{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ } الكلام الخفي { وَأَخْفَى } من السر ، الذي في القلب ، ولم ينطق به . أو السر : ما خطر على القلب . { وأخفى } ما لم يخطر . يعلم تعالى أنه يخطر في وقته ، وعلى صفته ، المعنى : أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء ، دقيقها ، وجليلها ، خفيها ، وظاهرها ، فسواء جهرت بقولك أو أسررته ، فالكل سواء ، بالنسبة لعلمه تعالى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنّهُ يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى * اللّهُ لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن تجهر يا محمد بالقول ، أو تخف به ، فسواء عند ربك الذي له ما في السموات وما في الأرض فإنّهُ يَعْلَمُ السّرّ يقول : فإنه لا يخفى عليه ما استسررته في نفسك ، فلم تبده بجوارحك ولم تتكلم بلسانك ، ولم تنطق به وأخفى .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله وأخْفَى فقال بعضهم : معناه : وأخفى من السرّ ، قال : والذي هو أخفى من السرّ ما حدّث به المرء نفسه ولم يعمله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : السرّ : ما عملته أنت وأخفى : ما قذف الله في قلبك مما لم تعمله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " يعني بأخفى : ما لم يعمله ، وهو عامله وأما السرّ : فيعني ما أسرّ في نفسه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله " يَعْلَمُ السّر وأخْفَى " قال : السرّ : ما أسرّ ابن آدم في نفسه . وأخفى : قال : ما أخفى ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله ، فالله يعلم ذلك ، فعلمه فيما مضى من ذلك ، وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة ، وهو قوله : " ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ " .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : السرّ : ما أسرّ الإنسان في نفسه وأخفى : ما لا يعلم الإنسان مما هو كائن .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : أخفى : الوسوسة . زاد ابن عمرو والحارث في حديثيهما : والسرّ : العمل الذي يسرّون من الناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وأخْفَى قال : الوسوسة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : أخفى حديث نفسك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : حدثنا أبو كُدَينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : السرّ : ما يكون في نفسك اليوم . وأخفى : ما يكون في غد وبعد غد ، لا يعلمه إلاّ الله .
وقال آخرون : بل معناه : وأخفى من السرّ ما لم تحدّث به نفسك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : السرّ : ما أسررت في نفسك وأخفى من ذلك : ما لم تحدّث به نفسك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة " وَإنْ تَجْهَرْ بالقَوْلِ فإنّهُ يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " كنا نحدث أن السرّ ما حدّثت به نفسك ، وأن أخفى من السرّ : ما هو كائن مما لم تحدّث به نفسك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا أبو قتادة ، قوله في " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : يعلم ما أسررت في نفسك ، وأخفى : ما لم يكن وهو كائن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : أخفى من السرّ : ما حدّثت به نفسك ، وما لم تحدث به نفسك أيضا مما هو كائن .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " أما السرّ : فما أسررت في نفسك . وأما أخفى من السرّ : فما لم تعمله وأنت عامله ، يعلم الله ذلك كله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه يعلم سرّ العباد ، وأخفى سرّ نفسه ، فلم يطلع عليه أحدا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : يعلم أسرار العباد ، وأخفى سرّه فلا يعلم .
قال أبو جعفر : وكأن الذين وجّهوا ذلك إلى أن السرّ هو ما حدّث به الإنسان غيره سرّا ، وأن أخفى : معناه : ما حدّث به نفسه ، وجهوا تأويل أخفى إلى الخفيّ . وقال بعضهم : قد توضع أفعل موضع الفاعل ، واستشهدوا لقيلهم ذلك بقول الشاعر :
تَمَنّى رِجالٌ أنْ أمُوتَ وَإنْ أمُتْ *** فتلكَ طَرِيقٌ لَسْتُ فِيها بأوْحَدِ
والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : معناه : يعلم السرّ وأخفى من السرّ ، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام ولو كان معنى ذلك ما تأوّله ابن زيد ، لكان الكلام : وأخفى الله سرّه ، لأن أخفى : فعل واقع متعدّ ، إذ كان بمعنى فعل على ما تأوّله ابن زيد ، وفي انفراد أخفى من مفعوله ، والذي يعمل فيه لو كان بمعنى فعل الدليل الواضح على أنه بمعنى أفعل ، وأن تأويل الكلام : فإنه يعلم السرّ وأخفى منه . فإذ كان ذلك تأويله ، فالصواب من القول في معنى أخفى من السرّ أن يقال : هو ما علم الله مما أخفى عن العباد ، ولم يعلموه مما هو كائن ولما يكن ، لأن ما ظهر وكان فغير سرّ ، وأن ما لم يكن وهو غير كائن فلا شيء ، وأن ما لم يكن وهو كائن فهو أخفى من السرّ ، لأن ذلك لا يعلمه إلاّ الله ، ثم من أعلمه ذلك من عباده .
ولما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على سواء فقال : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } أي وإن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى منه ، وهو ضمير النفس . وفيه تنبيه على أن شرع الذكر والدعاء والجهر فيهما ليس لإعلام الله بل لتصوير النفس بالذكر ورسوخه فيها ومنعها عن الاشتغال بغيره وهضمها بالتضرع والجؤار .
وقوله { وإن تجهر بالقول } معناه وإن كنتم أيها الناس إذ أردتم إعلام أحد بأمر أو مخاطبة أوثانكم وغيرها فأنتم تجهرون بالقول فإن الله الذي هذه صفاته { يعلم السر وأخفى } فالمخاطبة ب { تجهر } لمحمد عليه السلام وهي مراد جميع الناس إذ هي آية اعتبار ، واختلف الناس في ترتيب { السر } وما هو { أخفى } منه ، فقالت فرقة { السر } هو الكلام الخفي كقراءة السر في الصلاة ، و «الأخفى » هو ما في النفس ، وقالت فرقة وهو ما في النفس متحصلاً ، و «الأخفى » هو ما سيكون فيها في المستأنف ، وقالت فرقة { السر } هو ما في نفوس البشر ، وكل ما يمكن أن يكون فيها في المستأنف بحسب الممكنات من معلومات البشر ، و «الأخفى » هو ما من معلومات الله لا يمكن أن يعلمه البشر البتة ع : فهذا كله معلوم لله عز وجل .
وقد تؤول على بعض السلف أنه جعل { أخفى } فعلاَ ماضياً وهذا ضعيف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.