{ 33 } { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي : لا أحد أحسن قولا . أي : كلامًا وطريقة ، وحالة { مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } بتعليم الجاهلين ، ووعظ الغافلين والمعرضين ، ومجادلة المبطلين ، بالأمر بعبادة الله ، بجميع أنواعها ، والحث عليها ، وتحسينها مهما أمكن ، والزجر عما نهى الله عنه ، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه ، خصوصًا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه ، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن ، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
ومن الدعوة إلى الله ، تحبيبه إلى عباده ، بذكر تفاصيل نعمه ، وسعة جوده ، وكمال رحمته ، وذكر أوصاف كماله ، ونعوت جلاله .
ومن الدعوة إلى الله ، الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله ، والحث على ذلك ، بكل طريق موصل إليه ، ومن ذلك ، الحث على مكارم الأخلاق ، والإحسان إلى عموم الخلق ، ومقابلة المسيء بالإحسان ، والأمر بصلة الأرحام ، وبر الوالدين .
ومن ذلك ، الوعظ لعموم الناس ، في أوقات المواسم ، والعوارض ، والمصائب ، بما يناسب ذلك الحال ، إلى غير ذلك ، مما لا تنحصر أفراده ، مما تشمله الدعوة إلى الخير كله ، والترهيب من جميع الشر .
ثم قال تعالى : { وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : مع دعوته الخلق إلى الله ، بادر هو بنفسه ، إلى امتثال أمر الله ، بالعمل الصالح ، الذي يُرْضِي ربه . { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : المنقادين لأمره ، السالكين في طريقه ، وهذه المرتبة ، تمامها للصديقين ، الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم ، وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل ، كما أن من أشر الناس ، قولاً ، من كان من دعاة الضالين{[775]} السالكين لسبله .
وبين هاتين المرتبتين المتباينتين ، اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين ، ونزلت الأخرى ، إلى أسفل سافلين ، مراتب ، لا يعلمها إلا الله ، وكلها معمورة بالخلق { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
ويختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى الله ، ووصف روحه ولفظه ، وحديثه وأدبه . ويوجه إليها رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وكل داعية من أمته . وكان قد بدأ السورة بوصف جفوة المدعوين وسوء أدبهم ، وتبجحهم النكير . ليقول للداعية : هذا هو منهجك مهما كانت الأمور :
( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال : إنني من المسلمين ! ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه هو السميع العليم ) .
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله ، في مواجهة التواءات النفس البشرية ، وجهلها ، واعتزازها بما ألفت ، واستكبارها أن يقال : إنها كانت على ضلالة ، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها ، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد ، كل البشر أمامه سواء .
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق . ولكنه شأن عظيم :
( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ، وعمل صالحاً ، وقال : إنني من المسلمين ) .
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض ، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء . ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ؛ ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات . فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ .
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض ، أو بسوء الأدب ، أو بالتبجح في الإنكار . فهو إنما يتقدم بالحسنة . فهو في المقام الرفيع ؛ وغيره يتقدم بالسيئة . فهو في المكان الدون :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ومن أحسن أيها الناس قولاً ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به ، والانتهاء إلى أمره ونهيه ، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : تلا الحسن : وَمَنْ أَحْسَن قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ وَعمِلَ صَالِحا وَقالَ إنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ قال : هذا حبيب الله ، هذا وليّ الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله ، هذا أحبّ الخلق إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال : إنني من المسلمين ، فهذا خليفة الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَنْ أَحْسَن قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ . . . الاَية ، قال : هذا عبد صدّق قولَه عملهُ ، ومولجُه مخرجُه ، وسرّه علانيته ، وشاهده مغيبه ، وإن المنافق عبد خالف قولَه عملُه ، ومولجَه مخرجُه ، وسرّه علانيته ، وشاهده مغيبه .
