تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

ثم ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ } . دل هذا على كمال عزمه وحزمه وحسن تنظيمه لجنوده وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار ، حتى إنه لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور والنظر : هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء ؟ وهذا هو المعنى للآية . ولم يصنع شيئا من قال : إنه تفقد الطير لينظر أين الهدهد منها{[593]} ليدله على بعد الماء وقربه ، كما زعموا عن الهدهد أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة ، فإن هذا القول لا يدل عليه دليل بل الدليل العقلي واللفظي دال على بطلانه ، أما العقلي فإنه قد عرف بالعادة والتجارب والمشاهدات أن هذه الحيوانات كلها ، ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة ، ينظر الماء تحت الأرض الكثيفة ، ولو كان كذلك لذكره الله لأنه من أكبر الآيات .

وأما الدليل اللفظي فلو أريد هذا المعنى لقال : " وطلب الهدهد لينظر له الماء فلما فقده قال ما قال " أو " فتش عن الهدهد " أو : " بحث عنه " ونحو ذلك من العبارات ، وإنما تفقد الطير لينظر الحاضر منها والغائب ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها . وأيضا فإن سليمان عليه السلام لا يحتاج ولا يضطر إلى الماء بحيث يحتاج لهندسة الهدهد ، فإن عنده من الشياطين والعفاريت ما يحفرون له الماء ، ولو بلغ في العمق ما بلغ . وسخر الله له الريح غدوها شهر ورواحها شهر ، فكيف -مع ذلك- يحتاج إلى الهدهد ؟ "

وهذه التفاسير التي توجد وتشتهر بها أقوال لا يعرف غيرها ، تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل مجردة ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة وتطبيقها على الأقوال ، ثم لا تزال تتناقل وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم حتى يظن أنها الحق ، فيقع من الأقوال الردية في التفاسير ما يقع ، واللبيب الفطن يعرف أن هذا القرآن الكريم العربي المبين الذي خاطب الله به الخلق كلهم عالمهم وجاهلهم وأمرهم بالتفكر في معانيه ، وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني التي لا تجهلها العرب العرباء ، وإذا وجد أقوالا منقولة عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها إلى هذا الأصل ، فإن وافقته قبلها لكون اللفظ دالا عليها ، وإن خالفته لفظا ومعنى أو لفظا أو معنى ردها وجزم ببطلانها ، لأن عنده أصلا معلوما مناقضا لها وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته .

والشاهد أن تفقد سليمان عليه السلام للطير ، وفقده الهدهد يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه وكمال فطنته حتى فقد هذا الطائر الصغير { فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } أي : هل عدم رؤيتي إياه لقلة فطنتي به لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة ؟ أم على بابها بأن كان غائبا من غير إذني ولا أمري ؟ .

[ ص 604 ]


[593]:- في ب: منه.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ * لاُعَذّبَنّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأذْبَحَنّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ } .

يقول تعالى ذكره : وَتَفَقّدَ سليمان الطيْرَ فَقالَ ماليَ لا أرَى الهُدْهُدَ . وكان سبب تفقده الطير وسؤاله عن الهدهد خاصة من بين الطير ، ما :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران عن أبي مُجَلّز ، قال : جلس ابن عباس إلى عبد الله بن سلام ، فسأله عن الهدهد : لم تفقّده سليمان من بين الطير0فقال عبد الله بن سلام : إن سليمان نزل منزلة في مسير له ، فلم يدر ما بُعْدَ الماء ، فقال : من يعلم بُعْدَ الماء ؟ قالوا : الهدهد ، فذاك حين تفقده .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن أبي مجلّز ، عن ابن عباس وعبد الله ابن سلام بنحوه .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان بن داود يوضع له ستّ مئة كرسي ، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ، ثم تجيء أشراف الجنّ فيجلسون مما يلي الإنس ، قال : ثم يدعو الطير فتظلهم ، ثم يدعو الريح فتحملهم ، قال : فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر ، قال : فبينا هو في مسيره إذا احتاج إلى الماء وهو في فلاة من الأرض ، قال : فدعا الهدهد ، فجاءه فنقر الأرض ، فيصيب موضع الماء ، قال : ثم تجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب ، قال : ثم يستخرجون الماء . فقال له نافع بن الأزرق : قف يا وقاف أرأيت قولك الهدهد يجيء فينقر الأرض ، فيصيب الماء ، كيف يبصر هذا ، ولا يبصر الفخّ يجيء حتى يقع في عنقه ؟ قال : فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كان سليمان بن داود إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس على سريره ، حتى إذا كان ذات غداة في بعض زمانه غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه ، فتفقد الطير . وكان فيما يزعمون يأتيه نوبا من كل صنف من الطير طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها قد حضره إلا الهدهد ، فقال : مالي لا أرى الهدهد

