{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } وأنت أرحم بهم من أنفسهم وأعلم بأحوالهم ، فلولا أنهم عباد متمردون لم تعذبهم . { وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة ، لا كمن يغفر ويعفو عن عجز وعدم قدرة .
الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . .
يقول تعالى ذكره : إن تعذّب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بإماتتك إياهم عليها ، فإنهم عبادك ، مستسلمون لك ، لا يمتنعون مما أردت بهم ولا يدفعون عن أنفسهم ضرّا ولا أمرا تنالهم به . وإن تغفر لهم بهدايتك إياهم إلى التوبة منها فتستر عليهم ، فإنك أنت العزيز في انتقامه ممن أراد الانتقام منه لا يقدر أحد يدفعه عنه ، الحكيم في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة وتوفيقه من وفق منهم لسبيل النجاة من العقاب . كالذي :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : " إنْ تُعَذّبْهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ " فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام ، " فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " وهذا قول عيسى في الدنيا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " إنْ تُعَذّبْهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " قال : والله ما كانوا طعّانين ولا لعّانين .
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك } أي إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه ، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك . { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب ، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم ، فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل . وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد .
هذه الآية— على من قال :«إن توقيف عيسى عليه السلام كان إثر رفعه » مستقيمة المعنى ، لأنه قال عنهم هذه المقالة وهم أحياء في الدنيا وهو لا يدري على ما يوافون . وهي— على قول من قال :«إالتوقيف هو يوم القيامة »—بمعنى :إن سبقت لهم كلمة العذاب كما سبقت فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت لا اعتراض عليك ، { وإن تغفر لهم } بتوبة كما غفرت لغيرهم فإنك أنت العزيز في قدرتك ، الحكيم في أفعالك . لا تعارض على حال . فكأنه قال إن يكن لك في الناس معذبون فهم عبادك . وإن يكن مغفور لهم فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله .
وهذا هو عندي القول الأرجح{[4806]} . ويتقوى ما بعده .
وذلك أن عيسى عليه السلام لما قرر أن الله تعالى له أن يفعل في عباده ما يشاء من تعذيب ومغفرة أظهر الله لعباده ما كانت الأنبياء تخبرهم به ، كأنه يقول هذا أمر قد فرغ منه . وقد خلص للرحمة من خلص ، وللعذاب من خلص .
فقال تبارك وتعالى { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله تعالى وكل ما كان{[4806]} أتقى فهو أدخل في العبارة ، ثم جاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى في حاله تلك وصدقه فيما قال . فحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم وإن كان اللفظ يعمه وسواه ، وذكر تعالى ما أعد لهم برحمته وطوله إلى قوله { ذلك الفوز العظيم } .
وقرأ نافع وحده «هذا يومَ » بنصب يوم ، وقرأ الباقون «يومُ » بالرفع على خبر المبتدأ الذي هو { هذا } و { يوم } مضاف إلى { ينفع } ، والمبتدأ والخبر في موضع نصب بأنه مفعول القول . إذ القول يعمل في الجمل ، وأما قراءة نافع فتحتمل وجهين : أحدهما أن يكون «يوم » ظرفاً للقول كأن التقدير قال الله هذا القصص أو الخبر يوم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي معنى يزيل رصف الآية وبهاء اللفظ ، والمعنى الثاني أن يكون ما بعد قال حكاية عما قبلها ومن قوله لعيسى إشارة إليه ، وخبر { هذا } محذوف إيجازاً ، كأن التقدير قال الله : هذا المقتص يقع أو يحدث يوم ينفع الصادقين .
قال القاضي أبو محمد : والخطاب على هذا لمحمد عليه السلام وأمته ، وهذا أشبه من الذي قبله ، والبارع المتوجه قراءة الجماعة ، قال أبو علي ، ولا يجوز أن تكون «يوم » في موضع رفع على قراءة نافع لأن هذا الفعل الذي أضيف إليه معرب ، وإنما يكتسي البناء من المضاف إليه إذا كان المضاف إليه مبنياً نحو من عذاب يومئذ{[2]} ، ولا يشبه قول الشاعر{[3]} :
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع ؟{[4]}
لأن الماضي الذي في البيت مبني والمضارع الذي في الآية معرب وقرأ الحسن بن العباس الشامي : «هذا يومٌ » بالرفع والتنوين .
قوله : { إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم } فوّض أمرهم إلى الله فهو أعلم بما يجازيهم به لأنّ المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدّة هول ذلك اليوم ، وغاية ما عرّض به عيسى أنه جوّز المغفرة لهم رحمة منه بهم .
وقوله : { فإنّك أنت العزيز الحكيم } ذكر العزيز كناية عن كونه يغفر عن مقدرة ، وذكر الحكيم لمناسبته للتفويض ، أي المحكِم للأمور العالم بما يليق بهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.