واختلف أهل العلم في الذي أريد بهذه الصفة من الناس ، فقال بعضهم : عُنِي بها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ قال : محمد صلى الله عليه وسلم حين دعا إلى الإسلام .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ أَحْسَن قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ وَعمِلَ صَالِحا وَقالَ إنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ قال : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : عُنى به المؤذّن . ذكر من قال ذلك :
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب البصري ، قال : حدثنا عمرو بن جرير البجلي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، في قول الله : وَمَنْ أَحْسَن قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ قال : المؤذّن وَعمِلَ صَالِحا قال : الصلاة ما بين الأذان إلى الإقامة .
وقوله : وَقالَ إنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول : وقال : إنني ممن خضع لله بالطاعة ، وذلّ له بالعبودة ، وخشع له بالإيمان بوحدانيته .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن أحسن أيها الناس قولاً ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك... عن معمر، قال: تلا الحسن:"وَمَنْ أَحْسَن قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ وَعمِلَ صَالِحا وَقالَ إنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ" قال: هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحبّ الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين...
وقوله: "وَقالَ إنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ "يقول: وقال: إنني ممن خضع لله بالطاعة، وذلّ له بالعبودة، وخشع له بالإيمان بوحدانيته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
من أحسن مذهبا وسيرة {ممن دعا إلى الله} وهذا الحرف يجمع جميع الخيرات والطاعات. فإن كان قوله: {ومن أحسن قولا} على ما ذكرنا من المذاهب والسيرة، فكأنه يقول: ومن أحكم وأتقن مذهبا وسيرة ممن ذكر؟ وإن كان على حقيقة القول، فيكون قوله: {ومن أحسن قولا} أي ومن أصدق قولا ممن قال ما ذكر، والله أعلم.
{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يحتمل وجوها: أحدها: أنه اختار الانتساب إلى الإسلام من بين غيره من الأديان والمذاهب. وقد أبى سائر الفِرَق الانتساب إلى الإسلام سوى أهل الإسلام.
والثاني: انتسب إلى ما خص الله سبحانه تعالى تسميتهم به، وهو الإسلام كقوله تعالى: {هو سمّاكم المسلمين} [الحج: 78]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون موحداً معتقداً لدين الإسلام، عاملاً بالخير داعياً إليه؛ وما هم إلاّ طبقة العالمين العاملين... الدعاة إلى دين الله.
{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده...
المسألة الأولى: أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدئ حيث قالوا للرسول {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه}، ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك، ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة، فقالوا {لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه} وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية، والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات، ثم إنه سبحانه وتعالى بين أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة، إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة، فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات، وعبر عن هذا المعنى فقال {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة.
المسألة الثالثة: قوله {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله} يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سواها، إذا عرفت هذا فنقول: كل ما كان أحسن الأعمال وجب أن يكون واجبا؛ لأن كل ما لا يكون واجبا فالواجب أحسن منه، فثبت أن كل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب، إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمتقضى هذه الآية، وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب، ثم ينتج أن الدعوة إلى الله واجبة.
المسألة الخامسة: الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة (أولها) الدعوة إلى الله (وثانيها) العمل الصالح (وثالثها) أن يكون من المسلمين، أما الدعوة إلى الله فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية.
وأما قوله {وعمل صالحا} فاعلم أن العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة، أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات.