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أوّل ما فقد سليمان الهدهد نزل بواد فسأل الإنس عن مائه ، فقالوا : ما نعلم له ماء ، فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالجنّ ، فدعا الجنّ فسألهم ، فقالوا : ما نعلم له ماء وإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالطير ، فدعا الطير فسألهم ، فقالو : ما نعلم له ماء ، وإن يكن أحد من جنودك يعلمه فالهدهد ، فلم يجده ، قال : فلذاك أوّل ما فقد الهدهد .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقالَ ماليَ لا أرَى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ قال : تفقد الهدهد من أجل أنه كان يدله على الماء إذا ركب ، وإن سليمان ركب ذات يوم فقال : أين الهدهد ليدلنا على الماء ؟ فلم يجده ، فمن أجل ذلك تفقده . فقال ابن عباس : إن الهدهد كان ينفعه الحذر ما لم يبلغه الأجل فلما بلغ الأجل لم ينفعه الحذر ، وحال القدر دون البصر .

فقد اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ووهب بن منبه ، فقال عبد الله : كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ليستخبره عن بُعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره . وقال وهب بن منبه : كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها والله أعلم بأيّ ذلك كان إذ لم يأتنا بأيّ ذلك كان تنزيل ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح .

فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير ، إما للنوبة التي كانت عليها وأخلت بها ، وإما لحاجة كانت إليها عن بُعد الماء .

وقوله : فَقالَ مالِيَ لا أرَى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ يعني بقوله ماليَ لا أرَى الهُدْهُدَ أخطأه بصرى فلا أراه وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق فلم يحضر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه مالِيَ لا أرَى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغَائِبِينَ أخطأه بصري في الطير ، أم غاب فلم يحضر ؟

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

اختلف الناس في معنى «تفقده الطير » ، فقالت فرقة ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والتهمم بكل جزء منها .

قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير ، وقالت فرقة : بل «تفقد الطير » لأن الشمس دخلت من موضع { الهدهد } حين غاب ، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليبين من أين دخلت الشمس ، وقال عبد الله بن سلام إنما طلب { الهدهد } لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كَم هو من وجه الأرض ، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء ، وأن { الهدهد } كان يرى باطن الأرض وظاهرها كانت تشف له وكان يخبر سليمان بموضع الماء ، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ شاة قاله ابن عباس فيما روي عن أبي سلام وغيره ، وقال في كتاب النقاش كان { الهدهد } مهندساً ، وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يقول هذا فقال له : قف يا وقاف كيف يرى { الهدهد } باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه . فقال له ابن عباس رضي الله عنه : إذا جاء القدر عمي البصر . وقال وهب بن منبه : كانت الطير تنتاب{[9005]} سليمان كل يوم من كل نوع واحد نوبة معهودة ففقد { الهدهد } ، وقوله { ما لي لا أرى } إنما مقصد الكلام { الهدهد } غاب لكنه أخذ اللام عن مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله { ما لي } ، ناب مناب الألف التي تحتاجها أم{[9006]} .


[9005]:أي: تقصده مرة بعد أخرى، يقال: انتاب صديقه: قصده مرة بعد أخرى، وفلان ينتابها، والسباع تنتاب المنهل، (المعجم الوسيط).
[9006]:معنى هذا أن [أم] متصلة، وأن الاستفهام الذي في [مالي] ناب مناب ألف الاستفهام، ويكون المعنى عند ابن عطية: "أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد أم كان ممن غاب من قبل ولم أشعر بغيبته؟".