فكما أنه تعالى يمن{[808]} عليهم ، بالخلق والرزق ، والنعم الظاهرة والباطنة ، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام ، ومنته عليهم بالإيمان ، أعظم{[809]} من كل شيء ، ولهذا قال تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يمنّ عليك هؤلاء الأعراب يا محمد أن أسلموا قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ يقول : بل الله يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول : إن كنتم صادقين في قولكم آمنا ، فإن الله هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له ، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم .
وذُكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد ، امتنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : آمنا من غير قتال ، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا ، فأنزل الله فيهم هذه الاَيات : ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير في هذه الاَية يَمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أْسْلَمُوا أهم بنو أسد ؟ قال : قد قيل ذلك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال : قلت لسعيد بن جُبَير يمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا أهم بنو أسد ؟ قال : يزعمون ذاك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، قال : كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد ، أو بشر بن عطارد ، ولبيد بن غالب عند الحجاج جالسين ، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد : نزلت في قومك بني تميم إنّ الّذِينَ يُنادُنَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ فذكرت ذلك لسعيد بن جُبير ، فقال : إنه لو علم بآخر الاَية أجابه يَمُنّونَ عَلْيَكَ أنْ أسْلَمُوا قالوا أسلمنا ولم نقاتلك بنو أسد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لا تَمُنّوا أنا أسلمنا بغير قتال لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قُلْ لهم لا تَمُنّوا عَليّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلامَكُمْ قال : فهذه الاَيات نزلت في الأعراب .
{ يمنون عليك أن أسلموا } يعدون إسلامهم عليك منة وهي النعمة التي لا يستثيب موليها ممن بذلها إليه ، من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته . وقيل النعمة الثقيلة من المن . { قل لا تمنوا علي إسلامكم } أي بإسلامكم ، فنصب بنزع الخافض أو تضمين الفعل معنى الاعتدال . { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء ، وقرئ " إن هداكم " بالكسر و " إذ هداكم " . { إن كنتم صادقين } في ادعاء الإيمان ، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فالله المنة عليكم ، وفي سياق الآية لطف وهو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيمانا ومنوا به فنفى أنه إيمان وسماه إسلاما بأن قال يمنون عليكم بما هو في الحقيقة إسلام وليس بجدير أن يمن به عليك ، بل لو صح ادعاؤهم للإيمان فالله المنة عليهم بالهداية له لا لهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يمنون عليك أن أسلموا} نزلت في أناس من الأعراب بني أسد بن خزيمة، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: جئناك وأتيناك بأهلنا طائعين عفوا على غير قتال، وتركنا الأموال والعشائر وكل قبيلة في العرب قاتلوك حتى أسلموا، فلنا عليك حق، فاعرف لنا ذلك، فنزلت: {يمنون عليك} يا محمد {أن أسلموا}. {قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} في إيمانكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يمنّ عليك هؤلاء الأعراب يا محمد أن أسلموا،" قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ "يقول: بل الله يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله، "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" يقول: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا، فإن الله هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} وهذا صحيح لأنه إن كان إسلامهم حقاً فهو لخلاص أنفسهم فلا مِنَّةَ فيه لهم، وإن كان نفاقاً فهو للدفع عنهم، فالمنة فيه عليهم. ثم قال: {بلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله أحق أن يمن عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم. وتكون المنة هي التحمد بالنعمة.
الثاني: أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم، وتكون المنة هي النعمة. وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى. {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني فيما قلتم من الإيمان...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المِنَّةُ لله؛ فهو وليُّ النعمة. ولا تكون المنةُ منةً إلا إذا كان العبدُ صادقاً في حاله، فأمَّا إذا كان معلولاً في صفة من صفاته فهي محنةٌ لصاحبها لا مِنَّة. والمِنَّةُ تُكَدّرُ الصنيعَ إذا كانت من المخلوقين، ولكن بالمِنَّةِ تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يقال: منّ عليه بيد: أسداها إليه...
وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة، وذلك أنّ الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاماً، ونفى أن يكون كما زعموا إيماناً؛ فلما منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم قال الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: إنّ هؤلاء يعتدّون عليك بما ليس جديراً بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام. فقل لهم: لا تعتدّوا على إسلامكم، أي حدثكم المسمى إسلاماً عندي لا إيماناً. ثم قال: بل الله يعتد عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الإيمان غير مضاف: ما لا يخفى على المتأمل، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، تقديره: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان، فللَّه المنة عليكم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يمنون عليك} أي يذكرون ذكر من اصطنع عندك- صنيعة وأسدى إليك نعمة، إنما فعلها لحاجتك إليها لا لقصد الثواب عليها، لأن المن هو القطع... ولما كان الإسلام ظاهراً في الدين الذي هو الانقياد بالظاهر مع إذعان الباطن- لم يعبر به، وقال: {أن أسلموا} أي أوقعوا الانقياد للأحكام في الظاهر. ولما كان المن هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء، قال: {قل} أي في جواب قولهم هذا: {لا تمنوا} معبراً بما من المن إشارة إلى أن الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله، فلا ينبغي عده صنيعة على أحد، فإن ذلك يفسده {عليّ إسلامكم} لو فرض أنكم كنتم مسلمين أي متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع إذعان الباطن، أي- لا تذكروه على وجه الامتنان أصلاً، فالفعل وهو {تمنوا} مضمن "تذكروا " نفسه لا معناه كما تقدم في- {ولتكبروا الله على ما هداكم} {بل الله} أي الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه {يمن عليكم} أي يذكر أنه أسدى إليكم نعمه ظاهرة وباطنة منها ما هو {أن} أي بأن {هداكم للإيمان} أي بينة لكم أو وفقكم للاهتداء وهو تصديق الباطن مع الانقياد بالظاهر، والتعبير عن هذا بالمن أحق مواضعه، فإنه سبحانه غير محتاج إلى عمل فإنه لا نفع يلحقه ولا ضر، وإنما طلب الأعمال لنفع العاملين أنفسهم...
{إن كنتم} أي كوناً أنتم عريقون فيه {صادقين} في ادعائكم ذلك، فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة، فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وكشفت الآيات الكريمة الستار عن طبيعة الموقف الساذج الذي وقفه أولئك الأعراب، والذي دعا إلى تأديبهم وتهذيبهم حتى لا يعودوا لمثله، فقال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم}، ثم يتجه إليهم خطاب الله على سبيل التنزل، بأنهم على فرض أنهم صادقون في الجمع بين الإسلام والإيمان، فإن المنة في إسلامهم وإيمانهم إنما هي لله ورسوله، إذ هو الذي هداهم إلى طريق الإيمان أولا وأخيرا، وذلك قوله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} في محاولةٍ للإيحاء بأن الرسالة شأن خاص متعلق بذات الرسول، ما يجعل من الانتماء إلى الإسلام، انتماءً إليه، وتقويةً له، الأمر الذي يجعل المنتمي يمنّ على الرسول باعتبار أن ذلك يمثل خدمة شخصيةً له، كما هي حال الذهنية القبليّة التي ترى في الارتباط برئيس القبيلة معروفاً يقدّم إليه، ويُطلب العوض منه على أساسه. ولكن الله يرد على هذا المنطق ليعرِّفهم بأن الرسالة ليست مسألة خاصة بالرسول، لأن دوره فيها هو دور التبليغ في ساحته الرسولية، بل هي أن الإسلام دين الله الذي أنزله على عباده ليصلح أمرهم...