وأما قوله {وقال إنني من المسلمين} فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان، فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة:
(أحدها) الإقرار باللسان، (والثاني) الأعمال الصالحة بالجوارح (والثالث) الاعتقاد الحق بالقلب (والرابع) الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله، ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم، وكمال الدرجة في هذه المراتب الأربعة ليس إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فمن دعا إلى الله تعالى. فهو على سبيل رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو على بصيرة، وهو من أتباعه. ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، ولا هو على بصيرة، ولا هو من أتباعه. فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم. والناس تبع لهم. والله سبحانه قد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه وضمن له حفظه وعصمته من الناس. وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه، وتبليغهم له، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثا. وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم. جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. وهم كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب «الحوادث والبدع» له، إذ قال: «الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه. وضال تائه قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد. فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح اثر الناس عليهم. يقبلونهم في سالف الدهر، وإلى يومنا هذا. فما نسيهم ربك. وما كان ربك نسيا، جعل قصصهم هدى وأخبر عن حسن مقالتهم، فلا تقصر عنهم، فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة». وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن لله عند كل بدعة كيد بها للإسلام وليا من أوليائه يذب عنها، وينطق بعلاماتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله». ويكفي في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي ولمعاذ رضي الله عنه أيضا: «لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين -وضم بين إصبعيه»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى الهدى فأتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة». فمتى يدرك العامل هذا الفضل العظيم. والحظ الجسيم بشيء من عمله. وإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ومن أحسن قولاً} أي من جهة القول.
{ممن دعا} وحد الضمير دلالة على قلة هذا الصنف.
{إلى الله} أي الذي عم بصفات كماله جميع الخلق فهو يستعطف كل أحد بما تعرف إليه سبحانه به من صفاته.
{صالحاً} في نفسه ليكون ذلك أمكن لدعائه أعم من أن يكون ذلك لصالح نية أو قولاً أو عملاً للجوارح الظاهرة سراً كان أو علناً، ولذا حذف الموصوف لئلا يوهم تقيده بالأعمال الظاهرة وللإغناء عنها بقوله "دعا"، بخلاف ما كان سياقه للتوبة كآية الفرقان أو اعتقاد الحشر كآية الكهف، فإنه لا بد فيه من إظهار العمل ليكون شاهداً على صحة الاعتقاد وكمال التوبة، والدعاء هنا مغنٍ عن ذلك.
{وقال} مؤكداً عند المخالف والمؤالف قاطعاً لطمع المفسد فيه: {إنني من المسلمين} أي الراسخين في صفة الإسلام متظاهراً بذلك لا يخاف في الله لومة لائم، وإن سماه أبناء زمانه كذا جافياً وغليظاً عاسياً لتصلبه في مخالفته إياهم فيما هم عليه بتسهله في انقياده لكل ما أمره به ربه سبحانه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي: لا أحد أحسن قولا. أي: كلامًا وطريقة، وحالة {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها، والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه، خصوصًا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن والنهي عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن الدعوة إلى الله تحبيبه إلى عباده بذكر تفاصيل نعمه وسعة جوده، وكمال رحمته وذكر أوصاف كماله ونعوت جلاله.
ومن الدعوة إلى الله، الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله والحث على ذلك، بكل طريق موصل إليه، ومن ذلك، الحث على مكارم الأخلاق، والإحسان إلى عموم الخلق، ومقابلة المسيء بالإحسان، والأمر بصلة الأرحام، وبر الوالدين. ومن ذلك، الوعظ لعموم الناس، في أوقات المواسم، والعوارض، والمصائب، بما يناسب ذلك الحال، إلى غير ذلك، مما لا تنحصر أفراده، مما تشمله الدعوة إلى الخير كله، والترهيب من جميع الشر.
{وَعَمِلَ صَالِحًا} أي: مع دعوته الخلق إلى الله، بادر هو بنفسه، إلى امتثال أمر الله بالعمل الصالح، الذي يُرْضِي ربه.
{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: المنقادين لأمره، السالكين في طريقه، وهذه المرتبة تمامها للصديقين، الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم، وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل، كما أن من أشر الناس قولاً، من كان من دعاة الضالين السالكين لسبله. وبين هاتين المرتبتين المتباينتين، اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين، ونزلت الأخرى، إلى أسفل سافلين مراتب لا يعلمها إلا الله، وكلها معمورة بالخلق {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى الله، ووصف روحه ولفظه، وحديثه وأدبه. ويوجه إليها رسوله [صلى الله عليه وسلم] وكل داعية من أمته. وكان قد بدأ السورة بوصف جفوة المدعوين وسوء أدبهم، وتبجحهم النكير. ليقول للداعية: هذا هو منهجك مهما كانت الأمور:
(ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال: إنني من المسلمين! ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم).
