{ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، أي : يدعو الناس إليه ، ويرغبهم فيه ، في أصوله وفروعه .
{ فآمنا } أي : أجبناه مبادرة ، وسارعنا إليه ، وفي هذا إخبار منهم بمنة الله عليهم ، وتبجح بنعمته ، وتوسل إليه بذلك ، أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ، والذي من عليهم بالإيمان ، سيمن عليهم بالأمان التام .
{ وتوفنا مع الأبرار } يتضمن هذا الدعاء التوفيق لفعل الخير ، وترك الشر ، الذي به يكون العبد من الأبرار ، والاستمرار عليه ، والثبات إلى الممات .
{ رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل المنادي الذي ذكره الله تعالى في هذه الاَية ، فقال بعضهم : المنادي في هذا الموضع القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : { إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإيمَانِ } قال : هو الكتاب ، ليس كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا منصور بن حكيم ، عن خارجة ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، في قوله : { رَبّنا إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإيمَانِ } قال : ليس كل الناس سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن المنادي : القرآن .
وقال آخرون : بل هو محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإِيمَانِ } قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { رَبّنا إنّنا سَمِعْنا مُناديا يُنادِي للإِيمَانِ } قال : ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول محمد بن كعب ، وهو أن يكون المنادي القرآن¹ لأن كثيرا ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الاَيات ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عاينه ، فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه ، ولكنه القرآن . وهو نظير قوله جلّ ثناؤه مخبرا عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا : { إنّا سَمِعْنا قُرْآنا عَجَبَا يَهْدِي إلى الرّشْدِ } . وبنحو ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { رَبّنا إنّنَا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإِيَمانِ } إلى قوله : { وَتَوَفّنا مَعَ الأبْرَارِ } سمعوا دعوة من الله فأجابوها ، فأحسنوا الإجابة فيها ، وصبروا عليها ، بنبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال ، وعن مؤمن الجنّ كيف قال . فأما مؤمن الجنّ ، فقال : { إنّا سَمِعْنا قُرْآنا عَجَبا يَهْدِي إلى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبّنا أحَدا }¹ وأما مؤمن الإنس ، فقال : { إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإِيمَانِ أنْ آمِنُوا بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا } . . . الاَية .
وقيل : { إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإيمَان } يعني : ينادي إلى الإيمان ، كما قال تعالى ذكره : { الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا } بمعنى : هدانا إلى هذا ، وكما قال الراجز .
أوْحَى لها القَرَارَ فاسْتَقَرّتِ *** وَشَدّها بالرّاسياتِ الثّبّتِ
بمعنى : أوحى إليها ، ومنه قوله : { بِأنّ رَبّكَ أوْحَى لَهَا } .
وقيل : يحتمل أن يكون معناه : إننا سمعنا مناديا للإيمان ينادي أن آمنوا بربكم .
فتأويل الاَية إذا : ربنا سمعنا داعيا يدعو إلى الإيمان يقول إلى التصديق بك ، والإقرار بوحدانيتك ، واتباع رسولك وطاعته ، فيما أمرنا به ، ونهانا عنه ، مما جاء به من عندك فآمنا ربنا ، يقول : فصدقنا بذلك يا ربنا ، فاغفر لنا ذنوبنا ، يقول : فاستر علينا خطايانا ، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهاد ، بعقوبتك إيانا عليها ، ولكن كفرها عنا ، وسيئات أعمالنا فامحها بفضلك ورحمتك إيانا ، وتَوفنا مع الأبرار ، يعني بذلك : واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك في عداد الأبرار ، واحشرنا محشرهم ومعهم¹ والأبرار جمع برّ ، وهم الذين بروا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه وخدمتهم له ، حتى أرضوه فرضي عنهم .
قوله تعالى : { ربنا إننا سمعنا منادياً } أرادوا به النبي محمداً صلى الله عليه وسلم والمنادي ، الذي يرفع صوته بالكلام . والنداء : رفع الصوت بالكلام رفعاً قوياً لأجل الإسماع وهو مشتقّ من النداء بكسر النون وبضمّها وهو الصوت المرتفع . يقال : هو أندى صوتاً أي أرفعُ ، فأصل النداء الجهر بالصوت والصياح به ، ومنه سمّي دعاء الشخص شخصاً ليقبل إليه نداء ، لأنّ من شأنه أن يرفع الصوت به ؛ ولذلك جعلوا له حروفاً ممدودة مثل ( يا ) و ( آ ) و ( أيا ) و ( هيا ) . ومنه سمّي الأذان نداء ، وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت ، ويطلق النداء على طلب الإقبال بالذات أو بالفَهم بحروف معلومة كقوله تعالى : { وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } [ فصلت : 104 ، 105 ] ويجوز أن يكون هو المراد هنا لأنّ النبي يدعو الناس بنحو : يأيّها الناس ويا بَني فلان ويا أمّة محمد ونحو ذلك ، وسيأتي تفسير معاني النداء عند قوله تعالى : { ونودوا أن تلكم الجنة } في سورة [ الأعراف : 43 ] . واللام لام العلّة ، أي لأجل الإيمان بالله .
و ( أن ) في { أن آمنوا } تفسيرية لما في فعل ( يُنادي ) من معنى القول دون حروفه .
وجاءوا بفاء التعقيب في ( فآمنّا ) : للدلالة على المبادرة والسبق إلى الإيمان ، وذلك دليل سلامة فطرتهم من الخطأ والمكابرة ، وقد توسّموا أن تكون مُبادرتهم لإجابة دعوة الإسلام مشكورة عند الله تعالى ، فلذلك فرّعوا عليه قولهم : { فاغفر لنا ذنوبنا } لأنّهم لمّا بذلوا كلّ ما في وسعهم من اتّباع الدين كانوا حقيقين بترجّي المغفرة .
والغَفْر والتكفير متقاربان في المادة المشتقيْن منها إلاّ أنّه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب والتكفير في تعويض الذنب بعوض ، فكأنّ العوض كفّر الذنب أي ستره ، ومنه سمّيت كفّارة الإفطار في رمضان . وكفّارة الحنث في اليمين إلاّ أنهم أرادوا بالذنوب ما كان قاصراً على ذواتهم ، ولذلك طلبوا مغفرته ، وأرادوا من السيّئات ما كان فيه حقّ الناس ، فلذلك سألوا تكفيرها عنهم .
وقيل هو مجرّد تأكيد ، وهو حسن ، وقيل أرادوا من الذنوب الكبائر ومن السيّئات الصغائر لأنّ اجتناب الكبائر يكفّر الصغائر ، بناء على أنّ الذنب أدلّ على الإثم من السيئة .
وسألوا الوفاة مع الأبرار ، أي أن يموتوا على حالة البِرّ ، بأن يلازمهم البرّ إلى الممات وأن لا يرتدّوا على أدبارهم ، فإذا ماتوا كذلك ماتوا من جملة الأبرار . فالمعية هنا معية اعتبارية ، وهي المشاركة في الحالة الكاملة ، والمعية مع الأبرار أبلغ في الاتّصاف بالدلالة ، لأنّه برّ يرجى دوامه وتزايدُه لِكون صاحبه ضمن جمع يزيدونه إقبالاً على البرّ بلسان المقال ولسان الحال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.