تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ} (47)

{ 47 - 52 } { فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }

يقول تعالى : { فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } بنجاتهم ونجاة أتباعهم وسعادتهم وإهلاك أعدائهم وخذلانهم في الدنيا وعقابهم في الآخرة ، فهذا لا بد من وقوعه لأنه ، وعد به الصادق قولا على ألسنة أصدق خلقه وهم الرسل ، وهذا أعلى ما يكون من الأخبار ، خصوصا وهو مطابق للحكمة الإلهية ، والسنن الربانية ، وللعقول الصحيحة ، والله تعالى لا يعجزه شيء فإنه { عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ} (47)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فَلا تَحْسَبنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ الذي وعدهم من كذّبهم ، وجحد ما أتَوْهم به من عنده . وإنما قاله تعالى ذكره لنبيه تثبيتا وتشديدا لعزيمته ، ومعرّفه أنه منزل من سخطه بمن كذّبه وجحد نبوّته ، وردّ عليه ما أتاه به من عند الله ، مثال ما أنزل بمن سلكوا سبيلهم من الأمم الذين كانوا قبلهم على مثل منهاجهم من تكذيب رسلهم وجحود نبوّتهم وردّ ما جاءوهم به من عند الله عليهم .

وقوله : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ يعني بقوله : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ : لا يمانع منه شيء أراد عقوبته ، قادر على كل من طلبه ، لا يفوتُه بالهَرَب منه . ذُو انْتِقامٍ ممن كفر برسله وكذّبهم ، وجحد نبوتهم ، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره . وأضيف قوله : مُخْلِفَ إلى الوعد ، وهو مصدر لأنه وقع موقع الاسم ، ونصب قوله : رُسُلَهُ بالمعنى وذلك أن المعنى : فلا تحسبنّ الله مخلف رسله وعده . فالوعد وإن كان مخفوضا بإضافة «مخلف » إليه ، ففي معنى النصب ، وذلك أن الإخلاف يقع على منصوبين مختلفين ، كقول القائل : كسوت عبدَ الله ثوبا ، وأدخلته دارا . وإذا كان الفعل كذلك يقع على منصوبين مختلفين ، جاز تقديم أيّهما قْدّم ، وخفصُ ما وَلِيَ الفعل الذي هو في صورة الأسماء ونصب الثاني ، فيقال : أنا مدخلُ عبدِ الله الدار ، وأنا مدخلُ الدّارِ عبدَ الله ، إن قدّمت الداء إلى المُدْخل وأخرت عبدَ الله خفضت الدار ، إذ أضيف مُدْخل إليها ، ونُصِب عبد الله وإن قُدّم عبدُ الله إليه ، وأخّرت الدار ، خفض عبد الله بإضافة مُدْخلٍ إليه ، ونصب الدار وإنما فعل ذلك كذلك ، لأن الفعل أعني مدخل يعمل في كلّ واحد منهما نصبا نحو عمله في الاَخر ومنه قول الشاعر :

تَرَى الثّوْرَ فيها مُدْخِلَ الظّلّ رأسَهُ *** وسائرُهُ بادٍ إلى الشّمْسِ أجْمَعُ

أضاف مُدْخل إلى الظلّ ، ونصب الرأس وإنما معنى الكلام : مدخل رأسَه الظلّ . ومنه قول الاَخر :

فَرِشْني بِخَيْرٍ لا أكُونَ وَمِدْحَتِي *** كناحِتِ يَوْمٍ صَخْرَةً بعَسِيلِ

والعسيل : الريشة جُمع بها الطيب ، وإنما معنى الكلام : كناحِتِ صخرةٍ يوما بعسيل ، وكذلك قول الاَخر :

رُبّ ابْنِ عَمَ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ *** طَبّاخِ ساعاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ

وإنما معنى الكلام : طباخ زادِ الكَسل ساعاتِ الكَرَى .

فأما من قرأ ذلك : فَلا تَحْسَبنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسلهُ فقد بيّنا وجه بُعْدِه من الصحة في كلام العرب في سورة الأنعام ، عند قوله : وكَذَلِكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شركاؤهم ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ} (47)

تفريع على جميع ما تقدم من قوله : { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون } [ إبراهيم : 42 ] . وهذا محل التسلية . والخطاب للنبيء . وتقدم نظيره آنفاً عند قوله : ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، لأن تأخير ما وعد الله رسوله عليه الصلاة والسلام من إنزال العقاب بأعدائه يشبه حال المخلف وعده ، فلذلك نهي عن حُسبانه .

وأضيف { مخلف } إلى مفعوله الثاني وهو { وعده } وإن كان المفعول الأول هو الأصل في التقديم والإضافة إليه لأن الاهتمام بنفي إخلاف الوعد أشد ، فلذلك قدم { وعده } على { رسله } .

و { رسله } جمع مراد به النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة ، فهو جمع مستعمل في الواحد مجازاً . وهذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله منجز له ما وعده من نصره على الكافرين به . فأما وعده للرسل السابقين فذلك أمر قد تحقق فلا يناسب أن يكون مراداً من ظاهر جمع { رسله } .

وجملة { إن الله عزيز ذو انتقام } تعليل للنهي عن حُسبانه مُخلف وعده .

والعزة : القدرة . والمعنى : أن موجب إخلاف الوعد منتف عن الله تعالى لأن إخلاف الوعد يكون إما عن عَجز وإما عن عدم اعتياد الموعود به ، فالعزة تنفي الأول وكونُه صاحب انتقام ينفي الثاني . وهذه الجملة تذييل أيضاً وبها تمّ الكلام .