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله، في مواجهة التواءات النفس البشرية وجهلها واعتزازها بما ألفت واستكبارها أن يقال: إنها كانت على ضلالة، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد، كل البشر أمامه سواء.
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق. ولكنه شأن عظيم:
(ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، وعمل صالحاً، وقال: إنني من المسلمين).
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء. ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة؛ ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات. فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض أو بسوء الأدب، أو بالتبجح في الإنكار. فهو إنما يتقدم بالحسنة. فهو في المقام الرفيع؛ وغيره يتقدم بالسيئة. فهو في المكان الدون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ليس هذا من حكاية خطاب الملائكة للمؤمنين في الآخرة وإنما هو موجه من الله فالأظهر أنه تكملة للثناء على {الذين قالوا: ربنا الله} [فصلت: 30]، واستقاموا، وتوجيه لاستحقاقهم تلك المعاملة الشريفة، وقمع للمشركين إذ تقرع أسماعَهم، أي كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل. وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمة المشركين ووعيدُهم على سوء قولهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن} [فصلت: 26]، مشعر لا محالة بأن بين الفريقين بوناً بعيداً، طَرَفَاه: الأحسنُ المصرحُ به، والأسوأُ المفهوم بالمقابلة، أي فلا يستوي الذين قالوا أحسنَ القول وعملوا أصلح العمل مع الذين قالوا أسوأ القول وعملوا أسوأَ العمل، ولهذا عقب بقوله: {وَلا تَسْتَوي الحَسَنة ولاَ السَّيِئَة} [فصلت: 34].
والواو إما عاطفة على جملة {إنَّ الذين قالوا ربُّنا الله} [فصلت: 30]، أو حاليَّة من {الذينَ قالُوا. والمعنى: أنهم نالوا ذلك إذْ لا أحسن منهم قولاً وعملاً. ومَنْ} استفهام مستعمل في النفي، أي لا أحد أحسن قولاً من هذا الفريق كقوله: {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للَّه} الآية في سورة النساء (125).
و {ممن دعا إلى اللَّه}: كل أحد ثبت له مضمون هذه الصلة. والدعاء إلى شيء: أمر غيرك بالإقبال على شيء، ومنه قولهم: الدعوة العباسية والدعوة العَلوية، وتسمية الواعظ عند بني عبيد بالداعي لأنه يدعو إلى التشيُّع لآل علي بن أبي طالب. فالدعاء إلى الله: تمثيل لحال الآمِرِ بإفراد الله بالعبادة ونبذ الشرك بحال من يدعو أحداً بالإِقبال إلى شخص، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد وهو ما وُصفوا به آنفاً في قوله: {إنَّ الَّذِين قالوا ربُّنا} [فصلت: 30] كما علمتَ وقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله، وسيّدُ الداعين إلى الله هو محمد. وقوله: مِمَّن دعا إلى الله} (مِنْ) فيه تفضيلية لاسْم {أَحْسَنُ}، والكلام على حذف مضاف تقديره: من قول من دعا إلى الله، ومنه قوله تعالى: {ولكن البر من آمن باللَّه} الآية في سورة البقرة (177).
والعمل الصالح: هو العمل الذي يصلُح عامِلُه في دينه ودنياه صلاحاً لا يشوبه فساد، وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين، فالعمل الصالح: هو ما وصف به المؤمنون آنفاً في قوله: {ثمَّ استقاموا} [فصلت: 30].
وأما {وَقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمِينَ} فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام.
والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين. ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صَاح أبو سفيان: اعْلُ هُبَلْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا: « الله أعلى وأجلّ»
فقال أبو سفيان: لنا العُزى ولا عُزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قولوا الله مولانا ولا مولى لكم". وإنما لم يذكر نظير هذا القول في الصلة المشيرة إلى سبب تنزّل الملائكة على المؤمنين بالكرامة وهي {الذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] لأن المقصود من ذكرها هنا الثناء عليهم بتفاخرهم على المشركين بعزة الإِسلام، وذلك من آثار تلك الصلة فلا حاجة إلى ذكره هنالك بخلاف موقعه هنا.
وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله تعالى من دينه ومن خَلْقه.
بعد أنْ تكلم الحق سبحانه عن الكمال الذاتي للمؤمن الذي استكمل الإيمان وأعلنها: ربي الله، ثم استقام على طريقة، يقول بعد أن استقبل المؤمنُ الإيمانَ وباشرتْ حلاوتُه قلبه يفيض هذا الإيمان منه إلى غيره، وهذه مهمة من مهمات المؤمن أنْ ينقلَ الإيمان، وأنْ ينقلَ الخير إلى الغير.
المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحرص على إصلاح المجتمع من حوله، المؤمن لا يقف عند ذاته، ولا يكون أبداً أنانياً.
والحق سبحانه يمدح منزلة الدعوة إلى الله، ويجعلها أحسن ما يقول الإنسان: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} فأشرف الأعمال للذي تشبَّع قلبه بالإيمان أنْ يعدى هذا الإيمان إلى غيره، وأن ينقل له الصورة الإيمانية، فالمؤمن يصنع الخير لنفسه وللناس؛ ذلك لأن خير الناس عائد إليه أيضاً، كما أن شرَّهم لا بدَّ أنْ يناله وأنْ يصيبه من نصيب.
إذن: من مصلحتك أيها المؤمن أنْ يؤمن الناسُ، ومن مصلحتك أيها المستقيم على الجادة أنْ يستقيم الناسُ لذلك حمَّل اللهُ أمانة الدعوة إليه لكل مؤمن، لأنه سبحانه يريد أنْ يُعدَّى الإيمان ممَّنْ ذاقه إلى مَنْ لم يَذُقْه لتتسعَ رقعة الإيمان، ويعمّ الخير الجميع.
وأول عناصر الدعوة إلى الله أنْ ندعوَ إلى العقيدة أولاً وإلى الإيمان بالله، أن نقول: ربنا الله، نُقِرُّ بِها ونعلنها خالصةً بلا تردد، ثم نلفتهم إلى آيات الله في الكون، إلى الآيات الكونية إنْ كانوا لا يتأملونها، وإلى آيات المعجزات المصاحبة للرسل إنْ كانوا لا يعلمونها، ثم إلى آيات الذكر الحكيم التي تحمل منهج الله بافعل ولا تفعل.
وتأمل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً} الحق سبحانه أراد أنْ يُبيِّن لنا منزلة الدعوة إلى الله وفضل الداعية، لكن لم يأتِ بذلك في أسلوب خبري يُقرر هذه المنزلة إنما جاء بهذا السؤال {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً} استفهام غرضه النفي، يعني: لا أحدَ أحسنُ من هذا الذي يدعو إلى الله، ولا قَوْلَ أحسن من قوله.
قالها الحق سبحانه في صورة سؤال لأنه سبحانه يعلم أنه لا جوابَ لها إلا أنْ نقول: لا أحدَ أحسنُ قوْلاً ممَّنْ دعا إلى الله، فجعلنا نحن نعلن هذه الحقيقة ونُقِرُّ بِها، والإقرار كما يقولون سيد الأدلة.
وأول داعية إلى الله هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل داعية من بعده يأخذ من معينه صلى الله عليه وسلم ويسير على خُطاه، ولما كان صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء فقد ترك لأمته هذه الرسالة، رسالة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فخيْر رسول الله لم ينقطع، بل ممتد في أمته من بعده، وكلُّ داعية بعده إنما يأخذ مقاماً من مقامه صلى الله عليه وسلم.
