبائكم، يعني عن أخباركم بالبادية، هل هلك محمد وأصحابه؟ يقول: يتمنون أن يسمعوا أخباركم بهلاككم، أن لا يشهدوا معكم مشاهدكم. "وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إلاّ قَلِيلاً" يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ولو كانوا أيضا فيكم ما نفعوكم، وما قاتلوا المشركين "إلاّ قليلاً"، يقول: إلاّ تعذيرا، لأنهم لا يقاتلونهم حسبة ولا رجاء ثواب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هكذا كانت عادتهم، ثم ابتلاهم الله بما كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين، ويضمرون الخلاف لهم والعداوة بفضل فشل وجبن، وما لم يكن ذلك في غيرهم. ففي ذلك تحذير للمؤمنين وزجر عن مثل هذا الصنيع ومثل هذه المعاملة لئلا يبتلوا بمثل ما ابتلي أولئك.
وفيه أنه يعامل بعضهم بعضا على الظاهر الذي ظهر دون حقيقة ما يكون، وعلى ذلك يجري الحكم على ما عامل رسول الله وأصحابه أهل النفاق. وحكمه على ما أظهروا دون ما أضمروا في الأنكحة والصهر وغير ذلك من الأحكام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَحْسَبُونَ} أنّ الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط {وَإِن يَأْتِ الأحزاب} كرّة ثانية. تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرّة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب {يَسْئَلُونَ} كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال -لم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وكأنهم لما ذهب استمروا خاضعين لم يطلقوا ألسنتهم ولا أعلو كلمتهم، فأخبر تعالى تحقيقاً لقوله الماضي في جبنهم أن المانع الذي ذكره لم يزل من عندهم لفرط جبنهم، فقال تحقيقاً لذلك وجواباً لمن ربما قال: قد ذهب الخوف فما لهم ما سلقوا؟ {يحسبون} أي يظنون لضعف عقولهم في هذا الحال، وقد ذهب الخوف، لشدة جبنهم وما رسخ عندهم من الخوف.
{الأحزاب}... وعبر بالحسبان لأنه ما تقع غلبته فيما هو من نوع ما فطر الإنسان عليه واستقر عادة له، والظن فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم؛ قال: فكان ضعف علم العالم ظن، وضعف عقل العاقل حسبان.
ولما أخبر عن حالهم في ذهابهم، أخبر عن حالهم لو وقع ما يتخوفونه من رجوعهم، فقال معبراً بأداة الشك بشارة لأهل البصائر أنه في عداد المحال: {وإن يأتِ الأحزاب} أي بعد ما ذهبوا {يودّوا} أي يتجدد لهم غاية الرغبة من الجبن وشدة الخوف.
{لو أنهم بادون} أي فاعلون للبدو وهو الإقامة في البادية على حالة الحل والارتحال.
{في الأعراب} الذين هم عندهم في محل النقص، وممن تكره مخالطته ولو كان تمنيهم في ذلك الحين محالاً؛ ثم ذكر حال فاعل "بادون "فقال: {يسألون} كل وقت {عن أنبائكم} العظيمة معهم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً، كأنهم مهتمون بكم، يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب أو ليخفوا غيبتهم ويظهروا أنهم كانوا بينكم في الحرب بأمارة أنه وقع لكم في وقت كذا أو مكان كذا كذا، ويكابروا على ذلك من غير استحياء لأن النفاق صار لهم خلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه، ويرشد إلى هذا المعنى قراءة يعقوب" يسالون "بالتشديد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهم ما يزالون يرتعشون، ويتخاذلون، ويخذلون! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت، وأنه قد ذهب الخوف، وجاء الأمان! يتمنون هذه الأمنيات المضحكة، مع أنهم قاعدون، بعيدون عن المعركة، لا يتعرضون لها مباشرة؛ إنما هو الخوف من بعيد! والفزع والهلع من بعيد! وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة؛ صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة، والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل. بنفس الملامح، وذات السمات.. ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج، والسخرية منه، والابتعاد عنه، وهوانه على الله وعلى الناس.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -تقرير أن الكفر والنفاق صاحبهما لا يفارقه الجبن والخور والشح والبخل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هؤلاء المحاربين الجبناء، والمنافقين خائري القلوب والقوى يخافون حتّى من ظلالهم، وينطوون على أنفسهم من الخوف لدى سماع صهيل الخيل ورغاء البعير، ظنّاً أنّ جيوش الأحزاب قد عادت! فلا تحزنوا وتقلقوا لذهابهم، ولا تفرحوا بوجودهم بينكم، فإنّهم أناس لا قيمة لهم ولا صفة تحمد، وعدمهم أفضل من وجودهم!