وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أي : سكن غضبه ، وتراجعت نفسه ، وعرف ما هو فيه ، اشتغل بأهم الأشياء عنده ، ف أَخَذَ الألْوَاحَ التي ألقاها ، وهي ألواح عظيمة المقدار ، جليلة وَفِي نُسْخَتِهَا أي : مشتملة ومتضمنة هُدًى وَرَحْمَةٌ أي : فيها الهدى من الضلالة ، وبيان الحق من الباطل ، وأعمال الخير وأعمال الشر ، والهدى لأحسن الأعمال ، والأخلاق ، والآداب ، ورحمة وسعادة لمن عمل بها ، وعلم أحكامها ومعانيها ، ولكن ليس كل أحد يقبل هدى اللّه ورحمته ، وإنما يقبل ذلك وينقاد له ، ويتلقاه بالقبول الذين [ هم ]{[330]} لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي : يخافون منه ويخشونه ، وأما من لم يخف اللّه ولا المقام بين يديه ، فإنه لا يزداد بها إلا عتوا ونفورا وتقوم عليه حجة اللّه فيها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَماّ سَكَتَ عَن مّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ ولما كفّ موسى عن الغضب ، وكذلك كلّ كافَ عن شيء ساكت عنه . وإنما قيل للساكت عن الكلام ساكت : لكفه عنه . وقد ذكر عن يونس النحويّ أنه قال : يقال سكت عنه الحزن وكلّ شيء فيما زعم ومنه قول أبي النجم :
وَهمّتِ الأفْعَى بِأنْ تَسِيحَا ***وَسَكَتَ المُكّاءُ أنْ يَصِيحَا
أخَذَا الأَلْوَاحَ يقول : أخذها بعد ما ألقاها ، وقد ذهب منها ما ذهب . وفِي نُسْخَتِها هُدًى وَرَحْمَةٌ يقول : وفيما نسخ فيها : أي منها هدى بيان للحقّ ورحمة . للّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ يقول : للذين يخافون الله ، ويخشون عقابه على معاصيه .
واختلف أهل العربية في وجه دخول اللام في قوله : لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ مع استقباح العرب أن يقال في الكلام : رهبت لك : بمعنى رهبتك ، وأكرمت لك : بمعنى أكرمتك ، فقال بعضهم : ذلك كما قال جلّ ثناؤه : إنْ كُنْتُمْ للرّؤْيا تَعْبُرُونَ أوصل الفعل باللام . وقال بعضهم : من أجل ربهم يرهبون . وقال بعضهم : إنما دخلت عقب الإضافة الذين هم راهبون لربهم وراهبو ربهم ثم أدخلت اللام على هذا المعنى لأنها عقيب الإضافة لا على التعليق . وقال بعضهم : إنما فعل ذلك لأن الاسم تقدّم الفعل ، فحسن إدخال اللام . وقال آخرون : قد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله : رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الّذِي تَسْتَعْجِلُونَ . وذكر عن عيسى بن عمر أنه قال : سمعت الفرزدق يقول : نقدت له مائة درهم ، يريد نقدته مائة درهم . قال : والكلام واسع .
{ ولما سكت } سكن وقد وقرئ به . { عن موسى الغضب } باعتذار هارون ، أو بتوبتهم وفي هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالأمر به والمغري عليه حتى عبر عن سكونه بالسكوت . وقرئ { سكت } و " أسكت " على أن المسكت هو الله أو أخوه أو الذين تابوا . { أخذ الألواح } التي ألقاها . { وفي نسختها } وفيما نسخ فيها أي كتب ، فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل فيما نسخ منها من الألواح المنكسرة . { هدى } بيان للحق . { ورحمة } إرشاد إلى الصلاح والخير . { للذين هم لربهم يرهبون } دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير ، أو حذف المفعول واللام للتعليل والتقدير يرهبون معاصي الله لربهم .
معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام لما سكن غضبه أخذ الألواح التي كان ألقى ، وقد تقدم ما روي أنه رفع أكثرها أو ذهب في التكسير ، وقوله : { سكت } لفظة مستعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته ، قال يونس بن حبيب : تقول العرب سال الوادي يومين ثم سكت ، وقال الزجاج وغيره : مصدر قولك سَكَتَ الغضب ، سكْت ، ومصدر قولك سكت الرجل سكوت ، وهذا يقتضي أنه فعل على حدة وليس من سكوت الناس ، وقيل إن في المعنى قلباً ، والمراد ولما سكت موسى عن الغضب فهو من باب أدخلت فمي في الحجر وأدخلت القلنسوة في رأسي ، وفي هذا أيضاً استعارة ، إذ الغضب ليس يتكلم فيوصف بالسكوت ، وقرأ معاوية بن قرة : «ولما سكن » ، وفي مصحف حفصة «ولما سكت » ، وفي مصحف ابن مسعود «ولما صبر عن موسى الغضب » ، قال النقاش : وفي مصحف أبيّ : «ولما اشتق عن موسى الغضب » ، وقوله : { وفي نسختها } معناه وفيما ينسخ منها ويقرأ ، واللام في قوله { لربهم } يحتمل وجوهاً ، مذهب المبرد أنها تتعلق بمصدر كأنه قال الذين رهبتهم لربهم ، ويحتمل أنه لما تقدم المفعول ضعف الفعل فقوي على التعدي باللام ، ويحتمل أن يكون المعنى : هم لأجل طاعة ربهم وخوف ربهم يرهبون العقاب والوعيد ونحو هذا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.