ومن رحمة الله بهذه الأمة أنْ جعل لها رادعاً من نفسها، جعل فيها فئةٌ باقية على الحق تُقوِّم المعْوج، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وسوف تظل هذه الفئة إلى يوم القيامة، لذلك جاء في حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَنْ خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك".
لذلك قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وهذه خاصية اختصَّ الله بها أمة محمد لأنه خاتمُ الرسل؛ لذلك لن يعم الشرَّ هذه الأمة، ولن يطمَّ فيها الفساد، ففيها حصانة من ذاتها. لقد كانت الأمم السابقة يستشري فيها الفساد حتى يعمَّها، فلا يكون فيها آمر بمعروف ولا ناهٍ عن منكر، وعندها كان لا بدَّ من إرسال رسولٍ جديد، يعيد الناس إلى الطريق المستقيم.
أما أمة محمد فلن يأتي فيها رسول جديد، لذلك جعل الله فيها هذه الحصانة، وجعلها خليفة لرسول الله في الدعوة إلى الله، وجعلها أمينة على هذه الدعوة، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخيرُ فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة".
وقد بيَّن الله تعالى أن الرسول سيشهد أنه بلَّغ أمته هذه الدعوة، وهذه الأمة ستشهد أنها بلَّغت دعوة رسولها إلى كلِّ الأمم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..} [البقرة: 143].
فشهادتنا على الأمم دليلٌ على أن الخير بَاقٍ فينا ولن ينقطع أبداً.
وقد حثَّنا رسولنا صلى الله عليه وسلم على حمل هذه الأمانة ورغَّبنا فيها حين قال صلى الله عليه وسلم: "نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، وأدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها، فرُبَّ مُبلِّغ أوْعَى من سامع".
والدعوة إلى الله مجال واسع يكون بالقول وبالفعل وبالقدوة الحسنة، يكون ببيان العقائد والعبادات والأحكام للناس بأسلوب شيق ممتع جذاب، لا يُنفِّر الناس، ولا يذهب بهم إلى يأس أو قنوط من رحمة الله.
الدعوة إلى الله فَنٌّ، اقرأ قوله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ..} [آل عمران: 159].
أين دعاتنا من قوله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..} [النحل: 125].
لا بدَّ أنْ نعلم أنَّ الدعوة إلى الله ليستْ مهمة علماء الدين المختصين فحسب، إنما مهمة كل مسلم في كل زمان وفي كل مكان، كُلٌّ في مجال عمله يستطيع أنْ يكون داعيةً، نعم داعية بفعله والتزامه وتفانيه وإخلاصه.
لقد أجمع علماء الأمة على أن الإسلام ما انتشر بحدِّ السيف، وما انتشر بالقوة بقدر ما انتشر بسيرة المسلمين الطيبة، وما تحلَّوْا به من تسامح وحُبٍّ للآخرين، ولنا فيهم قدوة.
الدعوة إلى الله مهمة كل مسلم ذاق حلاوة الإيمان ولذة التكاليف وأحبَّ للناس ما يحب لنفسه من الخير فينقله إليهم، والحق سبحانه ساعة يُكلِّفنا بالخير لا يترك أحداً ولا يحرم أحداً أنْ يكونَ له نصيبٌ من هذا الخير... هناك قضية تتعلق بالدعوة إلى الله، هي أن الإنسان منَّا قد يكون عاصياً لربه في ناحية ما، فهل يمنعه هذا العصيان أنْ يكون داعية إلى الله؟ قالوا: ينبغي ألاَّ تمنعك المعصية عن الدعوة، فلعلَّ الذي تدعوه يفعل ما لم تفعله أنت، ولعل هذه عملية جَبْر لما فيك من نقص.
يُحكَى أن رجلاً كان يطوف بالبيت، فسمع آخرَ يقول: اللهم إنك تعلم أنّي عاصيك ولكنِّي أحب مَنْ يطيعك، فاجعل اللهم حُبِّي لمن أطاعك شافعاً في معصيتي.
قالوا: حتى الذي يتكاسل عن الصلاة لا يمنعه ذلك من أن يدعو غيره إلى الصلاة، لأنها خير يشيعه في الناس لن يُحرَم أجره، فكل مَنْ أشاع خيراً له [أجر] عند الله، وهكذا لا يخلو مخلوق من أنْ يصيبه فضل الله الواسع، ولا يخلو مخلوق من خصلةِ خيرٍ لذاته أو لغيره، وهذه الإشاعة للخير في ذاتها دعوة إلى الله.
وقوله: {وَعَمِلَ صَالِحاً..} يعني: دعا إلى الله بالقول ثم بالفعل، ودائماً ما يقرن القرآن بين القول والعمل، وعرفنا أن قدوةَ الفعل أعظمُ أثراً في النفوس من قدوة الكلام، وليس من الصواب أنْ تدعو الناس إلى شيء وأنت عنه بنجوى، يقول تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]... وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} هذا إعلانٌ يعلنه المسلم ويفخر به، وسام على صدره، أنا مسلم، وإسلامي هو المنطلق الذي من خلاله تكون حركتي في الحياة، وهذه في حَدِّ ذاتها دعوةٌ إلى الله ونشرٌ لدين الله وإعلاءٌ لكلمة الله حين لا تنشغل بنفسك إنما تنشغل بدينك.
فإنْ أنجزتَ عملاً تنسبه إلى دين الله، تقول: لأن الله أمرني، فترفع دينَ الله عند الناس ولا تهتم بذاتك الفاعلة، وحين ترفع دين الله ثِقْ أنه رافعك معه.
إذن: فمن صفات المؤمن أنْ ينسبَ خيره وصلاحه لدينه وإسلامه.
لذلك نقف كثيراً عند قول قارون لما أعطاه الله المال والجاه والسلطان، فقال: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ..} [القصص: 78] فردَّ الله عليه: ما دمتَ أوُتيته على علم عندك فاحفظه بعلمك، وكانت النتيجة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ..} [القصص: 81] فحين تصل إلى ابتكار أو اختراع أو صلاح في الكون فاجعله من منطلق الدين والمنهج، انسبه إلى دينك...
قلنا: إن العمل إما أن يكون لله، وإما أن يكون للناس، العمل لله شرطه الإخلاص وجزاؤك على الله في الآخرة، أما العمل للناس فيعطيك منزلة عندهم ووجاهة ورفعة، هذا جزاؤك وقد أخذته في الدنيا فلا حظَّ لك في ثواب الآخرة، فالإنسان يطلب أجره ممَّنْ عمل له.
لذلك ما سُئلْنَا عن علماء خدموا البشرية باختراعاتهم وإنجازاتهم وابتكاراتهم: هل لهم نصيب في الآخرة؟ نقول: لا ليس لهم نصيب لأنهم فعلوا للناس وللبشرية ولتقدم المجتمع، وأخذوا أجورهم صيتاً وسُمْعة وشهرة وتخليداً لذكراهم.. إلخ.
أما الله فلم يكن أبداً على بالهم حين فعلوا هذه الأشياء، واقرأوا قوله تعالى في شأن هؤلاء: {وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23].
وفي موضع آخر قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
هكذا أعمال الكافرين في الآخرة كالسراب تحسبه شيئاً، فإذا ما ذهبتَ إليه لم تجده، وليْتَ أمرهم ينتهي عند هذا الحد إنما تفاجئهم الحقيقة التي طالما أنكروها في الدنيا
{وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ..} [النور: 39] نعم الله الذي أنكره أو كفر به يُوقفه ويحاسبه: أنت فعلتَ: ليقال وقد قيل فلا أجرَ لك عندي، ويبقى لك جزاء كفرك وعنادك.
إذن: نقول: ساعة تعلن أنك تعمل وتبتكر من منطلق إسلامك. ساعة تقول عملت لأنني مسلم، تُعلي شأن الإسلام وتلفت غير المسلمين إلى جمال هذا الدين، وأنت في ذلك داعية إلى الله، أنت على نهج نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فإنْ قابلتْكَ بعضُ الصعاب فاصبر، لأن رسولك أُوذِي في سبيل دعوته فصبر.
فالذي يحمل أمانة الدعوة ويعلنها: أنا مسلم، وإسلامي هو الضابط لكل حركاتي في الحياة ويصيبه سوءٌ يعلم أنه أخذ طرفاً من ميراث النبوة، فما من نبي إلا أوذي وكان له أعداء، فلا بدَّ لحَمَلة هذه المسئولية أنْ يكون لهم أعداء، وأنْ يُشتموا وأن تُكال لهم التهم، هذا أمر طبيعي في مسيرة الدعوة إلى الله.
يقول تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً..} [الأنعام: 112].
هذا يعني أن الداعية الذي يِسْلم من هذا الإيذاء ينقص حظُّه من ميراث النبوة، وحظه من تركة النبي صلى الله عليه وسلم، إذن: اصبر، وهل تابعُ محمد خيرٌ من محمد حتى يَسْلم من الأذى؟
فإذا لم يكُنْ لك أعداء في طريق الدعوة فاعلم أنك لستَ على الطريق الذي رسمه لك صاحبُ الدعوة، وعليك أنْ تراجع نفسك.
الكلام هنا عن الدعوة إلى الله بحقٍّ وتجرُّد وإخلاص، وعن الكلمة تُقال في سبيل الله لا في سبيل جاه أو سلطان أو منصب من متاع الدنيا الزائل، الدعوة إلى الله لا تكون أبداً قنطرة.
لذلك نقول: ما الذي يحمي الدعاة إلى الله الآن، وها نحن نقول بأعلى صوت ونكتب في كل وسائل الإعلام، والله هو الحامي، والحمد لله لم نُؤخذ ولم نُسْجن، ولم يتعرض لنا أحد، كثير من علماء الدين يعلنون كلمة الحق مجردة من الهوى والمصلحة، وساعة يعطي لهم الحاكم أذنه يُسمعونه من الكلام ما يرعشه، ومع ذلك نسمع عن اضطهاد رجال الدين.
ونقول: إذا اضطهد رجل الدين فلا بُدَّ أنه استعمل وسائل محرمة في الدعوة إلى الله، كهؤلاء الذين يميلون إلى حَلِّ المشاكل بالقتل والدماء، أنت على خلاف مثلاً مع وزير من الوزراء تضربه بالنار؟ هل هذا هو الحل؟ وما ذنب الحراس الذين تُهدر دماؤهم وتُيتَّم أطفالهم؟
أنت صاحب كلمة، قُلْ ما شئتَ وأصلح بالكلمة الطيبة، أسمعهم ما يكرهون، وسبق أنْ قلنا لهم ما لم يستطع أحدٌ أن يقوله عندهم، لأن الشجاعة الإيمانية في الدعوة إلى الله ليستْ كلمة حَقٍّ تُقال على سلطان، إنما كلمة حق تقال عند سلطان جائر، نعم عنده في حضوره.
وهذا تطبيق عملي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
نحن لا نتاجر بالكلمة، إنما نواجه بها كل حاكم ظالم، نقول له: نحن لا نكرهك ولا نطمع فيما في يدك من الحكم، بل نحن نحبك ونريد أنْ نعينك على مهمتك، فقط نريد منك أنْ تحكمنا بالإسلام، أريد أنْ أُحْكَم بالإسلام، لا أن أُحكُمَ بالإسلام.